سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
فصل

واعلم أن حرمة النبي- صلى الله عليه وسلم- وتوقيره وتعظيمه بعد موته لازم كما كان في حياته ، وذلك عند ذكره- صلى الله عليه وسلم- وذكر حديثه وسنته ، وسماع اسمه وسيرته ومعاملة آله وعترته ، وتعظيم أهل بيته وصحابته- رضوان الله تعالى عليهم أجمعين- . [ ص: 395 ]

قال أبو إبراهيم التجيبي واجب على كل مسلم متى ذكره ، أو ذكر عنده أن يخضع ويخشع ، ويتوقر ويسكن من حركته ، ويأخذ في هيبته وإجلاله بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه ، ويتأدب بما أدبنا الله تعالى به .

وهذه كانت سيرة السلف الصالح في الأئمة الماضين .

وروى القاضي- بسند جيد- عن ابن حميد قال : ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ، فقال مالك : يا أمير المؤمنين ، لا ترفع صوتك في هذا المسجد ، فإن الله عز وجل أدب قوما فقال : لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي [الحجرات : 2] الآية .

ومدح قوما فقال : إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله [الحجرات : 3] الآية .

وذم قوما فقال : إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون [الحجرات : 4] وإن حرمته ميتا كحرمته حيا ، فاستكان لها أبو جعفر وقال : يا أبا عبد الله ، أأستقبل القبلة وأدعو ؟ أم أستقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ؟ فقال : ولم تصرف وجهك عنه ، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم- عليه السلام- إلى الله تعالى يوم القيامة ؟ بل استقبله واستشفع به ، فيشفعك الله ، قال الله تعالى : ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما .

وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى : كان أيوب السختياني إذا ذكر النبي- صلى الله عليه وسلم- بكى حتى أرحمه .

وقال مصعب بن عبد الله : كان مالك إذا ذكر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يتغير لونه ، وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه ، فقيل له يوما في ذلك فقال : لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون ، ولقد كنت أرى محمد بن المنكدر وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبدا إلا يبكي حتى نرحمه ، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد- وكان كثير الدعابة والتبسم- فإذا ذكر عنده النبي- صلى الله عليه وسلم- اصفر ، وما رأيته يحدث عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا على طهارة .

ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ، فننظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم ، وقد جف لسانه في فمه ، هيبة لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- .

ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير ، فإذا ذكر عنده رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع . [ ص: 396 ]

ولقد كنت آتي الزهري ، وكان من أهنأ الناس وأقربهم ، فإذا ذكر عنده رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فكأنه ما عرفك ولا عرفته .

ولقد كنت آتي صفوان بن سليم ، وكان من المتعبدين المتهجدين ، فإذا ذكر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بكى ، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركونه .

وكان ابن سيرين ربما يضحك ، فإذا ذكر عنده [حديث] رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خشع وتضرع .

وقال عمر بن ميمون : إن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه- حدث يوما ، فجرى على لسانه ، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فعلاه كرب حتى رأيت العرق ينحدر عن وجهه ، وغرغرت عيناه ، وانفتخت أوداجه ، ثم قال : هكذا إن شاء الله ، أو فوق ذا ، أو دون ذا ، أو قريبا من ذا .

وقال مصعب : كان مالك بن أنس لا يحدث حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا على وضوء ، إجلالا له .

والآثار في هذا كثيرة ، وقد تقدم كثير من ذلك في باب ما يجب على الأنام من حقوقه- عليه الصلاة والسلام- .

التالي السابق


الخدمات العلمية