سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الباب الخامس والعشرون في سبب نزول أول سورة «عبس»

روى الترمذي وحسنه وابن المنذر وابن حبان عن عائشة وعبد الرزاق وعبد بن حميد ، وأبو يعلى عن أنس وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس ، وسعيد بن منصور عن أبي مالك ، وابن سعد وابن المنذر عن الضحاك . وعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي رجلا من أشراف قريش فدعاه إلى الإسلام وهو يرجو أن يسلم .

قال ابن إسحاق : وهو الوليد بن المغيرة . وقال أنس وأبو مالك : أمية بن خلف
. وقالت عائشة ومجاهد : كان في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ناس من وجوه قريش منهم أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف فيقول لهم : أليس حسنا ما جئت به؟ فيقولون بلى والله . وفي رواية هل ترون بما أقول بأسا؟ فيقولون : لا .

فجاء ابن أم مكتوم الأعمى وهو مشتغل بهم فسأله ولم يدر أنه مشغول بذلك وجعل يستقرئه القرآن ويقول : يا رسول الله أرشدني علمني مما علمك الله . فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضجره . وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر أولئك النفر وما طمع فيه من إسلامهم ، فلما أكثر على رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف عن ابن أم مكتوم وتركه .

فعاتبه الله تعالى في ذلك فقال عبس النبي صلى الله عليه وسلم كلح وجهه وتولى أعرض لأجل أن جاءه الأعمى عبد الله ابن أم مكتوم
.

قال السهيلي : وفي ذكره إياه بالعمى من الحكمة والإشارة اللطيفة التنبيه على موضع العتب لأنه قال : أن جاءه الأعمى فذكر المجيء مع العمى ، وذلك كله ينبئ عن تجشم كلفة ومن تجشم القصد إليك على ضعفه فحقك الإقبال عليه لا الإعراض عنه .

وفائدة أخرى : وهي تعليق الحكم بهذه الصفة متى وجدت وجب ترك الإعراض ، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم معتوبا على توليه عن الأعمى فغيره أحق بالعتب .

وما يدريك يعلمك لعله أي الأعمى أو الكافر يزكى فيه إدغام التاء في الأصل في الزاي أو يذكر أي يتعظ فتنفعه الذكرى العظة المسموعة منك . وفي قراءة بنصب تنفعه جواب الترجي .

أما من استغنى بالمال . فأنت له تصدى . وفي قراءة بتشديد الصاد وبإدغام الثانية في الأصل فيها ، أي تقبل وتتعرض ، وما عليك ألا يزكى يؤمن وأما من جاءك يسعى حال من فاعل جاء ، وهو يخشى الله حال من فاعل يسعى وهو الأعمى . فأنت عنه تلهى فيه حذف التاء الأخرى في الأصل أي تتشاغل ، كلا لا تفعل مثل ذلك .

فلما نزلت هذه الآيات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فأكرمه ، واستخلفه على المدينة ثلاث عشرة [ ص: 424 ] مرة كما ذكره أبو عمر . ويأتي بيانها في ترجمته عند ذكر مؤذنيه صلى الله عليه وسلم ، وكان يقول له إذا جاءه : مرحبا بمن عاتبني فيه ربي! ويبسط له رداءه .

التالي السابق


الخدمات العلمية