سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
[ ص: 13 ] واستشكل كثير من الناس كون «ليلا» ظرفا للإسراء . ووجه الإشكال أنه قد تقدم أن الإسراء هو سير الليل ، فإذا أطلق الإسراء فهم أنه واقع ليلا ، فهو كالصبوح في شرب الصباح ، لا يحتاج إلى قوله : شربت الصبوح صباحا .

وجوابه أن الأمر وإن كان كذلك إلا أن العرب تفعل مثل ذلك في بعض الأوقات إذا أرادت تأكيد الأمور . والتأكيد نوع من أنواع كلامهم وأسلوب منه . والعرب تقول : أخذ بيده ، وقال بلسانه . وفي القرآن العزيز : ولا طائر يطير بجناحيه [الأنعام : 38] ، يقولون بأفواههم [آل عمران : 167] ، فخر عليهم السقف من فوقهم [النحل : 26] ، وقال جرير :


سرى نحوها ليلا كأن نجومه قناديل فيهن الذبال المفتل

الذبال : جمع ذبالة- بضم الذال المعجمة وهي الفتيلة .

الجوهري : «وإنما قال ليلا ، وإن كان السرى لا يكون إلا بالليل للتأكيد ، كقولهم :

سرت أمس نهارا والبارحة ليلا .

الزمخشري : [فإن قلت الإسراء لا يكون إلا بالليل فما معنى ذكر الليل؟ قلت] : أراد بقوله ليلا بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء وأنه وقع السرى في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة ، وذلك أن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية ، ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة «من الليل» أي بعض الليل كقوله تعالى : ومن الليل فتهجد به نافلة لك [الإسراء : 79] يعني الأمر بقيام الليل في بعض الليل .

قال أبو شامة : «وهذا الوجه لا بأس به ، وقد زاد شيخنا أبو الحسن- يعني السخاوي في تفسيره أيضا وتقريرا ، فقال : وإنما قال : «ليلا» ، والإسراء لا يكون إلا بالليل ، لأن المدة التي أسري به فيها لا تقطع في أقل من أربعين يوما ، فقطعت به في ليل واحد ، المعنى سبحان الذي أسرى بعبده في ليل واحد من كذا إلى كذا ، وهو موضع التعجب» . قال : «وإنما عدل عن ليلة إلى ليل ، لأنهم إذا قالوا : سرى ليلة ، كان ذلك في الغالب لاستيعاب الليلة ، فقيل : ليلا أي في ليل» .

وتعقب صاحب الفوائد كلام الزمخشري بكلام تعقبه فيه الطيبي ، ثم قال الطيبي : [ ص: 14 ] «ويمكن أن يراد بالتنكير التعظيم والتفخيم ، والمقام يقتضيه ، ألا ترى كيف افتتحت السورة بالكلمة المنبئة عنه؟ ثم وصف المسرى به بالعبودية ، ثم أردف تعظيم المكانين بالحرام وبالبركة لما حوله ، يعظم الزمان ثم يعظم الآيات بإضافتها إلى صيغة التعظيم ، وجمعها لتشمل جميع أنواع الآيات ، وكل ذلك شاهد صدق على ما نحن بصدده ، والمعنى ما أعظم شأن من أسري [به] ممن حقق له مقام العبودية ، وصحح له استنهاله للعناية السرمدية ليلا ، أي ليل له شأن جليل .

ابن المنير رحمه الله تعالى : «وإنما كان الإسراء ليلا لأنه وقت الخلوة والاختصاص عرفا ، ولأنه وقت الصلاة التي كانت مفروضة عليه في قوله تعالى : قم الليل إلا قليلا [المزمل : 2] وليكون أبلغ للمؤمن في الإيمان بالغيب ، وفتنة للكافر» .

ابن دحية رحمه الله : «كرم الله نبينا صلى الله عليه وسلم ليلا بأمور منها : انشقاق القمر ، وإيمان الجن به ، ورأى أصحابه نيرانهم ، كما في صحيح مسلم ، وخرج إلى الغار ليلا . والليل أصل ، ولهذا كان أول الشهور ، وسواده يجمع ضوء البصر ، ويحد كليل النظر ، ويستلذ فيه بالسمر . وكان أكثر أسفاره ليلا . وقال عليه الصلاة والسلام : «عليكم - بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل» .

والليل وقت الاجتهاد للعبادة . وكان صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تورمت قدماه . وكان قيام الليل في حقه واجبا ، فلما كانت عبادته ليلا أكرم بالإسراء [به] فيه ليكون أجر المصدق به أكثر ، ليدخل فيمن آمن بالغيب دون من عاينه نهارا ، وقدم الحق تبارك وتعالى الليل في كتابه على ذكر النهار ، فقال عز وجل : وجعلنا الليل والنهار آيتين [الإسراء : 12] ، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا [الفرقان : 62] إلى غير ذلك من الآيات» .

وصح أنه صلى الله عليه وسلم قال : «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ، يقول : من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، ومن يستغفرني فأغفر له» الحديث .

وهذه الخصيصة لم تجعل للنهار ، نبه بها صلى الله عليه وسلم لما في ذلك الوقت من الليل من سعة الرحمة ومضاعفة الأجر وتعجيل الإجابة ، ولإبطال كلام الفلاسفة أن الظلمة من شأنها الإهانة والشر ، لأن الله تعالى أكرم أقواما في الليل بأنواع الكرامات كقوله في قصة إبراهيم صلى الله عليه وسلم : فلما جن عليه الليل [الأنعام : 76] الآية . وفي لفظ بقوله : فأسر بأهلك بقطع من الليل [ ص: 15 ] [هود : 81] . وفي موسى : وواعدنا موسى ثلاثين ليلة [الأعراف : 142] وناجاه ليلا ، وأمره بإخراج أهله ليلا .

بعض أهل الإشارات : «لما محا الله آية الليل ، وجعلنا آية النهار مبصرة [الإسراء : 12] انكسر الليل ، فجبر بأن أسري فيه بمحمد صلى الله عليه وسلم » . انتهى .

أبو أمامة بن النقاش رحمه الله : «ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر في حق النبي صلى الله عليه وسلم ، وليلة القدر أفضل في حق الأمة ، لأنها لهم خير من عمل أكثر من ثمانين سنة ممن كان قبلهم .

وأما ليلة الإسراء فلم يأت في أرجحية العمل فيها حديث صحيح ولا ضعيف ، ولذلك لم يعينها النبي صلى الله عليه وسلم» .

ويؤخذ من قول الإمام البلقيني رحمه الله في قصيدته التي مدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم :


أولاك رؤيته في ليلة فضلت     ليالي القدر فيها الرب أرضاكا

أن ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر .

قال في الاصطفاء : «ولعل الحكمة في ذلك اشتمالها على رؤيته تعالى التي هي أفضل كل شيء ، ولذا لم يجعلها ثوابا عن عمل من الأعمال مطلقا ، بل من بها على عباده المؤمنين يوم القيامة تفضلا منه تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية