[ ص: 13 ] واستشكل كثير من الناس كون «ليلا» ظرفا للإسراء . ووجه الإشكال أنه قد تقدم أن الإسراء هو سير الليل ، فإذا أطلق الإسراء فهم أنه واقع ليلا ، فهو كالصبوح في شرب الصباح ، لا يحتاج إلى قوله : شربت الصبوح صباحا . 
وجوابه أن الأمر وإن كان كذلك إلا أن العرب تفعل مثل ذلك في بعض الأوقات إذا أرادت تأكيد الأمور . والتأكيد نوع من أنواع كلامهم وأسلوب منه . والعرب تقول : أخذ بيده ، وقال بلسانه . وفي القرآن العزيز : 
ولا طائر يطير بجناحيه  [الأنعام : 38] ، 
يقولون بأفواههم  [آل عمران : 167] ، 
فخر عليهم السقف من فوقهم  [النحل : 26] ، وقال 
جرير :  سرى نحوها ليلا كأن نجومه قناديل فيهن الذبال المفتل 
الذبال : جمع ذبالة- بضم الذال المعجمة وهي الفتيلة . 
الجوهري   : «وإنما قال ليلا ، وإن كان السرى لا يكون إلا بالليل للتأكيد ، كقولهم : 
سرت أمس نهارا والبارحة ليلا . 
 nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري   : [فإن قلت الإسراء لا يكون إلا بالليل فما معنى ذكر الليل؟ قلت] : أراد بقوله ليلا بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء وأنه وقع السرى في بعض الليل من 
مكة  إلى 
الشام  مسيرة أربعين ليلة ، وذلك أن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية ، ويشهد لذلك قراءة 
عبد الله  وحذيفة  «من الليل» أي بعض الليل كقوله تعالى : 
ومن الليل فتهجد به نافلة لك  [الإسراء : 79] يعني الأمر بقيام الليل في بعض الليل . 
قال 
أبو شامة   : «وهذا الوجه لا بأس به ، وقد زاد شيخنا 
أبو الحسن- يعني السخاوي  في تفسيره أيضا وتقريرا ، فقال : وإنما قال : «ليلا» ، والإسراء لا يكون إلا بالليل ، لأن المدة التي أسري به فيها لا تقطع في أقل من أربعين يوما ، فقطعت به في ليل واحد ، المعنى سبحان الذي أسرى بعبده في ليل واحد من كذا إلى كذا ، وهو موضع التعجب» . قال : «وإنما عدل عن ليلة إلى ليل ، لأنهم إذا قالوا : سرى ليلة ، كان ذلك في الغالب لاستيعاب الليلة ، فقيل : ليلا أي في ليل» . 
وتعقب صاحب الفوائد كلام 
 nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري  بكلام تعقبه فيه 
الطيبي  ، ثم قال 
الطيبي   :  
[ ص: 14 ] «ويمكن أن يراد بالتنكير التعظيم والتفخيم ، والمقام يقتضيه ، ألا ترى كيف افتتحت السورة بالكلمة المنبئة عنه؟ ثم وصف المسرى به بالعبودية ، ثم أردف تعظيم المكانين بالحرام وبالبركة لما حوله ، يعظم الزمان ثم يعظم الآيات بإضافتها إلى صيغة التعظيم ، وجمعها لتشمل جميع أنواع الآيات ، وكل ذلك شاهد صدق على ما نحن بصدده ، والمعنى ما أعظم شأن من أسري [به] ممن حقق له مقام العبودية ، وصحح له استنهاله للعناية السرمدية ليلا ، أي ليل له شأن جليل . 
ابن المنير  رحمه الله تعالى : «وإنما كان الإسراء ليلا لأنه وقت الخلوة والاختصاص عرفا ، ولأنه وقت الصلاة التي كانت مفروضة عليه في قوله تعالى : 
قم الليل إلا قليلا  [المزمل : 2] وليكون أبلغ للمؤمن في الإيمان بالغيب ، وفتنة للكافر» . 
 nindex.php?page=showalam&ids=13138ابن دحية  رحمه الله : «كرم الله نبينا صلى الله عليه وسلم ليلا بأمور منها : انشقاق القمر ، وإيمان الجن به ، ورأى أصحابه نيرانهم ، كما في صحيح 
 nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم ،  وخرج إلى الغار ليلا . والليل أصل ، ولهذا كان أول الشهور ، وسواده يجمع ضوء البصر ، ويحد كليل النظر ، ويستلذ فيه بالسمر . وكان أكثر أسفاره ليلا . وقال عليه الصلاة والسلام : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=674130«عليكم - بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل»  . 
والليل وقت الاجتهاد للعبادة . وكان صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تورمت قدماه . وكان قيام الليل في حقه واجبا ، فلما كانت عبادته ليلا أكرم بالإسراء [به] فيه ليكون أجر المصدق به أكثر ، ليدخل فيمن آمن بالغيب دون من عاينه نهارا ، وقدم الحق تبارك وتعالى الليل في كتابه على ذكر النهار ، فقال عز وجل : 
وجعلنا الليل والنهار آيتين  [الإسراء : 12] ، 
وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا  [الفرقان : 62] إلى غير ذلك من الآيات» . 
وصح أنه صلى الله عليه وسلم قال : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=651077«ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ، يقول : من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، ومن يستغفرني فأغفر له» الحديث . 
وهذه الخصيصة لم تجعل للنهار ، نبه بها صلى الله عليه وسلم لما في ذلك الوقت من الليل من سعة الرحمة ومضاعفة الأجر وتعجيل الإجابة ، ولإبطال كلام الفلاسفة أن الظلمة من شأنها الإهانة والشر ، لأن الله تعالى أكرم أقواما في الليل بأنواع الكرامات كقوله في قصة 
إبراهيم  صلى الله عليه وسلم : 
فلما جن عليه الليل  [الأنعام : 76] الآية . وفي لفظ بقوله : 
فأسر بأهلك بقطع من الليل  [ ص: 15 ]  [هود : 81] . وفي 
موسى :  وواعدنا موسى ثلاثين ليلة  [الأعراف : 142] وناجاه ليلا ، وأمره بإخراج أهله ليلا . 
بعض أهل الإشارات : «لما محا الله آية الليل ، 
وجعلنا آية النهار مبصرة  [الإسراء : 12] انكسر الليل ، فجبر بأن أسري فيه 
بمحمد صلى الله عليه وسلم  » . انتهى . 
أبو أمامة بن النقاش  رحمه الله : 
«ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر في حق النبي صلى الله عليه وسلم ، وليلة القدر أفضل في حق الأمة ، لأنها لهم خير من عمل أكثر من ثمانين سنة ممن كان قبلهم . 
وأما ليلة الإسراء فلم يأت في أرجحية العمل فيها حديث صحيح ولا ضعيف ، ولذلك لم يعينها النبي صلى الله عليه وسلم» . 
ويؤخذ من قول الإمام 
البلقيني  رحمه الله في قصيدته التي مدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم : 
أولاك رؤيته في ليلة فضلت     ليالي القدر فيها الرب أرضاكا 
أن ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر . 
قال في الاصطفاء : «ولعل الحكمة في ذلك اشتمالها على رؤيته تعالى التي هي أفضل كل شيء ، ولذا لم يجعلها ثوابا عن عمل من الأعمال مطلقا ، بل من بها على عباده المؤمنين يوم القيامة تفضلا منه تعالى .