سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
ودلائل النبوة أيضا كثيرة ، وهي المعجزات المشهورة المتواترة ، وأما الحشر فإمكانه يثبت بالعقل ، وهذا أظهر ، وأما وقوعه فلا يمكن إثباته إلا بالسمع ، فأكثر فيه القسم ليقطع به المكلف ويعتقده اعتقادا جازما .

الرابع : في الكلام على النجم [النجم : 1] :

صاحب القاموس : «في المطلع النجم الكوكب الطالع والجمع أنجم وأنجام ونجوم ونجم ، والنجم أيضا الثريا ، والنجم من النبات ما نجم على غير ساق ، والنجم الوقت المضروب» .

اللباب لابن عادل : «سمي الكوكب نجما لطلوعه ، وكل طالع نجما» ، يقال : نجم السن والقرن والنبت إذا طلع ، زاد القرطبي : «ونجم فلان ببلد كذا أي خرج على السلطان» .

ابن القيم : «اختلف الناس في المراد بالنجم ، فقال الكلبي عن ابن عباس : أقسم بالقرآن إذ أنزل نجوما على رسول الله صلى الله عليه وسلم : أربع آيات وثلاث آيات والسورة ، وكان بين أوله وآخره عشرون سنة ، وكذلك روى عطاء عنه ، وهو قول مقاتل والضحاك ومجاهد ، واختاره الفراء» .

والهوي على هذا القول النزول من أعلى إلى أسفل ، وعلى هذا سمي القرآن نجما لتفرقه في النزول . والعرب تسمي التفرق تنجما والمتفرق منجما . ونجوم الكتابة أقساطها ، وتقول جعلت مالي على فلان نجوما منجمة ، كل نجم كذا وكذا . وأصل هذا أن العرب كانت تجعل مطالع منازل القمر ومساقطها مواقيت لحلول ديونها وآجالها ، فيقولون :

إذا طلع النجم - يريدون الثريا - حل عليك كذا ، ثم جعل كل نجم تفريقا وإن لم يكن موقتا بطلوع نجم .

قال الإمام الرازي : «ففي هذا القسم استدلال بمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم على صدقه ، وهو كقوله تعالى : يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين [يس : 1 ، 2 ، 3] وقال ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة وعطية : يعني الثريا إذا سقطت وغابت ، وهويها مغيبها ، وهو الرواية الأخرى عن مجاهد ، والعرب إذا أطلقت النجم تعني به الثريا ، قال الشاعر :


إذا طلع النجم عشاء ابتغى الراعي كساء

وفي الحديث : «ما طلع نجم قط وفي الأرض من العاهة شيء إلا ارتفع» ، رواه الإمام [ ص: 28 ] أحمد ، وأراد بالنجم الثريا . وهذا القول اختاره ابن جرير والزمخشري . وقال السمين إنه الصحيح ، لأن هذا صار علما بالغلبة» ، وقال عمر بن أبي ربيعة :


أحسن النجم في السماء الثريا     والثريا في الأرض زين النساء

قال الإمام الرازي : «ومناسبة هذا القول أن الثريا أظهر النجوم عند الرائي لأن له علامة لا تلتبس بغيره في السماء ويظهر لكل أحد . والنبي صلى الله عليه وسلم يتميز عن الكل بآيات بينات ، فأقسم به ، ولأن الثريا إذا ظهرت من المشرق بالبلد حان إدراك الثمار ، وإذا ظهرت بالشتاء أو الخريف تقل الأمراض . والنبي صلى الله عليه وسلم إذا ظهر ، قل الشك والأمراض القلبية وأدركت الثمار الحكمية» .

وقال أبو حمزة ، بالحاء المهملة والزاي : «والثمالى - بضم المثلثة وتخفيف الميم وباللام : يعني النجوم إذا انتثرت يوم القيامة . وقيل أراد به الشعرى . وقال السدي والثوري :

«أراد به الزهرة» . وقال الأخفش : «أراد به النبت الذي لا ساق له ، ومنه قوله تعالى :

والنجم والشجر يسجدان [الرحمن : 6] وهويه سقوطه .

قال الإمام الرازي : «لأن النبات به نبات القوى الجسمانية وصلاحها ، والقوة العقلية أولى بالإصلاح ، وذلك بالرسل ، وإصلاح السبل ، ومن هذا يظهر أن المختار هو النجوم التي في السماء لأنها أظهر عند السامع . وقوله تعالى : إذا هوى أدل عليه ، ثم بعد ذلك القرآن لما فيه من الظهور ، ثم الثريا .

وقال جعفر بن محمد - رضي الله عنهما- ، كما نقله القاضي : «أراد به النبي- صلى الله عليه وسلم- إذ نزل ليلة المعراج والهوي النزول» .

صاحب السراج : «ويعجبني هذا التفسير لملاءمته من وجوه ، فإنه صلى الله عليه وسلم نجم هداية ، خصوصا لما هدي إليه من فرض الصلاة تلك الليلة ، وقد علمت منزلة الصلاة من الدين ، ومنها أنه أضاء في السماء والأرض . ومنها التشبيه بسرعة السير ، ومنها أنه كان ليلا ، وهو وقت ظهور النجم ، فهو لا يخفى على ذي بصر وأما أرباب البصائر فلا يمترون كأبي بكر الصديق- رضي الله عنه» . انتهى .

وقال مجاهد في رواية عنه : «نجوم السماء كلها» . وجزم أبو عبيدة وقال : ذهب إلى لفظ الواحد بمعنى الجمع ، قال الشاعر :

فبانت تعد النجم في مستحيرة

أي تعد النجوم . قال ابن جرير : «وهذا القول له وجه ، ولكن لا أعلم أحدا من أهل التأويل قاله» . انتهى . [ ص: 29 ]

قلت : قد تقدم نقله عن مجاهد ، ونقله الماوردي عن الحسن أيضا . وقال الإمام الرازي :

«ومناسبة ذلك أن النجوم يهتدى بها فأقسم بها لما بينهما من المشابهة والمناسبة» .

وقال ابن عباس في رواية عكرمة : أراد التي ترمى بها الشياطين إذا سقطت في آثارها عند استراق السمع . وهذا قول أبي الحسن الماوردي . وسببه أن الله تعالى لما أراد بعث محمد صلى الله عليه وسلم رسولا ، كثر انقضاض الكواكب قبل مولده ، فذعر أكثر العرب منها وفزعوا إلى كاهن ، كان يخبرهم بالحوادث ، فسألوه عنها فقال : انظروا إلى البروج الاثني عشر فإن انقض منها شيء فهو ذهاب الدنيا ، وإن لم ينقض منها شيء فسيحدث في الدنيا أمر عظيم ، فاستشعروا ذلك ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الأمر العظيم الذي استشعروه ، فأنزل الله تعالى : والنجم إذا هوى ، هوى لهذه النبوة التي حدثت .

الإمام الرازي : «إن الرجوم تبعد الشياطين عن أهل السماء والأنبياء يبعدون الشياطين عن أهل الأرض .

ابن القيم : «وهذه الرواية عن ابن عباس أظهر الأقوال ، ويكون الحق سبحانه وتعالى قد أقسم بهذه الآية الظاهرة المشاهدة التي نصبها آية وحفظا للوحي من استراق الشياطين له ، على أن ما أتى به رسولا حق وصدق لا سبيل للشياطين ولا طريق لهم إليه ، بل قد حرس بالنجم إذا هوى رصدا بين يدي الوحي وحرسا له ، وعلى هذا فالارتباط بين المقسم به والمقسم عليه في غاية الظهور ، وفي المقسم به دليل على المقسم عليه ، فإن النجوم التي ترمى بها الشياطين آيات من آيات الله تعالى ، يحفظ بها دينه ووحيه ، وآياته المنزلة على رسله ، بها ظهر دينه وشرعه ، وأسماؤه وصفاته . وجعلت هذه النجوم المشاهدة خدما وحرسا لهذه النجوم الهادية .

وليس بالبين تسمية القرآن عند نزوله بالنجم إذا هوى ، ولا تسمية نزوله هويا ، ولا عهد في القرآن بذلك فيحمل هذا اللفظ عليه وليس بالبين أيضا تخصيص هذا القسم بالثريا وحدها إذا غابت ، وليس بالبين القسم بالنجوم عند تناثرها يوم القيامة ، بل هذا مما يقسم الرب عليه ، ويدل عليه بآياته ، فلا يجعله نفسه دليلا لعدم ظهوره للمخاطبين ولا سيما منكرو البعث . فإنه سبحانه وتعالى إنما يستدل بما لا يمكن جحده ولا المكابرة فيه ، فأظهر الأقوال قول الحسن وابن كثير وهذا القول له اتجاه» .

التالي السابق


الخدمات العلمية