سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
السادس : في الكلام على قوله : ما ضل صاحبكم وما غوى : [النجم : 2] السمين : «هذا جواب القسم» .

الإمام الرازي والبرهان النسفي : أكثر المفسرين قالوا : لا نفرق بين الضلال والغي . وقال بعضهم : إن الضلال في مقابله الهدى ، والغي في مقابله الرشد ، قال تعالى : وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا [الأعراف : 146] ، وتحقيق الفرق فيه أن الضلال أعم استعمالا في المواضع ، تقول : ضل بعيري ورحلي ولا تقول : غوى ، فالمراد من الضلال ألا يجد السالك إلى مقصده طريقا مستقيما . والغواية ألا يكون له إلى القصد طريق مستقيم ، ويدل على هذا أنك تقول للمؤمن الذي ليس على طريق السداد : إن سعيه غير رشيد ، ولا تقول : إنه ضال . فالضال كالكافر ، والغاوي كالفاسق ، فكأنه تعالى قال : ما ضل أي ما كفر ، ولا أقل من ذلك ، فما فسق ، ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى : فإن آنستم منهم رشدا [النساء : 6] الآية . أو يقال : الضلال كالعدم والغواية كالوجود الفاسد في الدرجة والمرتبة .

ويحتمل أن يكون معنى «ما ضل» أي ما جن ، فإن المجنون ضال ، وعلى هذا فهو كقوله تعالى ما أنت بنعمة ربك بمجنون [القلم : 2] الآية . فقوله : وإن لك لأجرا غير ممنون [القلم : 3] ، إشارة إلى أنه ما غوى بل هو رشيد مرشد إلى حضرة الله تعالى . وقوله : وإنك لعلى خلق عظيم [القلم : 4] ، إشارة إلى قوله هنا : وما ينطق عن الهوى [النجم : 3] ، فإن هذا خلق عظيم . وقد أشار قوله تعالى ما ضل إلى أنه على الطريق ، وما غوى إشارة إلى أنه على الطريق المستقيم ، وما ينطق عن الهوى إلى أنه مسلك الجادة ، ركب من الطريق ، فإنه إذا ركب متنه كان أسرع وصولا إلى المقصد ، ويمكن أن يقال إن قوله وما ينطق عن الهوى دليل على أنه ما ضل وما غوى ، وتقديره : كيف يضل أو يغوي وهو لا ينطق عن الهوى؟ وإنما يضل من يتبع هواه ، ويدل عليه قوله تبارك وتعالى : ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله [ص : 26] .

القرطبي : وقيل ما غوى ما خاب مما طلب قال الشاعر :


فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

أي من خاب في طلبه لامه الناس ، ثم يجوز أن يكون إخبارا عما بعد الوحي ، ويجوز أن [ ص: 32 ]

يكون إخبارا عن أحواله على التعميم ، أي كان أبدا موحدا لله . وهو الصحيح .

ابن القيم : نفى الله سبحانه وتعالى عن رسوله الضلال المنافي للهدى والغي المنافي للرشد ، ففي ضمن هذا النفي الشهادة له بأنه على الهدى والرشد ، فالهدى في علمه والرشد في عمله ، وهذان الأصلان هما غاية كمال العبد ، وهما سعادته وصلاحه ، وبهما وصف النبي صلى الله عليه وسلم خلفاءه ، فقال : «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي .

«فالراشد ضد الغاوي ، والمهدي ضد الضال وهو الذي زكت نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح وهو صاحب الهدى ودين الحق ، لا يشتبه الراشد المهدي بالضال الغاوي ، إلا على أجهل الخلق وأعماهم قلبا وأبعدهم من حقيقة الإنسانية ، ورحم الله القائل :


وما انتفاع أخي الدنيا بناظره     إذا استوت عنده الأنوار والظلم

والناس أربعة أقسام : الأول : ضال في علمه ، غاو في قصده وعمله ، وهؤلاء سواد الخلق ، وهم مخالفو الرسل . الثاني : مهتد في علمه غاو في قصده وعمله ، وهؤلاء هم الأمة العصية ومن تشبه بهم ، وهو حال كل من عرف الحق ولم يعمل به . الثالث : ضال في علمه ولكن قصده الخير وهو لا يشعر ، الرابع : مهتد في علمه راشد في قصده وهم ورثة الأنبياء ، وهم وإن كانوا الأقلين عددا فهم الأكثرون عند الله قدرا ، وهم صفوة الله تعالى من خلقه .

وتأمل كيف قال تعالى : ما ضل صاحبكم ولم يقل : محمدا ، تأكيدا لإقامة الحجة عليهم بأنه صاحبهم ، وهم أعلم الخلق به وبحاله وأقواله وأعماله ، وأنهم لا يعرفونه بكذب ولا غي ولا ضلال ، ولا ينقمون عليه أمرا واحدا قط . وقد نبه تعالى على ذلك بقوله : أم لم يعرفوا رسولهم [المؤمنون : 69] ، وبقوله : وما صاحبكم بمجنون [التكوير : 22] .

السابع : في الكلام على قوله : وما ينطق عن الهوى : [النجم : 3] .

قال [تعالى] أولا : «ما ضل» و«وما غوى» ، بصيغة الماضي ، وعبر هنا بصيغة المستقبل ، وهو ترتيب في غاية الحسن ، أي ما ضل حين اعتزلكم وما تعبدون حين اختلى بنفسه . وما ينطق عن الهوى الآن حيث أرسل إليكم وجعل شاهدا عليكم ، فلم يكن أولا ضالا ولا غاويا ، وصار الآن منقذا من الضلالة ومرشدا وهاديا ، والله سبحانه وتعالى يصون من يريد إرساله في صغره عن الكفر والمعايب ، فقال تعالى : ما ضل في صغره لأنه لا ينطق عن الهوى . [ ص: 33 ]

ابن عادل : «فاعل ينطق إما ضمير النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو الظاهر ، وإما ضمير القرآن كقوله تعالى : هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق [الجاثية : 29] .

ابن القيم : تنزه تعالى عن نطق رسوله صلى الله عليه وسلم عن أن يصدر عن هوى ، وبهذا الكمال هداه وأرشده ، ولم يقل : وما ينطق بالهوى ، لأن نفي نطقه عن الهوى أبلغ ، فإنه يتضمن أن نطقه لا يصدر عن هوى ، وإذا لم يصدر عن هوى فكيف ينطق به؟ فتضمن نفي الأمرين : نفي الهوى عن مصدر النطق ، ونفيه عن النطق نفسه ، فنطقه بالحق ، ومصدره الهدى والرشاد ، لا الغي والضلال .

اللباب : قال النحاس : «قول قتادة أولى وتكون» «عن» على بابها ، أي ما يخرج نطقه عن رأيه ، إنما هو بوحي من الله تعالى ، لأن بعده إن هو إلا وحي يوحى [النجم : 4] .

وقيل : هو بمعنى الباء ، أي ما ينطق بالهوى ، أي ما يتكلم بالباطل ، وذلك أنهم قالوا : إن محمدا يقول من تلقاء نفسه» . المصباح : الهوى مقصور مصدر هويته من باب تعب إذا أحببته وعلقت به ، ثم أطلق على ميل النفس وانحرافها عن الشيء ثم استعمل في ميل مذموم فيقال اتبع هواه» .

الإمام البيهقي : «وأحسن ما يقال في تفسير الهوى أنه المحبة ، لكن من النفس ، يقال هويته بمعنى أحببته . والحروف التي في هوي تدل على الدنو والنزول والسقوط ومنه الهاوية ، فالنفس إذا كانت دنية وتركت المعالي وتعلقت بالسفاسف فقد هوت فاختص الهوى بالنفس الأمارة بالسوء» .

الشعبي : «إنما سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه» . وقال بعض الحكماء : «الهوى إله معبود ، له شيطان شديد ، يخدمه شيطان مريد ، فمن عبد أوثانه ، وأطاع سلطانه ، واتبع شيطانه ، ختم الله تعالى على قلبه ، وحرم الرشاد من ربه ، فأصبح صريع غيه ، غريق ذنبه ، وقال عز من قائل أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه ، وجعل على بصره غشاوة ، فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون [الجاثية : 23] وقال تعالى : ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين [القصص : 50] .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ثلاث منجيات وثلاث مهلكات ، فالمنجيات : خشية الله في السر والعلانية ، والحكم بالعدل في الرضا والغضب ، والاقتصاد في الفقر والغنى ، والمهلكات : شح [ ص: 34 ] مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء برأيه» .

رواه البزار عن أنس .

وقال صلى الله عليه وسلم : «ما تحت ظل السماء من إله يعبد من دون الله ، أعظم عند الله من هوى متبع» . رواه الطبراني عن أبي أمامة .

وقال بعض الحكماء : «الهوى خادع الألباب ، صاد عن الصواب ، يخرج صاحبه من الصحيح إلى المعتل ، ومن الصريح إلى المختل ، فهو أعمى يبصر ، أصم يسمع» . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «حبك الشيء يعمي ويصم» .

وقال آخر : «على قدر بصيرة العقل يرى الإنسان الأشياء ، فمن سلم عقله من الهوى يراها على حقيقتها ، والنفس الكدرة المتبعة لهواها ترى الأشياء على طبعها . وقيل كان على خاتم بعض الحكماء : «من غلب هواه على عقله افتضح» . وقال ابن دريد في مقصورته :


وآفة العقل الهوى فمن علا     على هواه عقله فقد نجا

الثامن : في الكلام على قوله تعالى : إن هو إلا وحي يوحى [النجم : 4] .

الإمام الرازي : «هذا تكملة للبيان ، وذلك أن الله تعالى لما قال : وما ينطق عن الهوى كأن قائلا يقول فعم ذا ينطق ، أعن الدليل والاجتهاد؟ فقال : لا ، إنما ينطق عن حضرته تعالى بالوحي ، وهذا اللفظ أبلغ من أن لو قيل : هو وحي يوحى . وكلمة «إن» استعملت مكان «ما» للنفي ، كما استعملت «ما» للشرط مكان «إن» .

اللباب : «يوحى صفة لوحي ، وفائدة المجيء لهذا الوصف أنه ينفي المجاز ، أي هو وحي حقيقة لا مجرد تسمية كقولك : هذا قول يقال . وقيل تقديره : يوحى إليه ، ففيه مزيد فائدة» . ونقل القرطبي عن السجستاني أنه قال : «إن شئت أبدلت إن هو إلا وحي يوحى من ما ضل صاحبكم ، قال ابن الأنباري : وهذا غلط لأن إن الخفيفة لا تكون مبدلة من «ما» بدليل أنك لا تقول : والله ما قمت إن أنا لقاعد» .

ابن القيم : «أعاد الضمير على المصدر المفهوم من الفعل ، أي ما نطقه إلا وحي يوحى ، وهذا أحسن من قول من جعل الضمير عائدا إلى القرآن فإنه يعم نطقه بالقرآن والسنة ، وأن [ ص: 35 ] كليهما وحي . قال الله تعالى : وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة

[النساء : 113] وهما القرآن والسنة .

وروى الداري عن يحيى بن أبي كثير قال : «كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن» ، قلت وفي الصحيحين أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة [فقال : يا رسول الله] كيف ترى في رجل أحرم بعمرة بعد ما تضمخ بالخلوق؟ فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم سكت .

فجاءه الوحي ، ثم سري عنه ، فقال : أين السائل؟ فجيء به فقال : انزع عنك الجبة واغسل أثر الطيب واصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك
.

وروى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال :

كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أريد حفظه ، فنهتني قريش وقالوا : تكتب كل شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الرضا والغضب .

فأمسكت عن الكتابة حتى ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه

وقال : «اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج مني إلا حقا»
.

وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إني لا أقول إلا حقا» .

وقال بعض أصحابه : «إنك تداعبنا يا رسول الله ، قال : إني لا أقول إلا حقا» .

وروى الإمام أحمد والطبراني والضياء في صحيحه عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ليدخلن الجنة بشفاعة رجل مثل الحيين أو مثل أحد الحيين ربيعة ومضر . فقال رجل : يا رسول الله وما ربيعة ومضر؟ قال : إني ما أقول إلا ما أقوله»

- الثاني [ ص: 36 ] بضم الهمزة وفتح القاف والواو المشددة . أي ما يقوله الله من الوحي ، ولهذا مزيد بيان في أبواب عصمته .

الإمام الرازي ، «هو ضمير معلوم أو ضمير مذكور ، فيه وجهان : أشهرهما أنه ضمير معلوم ، وهو القرآن ، كأنه تعالى يقول : «ما القرآن إلا وحي» ، وهذا على قول من قال : ليس المراد بالنجم القرآن ، وأما على قول من قال : هو الوحي فضمير مذكور . والوجه الثاني : أنه عائد إلى مذكور ضمنا ، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم وكلامه ، وذلك لأن قوله تعالى : وما ينطق عن الهوى في ضمنه النطق وهو كلام وقول ، فكأنه تعالى يقول : وما كلامه ولا نطقه إلا وحي .

وفيه وجه آخر ، وهو أن قوله تعالى : وما ينطق عن الهوى [النجم : 3] رد على الكفرة حيث قالوا : قوله قول كاهن ، وقالوا : قوله قول شاعر ، فقال تعالى : إن هو إلا وحي يوحى [النجم : 4] ، وليس بقول شاعر كما قال تعالى : وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون [الحاقة : 41 ، 42] .

وقوله تعالى : إن هو إلا وحي يوحى ، أبلغ من قول القائل : هو وحي ، وفيه فائدة غير المبالغة ، وهي أنهم كانوا يقولون : هو قول كاهن ، هو قول شاعر . والمراد نفي قولهم وذلك يحصل بصيغة النفي فقال : ما هو كما تقولون ، وزاد فقال : بل هو وحي .

أنوار التنزيل : «احتج بهذه الآية من لم ير الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم . وأجيب عنه بأنه إذا أوحي إليه أن يجتهد كان اجتهاده وما يسند إليه واجبا وفيه نظر لأن ذلك حينئذ بالوحي» .

الطيبي «هذه الآية واردة في أمر التنزيل وليس فيها لمستدل أن يستدل شيئا من أمر الاجتهاد نفيا ولا إثباتا ، لأن الضمير في «هو» للقرآن ، بدليل من فسر النجم بنجوم القرآن» .

وبسط الكلام على ذلك ، ثم أورد حديث طلحة بن عبيد الله في تأبير النخل ، وسيأتي مع الكلام عليه في أبواب عصمته صلى الله عليه وسلم .

وقال الإمام الرازي : «القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجتهد خلاف الظاهر : فإنه في الحرب اجتهد وحرم ، قال الله تعالى : لم تحرم ما أحل الله لك [مريم : 1] ، وأذن ، قال الله تعالى :

عفا الله عنك لم أذنت لهم [التوبة : 43] .

التالي السابق


الخدمات العلمية