سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الباب الخامس في كيفية الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم وهل تكرر أم لا

وفيه فصلان : الأول : اعلم أنه لا خلاف في صحة الإسراء به صلى الله عليه وسلم . إذ هو نص القرآن على سبيل الإجمال ، وجاءت بتفصيله وشرح عجائبه أحاديث كثيرة منتشرة عن جماعة من الصحابة يأتي ذكرهم بعد في باب مفرد ، وإنما الخلاف في كيفية الإسراء ، فاختلف العلماء في ذلك على أقوال : الأول وهو قول الأكثر إنه كان بالروح والجسد معا يقظة لا مناما ، من مكة إلى بيت المقدس ، إلى السماوات العلا إلى سدرة المنتهى إلى حيث شاء العلي الأعلى .

قال القاضي وغيره : «وهو الحق وعليه تدل الآية نصا وصحيح الأخبار إلى السماوات استفاضة ولا يعدل عن الظاهر من الآية والأخبار الواردة فيه ، ولا عن الحقيقة المتبادرة إلى الأذهان من ألفاظهما ، إلى التأويل ، إلا عند الاستحالة وتعذر حمل اللفظ على حقيقته ، وليس في الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة تؤذن بتأويل ، إذ لو كان مناما لقال : سبحان الذي أسرى بروح عبده ، ولم يقل : بعبده ، والعبد حقيقة هو الروح والجسد ، ويدل عليه قوله تعالى ما زاغ البصر وما طغى [النجم : 17] أي ما عدل عن رؤية ما أمر برؤيته من عجائب الملكوت وما جاورها لصراحة ظاهرة في كونه بجسده يقظة لأنه أضاف الأمر إلى البصر ، وهو لا يكون إلا يقظة بجسده بشهادة : لقد رأى من آيات ربه الكبرى [النجم : 18] . ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة خارقة للعادة تورث عدم صدقه ، وإن كانت رؤيا الأنبياء وحيا ، إذ ليس فيها من الأبلغية وخرق العادة ما فيه يقظة . وأيضا لو كان مناما لما استبعده الكفار ولا كذبوه ، ولا ارتد به ضعفاء من أسلم وافتتنوا به ، لبعده عن ساحة العادة ، ووقوعه في زمن يستبعد فيه جدا ، إذ مثل هذه المنامات لا ينكر ، بل لم يكن منهم ذلك الاستبعاد والتكذيب ، والارتداد والافتتان إلا وقد علموا أن خبره إنما هو عن جسمه وحال يقظته» .

وقد روى البخاري في باب الإسراء من صحيحه ، وسعيد بن منصور في سننه عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس [الإسراء : 60] هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء . زاد سعيد : «وليست رؤيا منام» .

قال الحافظ : «إضافة الرؤية للعين للاحتراز عن رؤيا القلب . وقد أثبت الله تعالى رؤيا القلب في القرآن بقوله : ما كذب الفؤاد ما رأى [النجم : 11] ، ورؤية العين بقوله : ما زاغ البصر وما طغى [النجم : 17] . وأما ما رواه ابن مردويه عن طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الآية قال : «رأى أنه وصل مكة وأصحابه . فلما رده المشركون كان [ ص: 68 ]

لبعض الناس في ذلك فتنة» .

وما رواه ابن مردويه عن الحسن بن علي رضي الله عنهما ، رفعه قال : «رأيت كأن بني أمية يتعاورون منبري هذا» ، فقال : هي دنيا تنالهم ،

ونزلت هذه الآية ، فكلاهما إسناد ضعيف والصحيح ما تقدم ، وجزم بما قاله ابن عباس إنها رؤيا عين ليلة الإسراء مجاهد وسعيد بن جبير والحسن ومسروق وإبراهيم وقتادة وعبد الرحمن بن زيد وغير واحد .

التالي السابق


الخدمات العلمية