سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الباب السادس في قدومه صلى الله عليه وسلم باطن المدينة وما آلت إليه وفرح أهل المدينة برسول الله صلى الله عليه وسلم

روى الإمام أحمد والشيخان عن أبي بكر ، وسعيد بن منصور عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم والبيهقي عن موسى بن عقبة ، وابن إسحاق عن عويم بن ساعدة ، ويحيى بن الحسن عن عمارة بن خزيمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يدخل المدينة أرسل إلى بني النجار ، وكانوا أخواله لأن أم عبد المطلب منهم كما تقدم في باب النسب . فجاؤوا متقلدين السيوف ، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه : «اركبوا آمنين مطاعين» . وكان اليوم يوم الجمعة فلما ارتفع النهار دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم براحلته وحشد المسلمون ولبسوا السلاح ،

وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته القصواء والناس معه عن يمينه وعن شماله وخلفه منهم الماشي والراكب فاجتمعت بنو عمرو بن عوف فقالوا : يا رسول الله أخرجت ملالا لنا أم تريد دارا خيرا من دارنا؟ قال : «إني أمرت بقرية تأكل القرى فخلوها- أي ناقته- فإنها مأمورة» ،

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قباء يريد المدينة فتلقاه الناس فخرجوا في الطرق وعلى الأباعر وصار الخدم والصبيان يقولون : «الله أكبر ، جاءنا رسول الله جاء محمد» قال أنس فيما رواه البيهقي : «إني لأسعى مع الغلمان إذ قالوا : محمد جاء فننطلق فلا نرى شيئا ، حتى أقبل وصاحبه أبو بكر فكمنا في بعض جدر المدينة وبعثا رجلا من أهل البادية ليؤذن بهما الأنصار فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الأنصار ، حتى انتهوا إليهما فقالت الأنصار : انطلقا آمنين مطاعين . فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه بين أظهرهم ، فخرج أهل المدينة حتى أن العواتق لفوق البيوت يتراءينه يقلن : أيهم هو؟ أيهم هو؟

فما رأينا منظرا شبيها به يومئذ .


روى الإمام أحمد وأبو داود عن أنس رضي الله عنه أنه قال : «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة لعبت الحبشة بحرابها فرحا بقدومه» . وروى البيهقي ورزين عن عائشة رضي الله عنها قالت : «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلن :


طلع البدر علينا من ثنيات الوداع     وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع

زاد رزين :


أيها المبعوث فينا     جئت بالأمر المطاع

[ ص: 272 ] وروى البخاري عن البراء رضي الله عنه أنه قال : «ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وروى ابن ماجة عن أنس رضي الله عنه أنه قال : «لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء» . وروى ابن أبي خيثمة رضي الله عنه قال : «شهدت يوم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فلم أر يوما أحسن منه ولا أضوأ» . فلم يمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدار من دور الأنصار إلا قالوا : «هلم يا رسول الله إلى العز والمنعة والثروة» . فيقول لهم خيرا ويدعو أو يقول : «إنها مأمورة خلوا سبيلها» ، فمر ببني سالم فقام إليه عتبان- بكسر العين المهملة- ابن مالك ، ونوفل بن عبد الله بن مالك بن العجلان ، وهو آخذ بزمام راحلته ، فقال : «يا رسول الله انزل فينا فإن فينا العدد والعشيرة والحلقة ، ونحن أصحاب الفضاء والحدائق والدرك ، يا رسول الله قد كان الرجل من العرب يدخل هذه البحرة خائفا فيلجأ إلينا فنقول له : «قوقل حيث شئت» . فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم ويقول : «خلوا سبيلها فإنها مأمورة» ، فقام إليه عبادة بن الصامت ، وعباس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان ، فجعلا يقولان : «يا رسول الله انزل فينا» ، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم : «بارك الله عليكم إنها مأمورة» .

فلما أتى مسجد بني سالم وهو المسجد الذي في الوادي : وادي رانوناء ، أدركته الجمعة هناك فصلاها فيه وكانت أول جمعة صلاها في المدينة ، وقيل إنه كان يصلي الجمعة بمسجد قباء ، وعند ابن سعد أنه صلى معه الجمعة مائة نفس ، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمين الطريق [حتى جاء بنو الحبلى] ، فأراد أن ينزل على عبد الله بن أبي [بن سلول] ، وهو يومئذ سيد الخزرج في أنفسها فقال : اذهب إلى الذين دعوك فانزل عليهم . فقال سعد بن عبادة : «لا تجد يا رسول الله في نفسك من قوله ، فقد قدمت علينا والخزرج تريد أن تملكه عليها ، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق بذلك ولكن هذه داري ،
ذكره موسى بن عقبة ورزين . قال السيد : «الذي في الصحيح ذكر سعد بن عبادة لذلك في قصة عيادته صلى الله عليه وسلم له من مرض بعد سكناه بالمدينة» . قلت : ويحتمل أن سعدا قال ذلك مرتين ، والله أعلم .

فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني ساعدة فقال له سعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو ، وأبو دجانة : «هلم يا رسول الله إلى العز والثروة والقوة والجلد» ، وسعد يقول : «يا رسول الله ليس من قومي رجل أكثر عذقا ولا فم بئر مني مع الثروة والجلد والعدد فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا أبا ثابت خل سبيلها فإنها مأمورة» . فمضى واعترضه سعد بن الربيع ، وعبد الله بن رواحة ، وبشير بن سعد ، فقالوا : «يا رسول الله لا تجاوزنا فإنا أهل عدد وثروة وحلقة» ، قال : «بارك الله [ ص: 273 ] فيكم ، خلوا سبيلها فإنها مأمورة» ، واعترضه زياد بن لبيد ، وفروة بن عمرو ، من بني بياضة ، فقالا : «يا رسول الله هلم إلى المواساة والعز والثروة والعدد والقوة ، نحن أهل الدرك يا رسول الله» ، فقال رسول الله : «خلوا سبيلها فإنها مأمورة» . وفي حديث البراء فقال : «إني أنزل على أخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك» . ثم مر ببني عدي بن النجار وهم أخواله فقام أبو سليط وصرمة بن أبي أنس في قومهما فقالا : «يا رسول الله نحن أخوالك هلم إلى العدد والمنعة والقوة مع القرابة ، لا تجاوزنا إلى غيرنا يا رسول الله ، ليس أحد من قومنا أولى بك منا لقرابتنا بك» . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خلوا سبيلها فإنها مأمورة» .

فسار حتى إذا أتت دار بني عدي بن النجار قامت إليه وجوههم ، ثم مضى حتى انتهى إلى باب المسجد ، فبركت راحلته على باب مسجده صلى الله عليه وسلم وذكر الأقشهري في روضته عن ابن نافع صاحب مالك في أثناء كلام نقله عن مالك أن «ناقته صلى الله عليه وسلم لما أتت موضع مسجده بركت وهو عليها وأخذه الذي كان يأخذه عند الوحي» . ثم وثبت فسارت غير بعيد ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع لها زمامها لا يثنيها به ، ثم التفتت خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة ، فبركت فيه ثم تلحلحت وأرزمت ، ووضعت جرانها . وجعل جبار بن صخر ينخسها رجاء أن تقوم فتنزل في دار بني سلمة فلم تفعل . فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها وقال : «هنا المنزل إن شاء الله » وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين [المؤمنون 29] وجاء أبو أيوب فكلموه في النزول عليهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أي بيوت أهلنا أقرب»؟ فقال أبو أيوب : أنا يا نبي الله ، هذه داري وهذا بابي وقد حططنا رحلك فيها . قال : «فانطلق فهيئ لنا مقيلا» ، فذهب فهيأ لهما مقيلا . وروى الطبراني عن عبد الله بن الزبير أنه كان هناك عريش يرشونه ويعمرونه ويبتردون فيه حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن راحلته فأوى إلى الظل فنزل فيه فأتاه أبو أيوب الأنصاري فقال : يا رسول الله منزلي أقرب المنازل إليه فانقل رحلك . قال : «نعم» ، فذهب برحله إلى المنزل ، فأتاه آخر فقال : يا رسول الله انزل علي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

«المرء مع رحله حيث كان» ، فمضت مثلا فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزل أبي أيوب وقر قراره واطمأنت داره ونزل معه زيد بن حارثة .


وذكر ابن سعد أن أسعد بن زرارة أخذ بزمام الناقة فكانت عنده . وعند عائذ وسعيد بن منصور أن ناقته استناخت به أولا فجاءه ناس فقالوا : المنزل يا رسول الله ، فقال : «دعوها» ، فانبعثت حتى استناخت عند موضع المنبر من المسجد ثم تلحلحت فنزل عنها فأتاه أبو أيوب [ ص: 274 ] فقال : منزلي أقرب المنازل فائذن لي أن أنقل رحلك . قال : «نعم» ، فنقل رحله وأناخ الناقة في منزله .

وروى الحاكم وأبو سعيد النيسابوري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل على أبي أيوب خرج جوار من بني النجار يضربن بالدفوف ويقلن :


نحن جوار من بني النجار     يا حبذا محمد من جار

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أتحببنني»؟ قلن : نعم يا رسول الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وأنا والله أحبكن» ،


قالها ثلاثا . وذكر ابن إسحاق في المبتدأ وابن هشام في التيجان أن بيت أبي أيوب الذي نزل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة بناه تبع الأول واسمه تبان- بضم المثناة الفوقية وتخفيف الموحدة- أسعد ، وكان معه أربعمائة حبر ، فتعاقدوا على ألا يخرجوا منها .

فسألهم تبع عن سر ذلك ، فقالوا : إنا نجد في كتبنا أن نبيا اسمه محمد هذه دار هجرته ، فنحن نقيم لعلنا نلقاه . فأراد تبع الإقامة معهم ، ثم بنى لكل واحد من أولئك دارا واشترى له جارية وزوجها منه وأعطاه مالا جزيلا وكتب كتابا فيه إسلامه ومنه :


شهدت على أحمد أنه     رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره     لكنت وزيرا له وابن عم
[وجاهدت بالسيف أعداءه     وفرجت عن صدره كل هم]

وختمه بالذهب ودفعه إلى كبيرهم وسأله أن يدفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم إن أدركه وإلا فمن أدركه من ولده أو ولد ولده ، وبنى للنبي صلى الله عليه وسلم دارا ينزلها إذا قدم المدينة ، فتداول الدار الملاك إلى أن صارت لأبي أيوب ، وهو من ولد ذلك العالم ، وأهل المدينة الذين نصروه كلهم من أولاد أولئك العلماء . ويقال إن الكتاب الذي فيه الشعر كان عند أبي أيوب حتى دفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو غريب . فما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في بيته .

وروى الترمذي وصححه ، ويحيى بن الحسن العلوي عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال : «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه فجئت لأنظر إليه ، فلما تبينت وجهه علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، فكان أول شيء سمعته يتكلم به أن

قال : «أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام ، وصلوا والناس نيام تدخلون الجنة بسلام .


وروى ابن إسحاق ومسلم عن أبي أيوب رضي الله عنه قال : «لما نزل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل في السفل وأنا وأم أيوب في العلو : فقلت له : يا نبي الله ، بأبي أنت [ ص: 275 ] وأمي ، إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتي ، فأظهر أنت فكن في العلو ، وننزل نحن فنكون في السفل ، فقال : «إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت» .

قال : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفله وكنا فوقه في المسكن ، فلقد انكسر حب لنا فيه ماء ، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفا أن يقطر على رسول الله- صلى الله عليه وسلم منه شيء فيؤذيه . وذكر أن أبا أيوب لم يزل يتضرع إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم في العلو وأبو أيوب في السفل .

قال أبو أيوب : وكنا نصنع له العشاء ثم نبعث به إليه ، فإذا رد علينا فضله تيممت أنا وأم أيوب موضع يده فأكلنا منه نبتغي بذلك البركة ، حتى بعثنا إليه ليلة بعشائه وقد جعلنا له فيه بصلا أو ثوما ، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم أر ليده فيه أثرا . قال : فجئته فزعا فقلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي رددت عشاءك ، ولم أر فيه موضع يدك وكنت إذا رددته علينا تيممت أنا وأم أيوب موضع يدك نبتغي بذلك البركة . قال : «إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة وأنا رجل أناجي ، فأما أنتم فكلوه» .

قال : فأكلناه ولم نضع له تلك الشجرة بعد .


التالي السابق


الخدمات العلمية