سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
تنبيهات

الأول : صح في أحاديث كثيرة أن الطاعون شهادة . قيل : وإذا كان كذلك فكيف قرن [ ص: 304 ] بالدجال ، وكيف مدحت المدينة الشريفة بأنه لا يدخلها؟ والجواب أنه كونه شهادة ورحمة ليس المراد بوصف ذلك ذاته ، وإنما المراد أن ذلك يترتب عليه وينشأ عنه ، وأنه سببه ، فإذا تقرر ذلك واستحضر ما ورد في الأحاديث من أن طعن الجن ظهر به مدح المدينة بأنه لا يدخلها إشارة إلى أن كفار الجن وشياطينهم ممنوعون من دخول المدينة الشريفة ، ومن اتفق دخوله إليها منهم لا يتمكن من آحاد أهلها بالطعن حماية من الله تعالى لهم منهم . فإن قيل :

طعن الجن لا يختص بوقوعه من كفارهم في مؤمني الإنس ، بل يقع من مؤمني الجن في كفار الإنس ، فإذا سلم منع الجن الكفار من المدينة ، لم يمنع من آمن منهم من دخولها؟ فالجواب : إن دخول كفار الإنس المدينة غير مباح ، فإنه إذا لم يسكن المدينة إلا من أظهر الإسلام ، جرت عليه أحكام المسلمين ، وصار من لم يكن خالص الإسلام تبعا للخالص ، فحصل الأمن من دخول الجن إليهم ، فلذلك لا يدخلها الطاعون أصلا . قال الحافظ في بدل الطاعون في أخبار المدينة : وهذا الجواب أحسن من جواب القرطبي في "المفهم" حيث قال : "المعنى : لا يدخلها من الطاعون مثل الذي في غيرها ، كطاعون عمواس والجارف" . وهو جواب صالح على تقدير التنزل أن لو وقع شيء من ذلك بها . وقال غيره : سبب الرحمة لم ينحصر في الطاعون

وقد قال صلى الله عليه وسلم : "غير أن عافيتك أوسع لي" ،

فإن ذلك من خصائص المدينة الشريفة ، ولوازم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها بالصحة . وأجاب المنبجي بأجوبة منها : أنها صغيرة ، فلو وقع بها الطاعون أفنى أهلها ، ومنها أنه عوضهم عن الطاعون بالحمى ، لأن الطاعون يأتي بعد مدة ، والحمى تتكرر في كل مدة ، فتعادلا . قال الحافظ : "ويظهر لي جواب أخص من هذه الأجوبة بعد استحضار

حديث أبي عسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أتاني جبريل بالحمى والطاعون ، فأمسكت الحمى بالمدينة ، وأرسلت الطاعون إلى الشام" ،

الحديث ، وهو أن الحكمة في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة كان في قلة من أصحابه عددا ومددا من زاد وغيره ، وكانت المدينة وبيئة كما سبق ، فناسب الحال الدعاء بتصحيح المدينة لتصح أجساد المقيمين بها ليقووا على جهاد الكفار ، وخير النبي صلى الله عليه وسلم في أمرين ، يحصل لمن أصاب كلا منهما عظيم الثواب ، وهما الحمى والطاعون ، فاختار الحمى بالمدينة؛ لأن أمرها أخف من أمر الطاعون ، لسرعة الموت به غالبا .

فلما أذن له في القتال ، كانت قضية استمرار الحمى ضعف الأجساد التي تحتاج إلى القوة في الجهاد ، فدعا حينئذ بنقل الحمى إلى الجحفة ، فأجيب دعاؤه ، وصارت المدينة من أصح بلاد الله ، فإذا شاء الله موت أحد منهم ، حصل له التي كانت من الطاعون بالقتل في [ ص: 305 ] سبيل الله الذي هو أعلى درجة ، ومن فاته ذلك منهم مات بالحمى التي هي حظ المؤمن من النار ، كل يوم منها يكفر سنة .

واستمر ذلك بالمدينة بعده صلى الله عليه وسلم تحقيقا لإجابة دعائه صلى الله عليه وسلم . نعم شاركتها في ذلك مكة المشرفة فلم يدخلها الطاعون فيما مضى من الزمان كما يرويه ابن قتيبة في "المعارف" ، ونقله جماعة من العلماء عنه وأقروه إلى زمان الإمام النووي رحمه الله . ذكر ذلك في كتاب "الأذكار" وغيره ، لكن قد قيل إنه دخلها بعد ذلك في الطاعون العام الذي وقع في سنة تسع وسبعين وسبعمائة ، صرح بذلك غير واحد من أهل ذلك الزمان .

الثاني : منع الطاعون عن المدينة معجزة عظيمة؛ لأن الأطباء من أولهم إلى آخرهم عجزوا أن يدفعوا الطاعون عن بلد من البلاد ، بل عن قرية من القرى ، وقد امتنع الطاعون عن المدينة بدعائه صلى الله عليه وسلم هذه المدة الطويلة .

الثالث : ظاهر الأحاديث أن الدجال يدخل جميع البلاد ، وبذلك قال الجمهور ، وشذ ابن حزم فقال : "المراد أن يدخله بغتة هو وجنوده . وكأنه استبعد إمكان دخول الدجال جميع البلاد لقصر مدته ، وغفل عما ثبت في صحيح مسلم أن بعض أيامه يكون قدر السنة .

الرابع : في بيان غريب ما سبق :

"الأنقاب" : بالقاف جمع نقب بفتح النون والقاف بعدها موحدة ، والنقاب بالكسر جمع نقب بالسكون وهما بمعنى ، والمراد : الطريق في الجبل وغيره .

"السبخة" : بفتح السين المهملة والباء الموحدة والخاء المعجمة : موضع بالمدينة بين موضع الخندق وبين جبل سلع .

"ترجف المدينة" : أي يحصل بها زلزلة بعد أخرى ، ثم ثالثة حتى يخرج منها من ليس مخلصا في إيمانه ، ويبقى بها الدين الخالص ، فلا يسلط عليها الدجال ، ولا يعارض هذا ما في حديث أبي بكر : "لا يدخل المدينة رعب الدجال" لأن المراد بالرعب ما يحدث من الفزع من ذكره ، والخوف من عتوه ، لا الرجفة التي تقع بالزلزلة لإخراج من ليس بمخلص .

"صلتا" : أي مجردا من غمده .

"المخصرة" : بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الصاد المهملة ، وهي العصا أو نحوها ، يأخذها الرجل بيده .

"يوشك" : أي يقرب . [ ص: 306 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية