سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
تنبيهات

الأول : قال في "الروض" :

قوله صلى الله عليه وسلم : "أحبوا الله من كل قلوبكم" ،

يريد أن تستغرق محبة الله تعالى جميع أجزاء القلب ، فيكون ذكره وعمله خارجا من قلبه خالصا لله . وتقدم الكلام على محبته لعبده ، ومحبة العبد لربه في اسمه صلى الله عليه وسلم : "حبيب الله" .

وقوله صلى الله عليه وسلم : "ولا تملوا كلام الله وذكره . فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي"

قال السهيلي : الهاء في قوله : (فإنه ) لا يجوز أن تكون عائدة على كلام الله تعالى ، ولكنها [ ص: 333 ] ضمير الأمر والحديث ، فكأنه قال : إن الحديث من كل ما يخلق الله يختار ، فالأعمال إذا كلها من خلق الله ، قد اختار منها ما شاء ، قال سبحانه : وربك يخلق ما يشاء ويختار

وقوله : "قد سماه الله خيرته من الأعمال" ، يعني الذكر وتلاوة القرآن [لقوله سبحانه :

"ويختار" فقد اختاره من الأعمال] . وقوله : "والمصطفى من عباده" : أي سمى المصطفى من عباده بقوله تعالى : الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس [الحج 75] ويجوز أن يكون معناه : المصطفى من عباده ، أي العمل الذي اصطفاه منهم واختاره من أعمالهم ، فلا تكون "من" على هذا للتبعيض ، إنما تكون لابتداء الغاية ، لأنه عمل استخرجه منهم لتوفيقه إياهم ، والتأويل الأول أقرب مأخذا . والله أعلم بما أراد رسوله" .

وقوله في أول الخطبة : "إن الحمد لله أحمده" ، هكذا برفع الدال [من قوله : الحمد لله] وجدته مقيدا مصححا عليه ، وإعرابه ليس على الحكاية ، ولكن على إضمار الأمر ، كأنه قال : "إن الأمر الذي أذكره" ، حذف الهاء العائدة على الأمر كي لا يقدم شيئا في اللفظ من الأسماء على قوله : "الحمد لله" . وليس تقديم "إن" في اللفظ من باب تقديم الأسماء لأنها حرف مؤكد لما بعده ، مع ما في اللفظ من التحري للفظ القرآن والتيمن به ، والله أعلم .

الثاني : اختلف في تسمية اليوم بذلك ، مع أنه كان اتفاقا يسمى في الجاهلية :

"العروبة" - بفتح المهملة وضم الراء وبالموحدة- قلت : قال أبو جعفر النحاس في كتابه :

"صناعة الكتابة" : لا يعرفه أهل اللغة إلا بالألف واللام إلا شاذا ، ومعناه : اليوم المبين المعظم ، من أعرب : إذا بين . فقيل : سمي بذلك لأن الخلائق جمعت فيه ، ذكره أبو حذيفة البخاري في "المبتدأ" عن ابن عباس ، وإسناده ضعيف . وقيل : لأن خلق آدم جمع فيه .

وروى الإمام أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن أبي حاتم عن سلمان رضي الله عنه قال :

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتدري ما يوم الجمعة؟" قلت : الله ورسوله أعلم . قالها ثلاث مرات . قال في الثالثة : "هو اليوم الذي جمع فيه أبوكم آدم" .

الحديث ، وله شاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه ، رواه ابن أبي حاتم بإسناد قوي ، والإمام أحمد مرفوعا بإسناد ضعيف . قال الحافظ : "وهذا أصح . ويليه ما رواه عبد الرزاق عن ابن سيرين بسند صحيح إليه ، في قصة تجميع الأنصار ، مع أسعد بن زرارة . وكانوا يسمون يوم الجمعة يوم العروبة ، صلى بهم فيه وذكرهم ، فسموه يوم الجمعة حين اجتمعوا إليه" . وقيل : "سمي بذلك لاجتماع الناس للصلاة فيه" . وبهذا جزم ابن حزم فقال : إنه اسم إسلامي لم يكن في الجاهلية ، وإنما كان يسمى العروبة . وفيه نظر ، فقد قال أهل اللغة : إن العروبة اسم قديم كان للجاهلية ، وقالوا : الجمعة هو يوم العروبة . والظاهر أنهم غيروا الأيام السبعة بعد أن كانت : أول وأهون وجبار ودبار ومؤنس وعروبة وشيار . [ ص: 334 ]

وقال الجوهري : وكانت العرب تسمي يوم الاثنين "أهون" في أسمائهم القديمة . فهذا يشعر بأن لها أسماء ، وهي هذه المتعارفة إلى آخرها الآن . وقيل : إن أول من سمى العروبة "الجمعة" كعب بن لؤي ، فيحتاج من قال إنهم غيروها إلى الجمعة ، فأبقوها على تسمية العروبة إلى نقل خاص .

الثالث : تقدم أن صلاة الجمعة صلتها الصحابة بالمدينة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، فقيل : ذلك بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم ، لما رواه الدارقطني عن ابن عباس ، قال : أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجمعة قبل أن يهاجر ، ولم يستطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بمكة ولا [يبدي] لهم ،

فكتب إلى مصعب بن عمير رضي الله عنه : "أما بعد ، فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم ، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم ، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى الله تعالى بركعتين" .

قال : فأول من جمع مصعب بن عمير ، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فجمع عند الزوال من الظهر ، وأظهر ذلك . وفي سنده أحمد بن محمد بن غالب الباهلي ، وهو متهم بالوضع . قال في "الزهر" : "والمعروف في هذا المتن الإرسال ، رويناه في كتاب "الأوائل" لأبي عروبة الحراني" قال : "حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا ابن وهب ، حدثنا ابن جريج عن سليمان بن موسى ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى مصعب به" . وقيل باجتهاد الصحابة ، روى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين قال : جمع أهل المدينة قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقبل أن تنزل الجمعة ، فقالت الأنصار : إن لليهود يوما يجمعون فيه كل سبعة أيام ، وللنصارى مثل ذلك ، فهلموا فلنجعل يوما نجمع فيه فنذكر الله ونصلي ونشكر . فجعلوه يوم العروبة ، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة ، فصلى بهم يومئذ ، وأنزل الله تعالى بعد ذلك : يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله [الجمعة 9] قال الحافظ : وهذا وإن كان مرسلا ، فله شاهد بإسناد حسن ، رواه أبو داود وابن ماجه ، وصححه ابن خزيمة وغير واحد ، من حديث كعب بن مالك قال : "كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أسعد بن زرارة" ، الحديث ، وقد تقدم ، فمرسل ابن سيرين يدل على أن أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة باجتهاد ، ولا يمنع ذلك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي وهو بمكة ، فلم يتمكن من إقامتها كما في حديث ابن عباس والمرسل بعده ، ولذلك جمع بهم أول ما قدم المدينة كما حكاه ابن إسحاق وغيره ، وعلى هذا فقد حصلت الهداية للجمعة بخبر نبي البيان والتوفيق . وقيل : الحكمة في اختيارهم الجمعة وقوع خلق آدم فيه ، والإنسان إنما خلق للعبادة ، فناسب أن يشتغل بالعبادة فيه ، وكان الله تعالى أكمل فيه الموجودات وأوجد فيه الإنسان الذي ينتفع بها ، فناسب أن يشكر الله على ذلك بالعبادة فيه ، ولهذا تتمة تأتي في الخصائص إن شاء الله تعالى . [ ص: 335 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية