سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الصحابة في بناء المسجد ، بنفسه الكريمة ، كما في الصحيح أنه طفق ينقل معهم اللبن ترغيبا لهم في العمل" ويقول :


اللهم إن الأجر أجر الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة

ويذكر أن هذا البيت لعبد الله بن رواحة ، وعن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول :

اللهم لا خير إلا خير الآخرة ، فارحم المهاجرين والأنصار . وكان لا يقيم الشعر .


وروى محمد بن الحسن المخزومي عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت : "بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده فقرب اللبن وما يحتاجون إليه ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع رداءه ، فلما رأى ذلك المهاجرون الأولون والأنصار ألقوا أرديتهم وأكسيتهم ، وجعلوا يرتجزون ويعملون ويقولون :


لئن قعدنا والنبي يعمل     ذاك إذا للعمل المضلل

وروى البيهقي عن الحسن قال : لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد أعانه أصحابه وهو معهم يتناول اللبن حتى اغبر صدره . وكان عثمان بن مظعون رجلا متنطعا ، وكان يحمل اللبنة فيجافي بها ثوبه ، فإذا وضعها نفض كمه ونظر إلى ثوبه ، فإن أصابه شيء من التراب نفضه ، فنظر إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأنشد يقول :


لا يستوي من يعمر المساجدا     يدأب فيها قائما وقاعدا


ومن يرى عن الغبار حائدا



فسمعها عمار بن ياسر ، فجعل يرتجز بها وهو لا يدري من يعني بها .

فمر بعثمان فقال :

يا بن سمية ، ما أعرفني بمن تعرض ، ومعه جريدة ، فقال : لتكفن أو لأعترضن بها وجهك .

فسمعه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ، فغضب ثم قال : "إن عمار بن ياسر جلدة ما بين عيني وأنفي ، فإذا بلغ ذلك من المرء فقد أبلغ" . ووضع يده بين عينيه . فكف الناس عن عمار ، ثم قالوا لعمار : إن النبي- صلى الله عليه وسلم- قد غضب فيك ، ونخاف أن ينزل فينا قرآن . فقال : أنا أرضيه كما غضب . فقال :

يا رسول الله ما لي ولأصحابك؟ قال : "ما لك ولهم" ؟ قال : يريدون قتلي ، يحملون لبنة لبنة ويحملون علي لبنتين لبنتين . فأخذ بيده وطاف به في المسجد ، وجعل يمسح وفرته بيديه من التراب ويقول : "يا بن سمية ، ليسوا بالذين يقتلونك ،
تقتلك الفئة الباغية ، تدعوهم إلى الجنة ويدعونك إلى النار" ، ويقول عمار : أعوذ بالله من الفتن .
[ ص: 337 ]

وروى عبد الرزاق بسند على شرط الشيخين عن أم سلمة ، والبخاري والبيهقي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : "لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد ، جعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل كل رجل منهم لبنة لبنة ، وعمار يحمل لبنتين : لبنة عنه ولبنة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره وقال : "يا بن سمية للناس أجر ولك أجران ، وآخر زادك شربة من لبن ، وتقتلك الفئة الباغية ، تدعوهم إلى الجنة ويدعونك إلى النار" ، وعمار يقول : "أعوذ بالله من الفتن" .

وروى أبو يعلى برجال الصحيح -إلا أن التابعي لم يسمع- عن عائشة رضي الله عنها قالت : "لما أسس رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد المدينة جاء بحجر فوضعه ، وجاء أبو بكر بحجر فوضعه ، وجاء عمر بحجر فوضعه ، وجاء عثمان بحجر فوضعه ، قالت : فسئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال : "هذا أمر الخلافة من بعدي" .

وروى البيهقي بسند قوي جيد عن سفينة رضي الله عنه نحوه ، وفيه قال : "هؤلاء ولاة الأمر من بعدي" .

وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنهم كانوا يحملون اللبن إلى بناء المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : "فاستقبلت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو عارض لبنة على بطنه ، فظننت أنها شقت عليه ، فقلت : "يا رسول الله ناولنيها" . فقال : "خذ غيرها ، لا عيش إلا عيش الآخرة" .

وهذا كان في بنائه المرة الثانية ، لأن أبا هريرة لم يسلم في الأولى .

وروى يحيى بن الحسن عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن أبيه ، قال : "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه حجر ، فلقيه أسيد بن حضير ، فقال : يا رسول الله أعطنيه . فقال : "اذهب فاحتمل غيره ، فإنك لست بأفقر إلى الله مني" .

وروى الإمام أحمد ويحيى بن الحسن عن طلق بن علي رضي الله عنه قال : أتيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يبني المسجد ، والمسلمون يعملون فيه معه ، وكنت صاحب علاج وخلط طين ، فأخذت المسحاة أخلط الطين والنبي- صلى الله عليه وسلم- ينظر إلي ويقول : "إن هذا الحنفي لصاحب طين" . وكان يقول : "قربوا اليمامي من الطين ، فإنه أحسنكم له مسكا وأشدكم منكبا" . [ ص: 338 ]

وروى يحيى بن الحسن من طريق عبد العزيز بن عمر ، عن يزيد بن السائب ، عن خارجة بن زيد بن ثابت رضي الله عنه ، قال : "بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مسجده سبعين في ستين ذراعا أو يزيد ، ولبن لبنة من بقيع الخبخبة وجعله جدارا ، وجعل سواريه خشبا شقة شقة ، وجعل وسطه رحبة ، وبنى بيتين لزوجتيه" .

وروى يحيى أيضا عن جعفر بن محمد عن أبيه قال : كان بناء مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالسميط لبنة على لبنة ، ثم بالسعيد لبنة ونصف أخرى ، ثم كثر الناس فقالوا : "يا رسول الله لو زيد فيه" ففعل ، فبنى بالذكر والأنثى ، وهي لبنتان مختلفتان ، وكانوا رفعوا أساسه قريبا من ثلاثة أذرع بالحجارة ، وجعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع ، وكذا في العرض ، وكان مربعا . وفي رواية جعفر : ولم يسطح فشكوا الحر ، فجعلوا خشبه وسواريه جذوعا وظللوه بالجريد ثم بالخصف ، فلما وكف عليهم طينوه بالطين ، وجعلوا وسطه رحبة ، وكان جداره قبل أن يسقف قامة وشيئا .

وروى يحيى عن [أسامة بن] زيد بن حارثة عن أبيه رضي الله عنهما أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جعل قبلته إلى بيت المقدس ، وجعل له ثلاثة أبواب في مؤخره : باب أبي بكر ، وهو في جهة القبلة اليوم ، وباب عاتكة الذي يدعى باب عاتكة ويقال له باب الرحمة ، والباب الذي كان يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو باب آل عثمان اليوم ، وهذان البابان لم يغيرا بعد أن صرفت القبلة ، ولما صرفت القبلة سد النبي صلى الله عليه وسلم الباب الذي كان خلفه ، وفتح هذا الباب ، وحذاه هذا الباب ، أي ومحاذيه هذا الباب الذي سد .

وروى ابن زبالة عن جعفر بن محمد أن النبي- صلى الله عليه وسلم- بنى مسجده مرتين : بناه حين قدم أقل من مائة في مائة ، فلما فتح الله عليه خيبر بناه وزاد عليه مثله في الدور . وروى الزبير بن بكار عن أنس رضي الله عنه أنه قال : بنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسجده أول ما بناه بالجريد ، وإنما بناه باللبن بعد الهجرة بأربع سنين .

وروى الطبراني عن أبي المليح أنه قال : "قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لصاحب البقعة التي زيدت في مسجد المدينة ، وكان صاحبها من الأنصار ، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- : "لك بها بيت في الجنة" .

قال : فجاء عثمان ، فقال له : لك بها عشرة آلاف درهم ، فاشتراها منه ، ثم جاء عثمان إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال : يا رسول الله اشتر مني البقعة التي اشتريتها من الأنصاري ، فاشتراها منه ببيت في الجنة . فقال عثمان : إني اشتريتها بعشرة آلاف درهم ، فوضع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لبنة ، ثم دعا أبا بكر فوضع لبنة ، ثم دعا عمر فوضع لبنة ، ثم دعا . [ ص: 339 ]

عثمان فوضع لبنة ، ثم قال للناس : "ضعوا" ، فوضعوا
.

وروى الإمام أحمد والترمذي وحسنه في حديث قصة إشراف عثمان يوم الدار ، عن ثمامة بن حزن القشيري ، والإمام أحمد والدارقطني عن الأحنف بن قيس ، أن عثمان رضي الله عنه ، أشرف على الناس فقال : "أهاهنا علي" ؟ قالوا : نعم . قال : "أهاهنا طلحة" ؟ قالوا : نعم . قال :

"أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو ، أتعلمون

أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال : "من يبتاع بقعة بني فلان فليزيدها في المسجد بخير منها في الجنة" ؟

وفي رواية : "غفر الله له" . فاشتريتها من صلب مالي بعشرين ألفا ، فأتيت النبي- صلى الله عليه وسلم- فقلت : قد ابتعتها . فقال : "اجعلها في مسجدنا ولك أجرها" . قالوا : "اللهم نعم"
.

وروى الزبير بن بكار عن نافع بن جبير ، وداود بن قيس ، وابن شهاب وإسماعيل بن عبد الله الأزدي عن رجل من الأنصار ، والطبراني بسند رجاله ثقات ، عن الشموس بنت النعمان رضي الله عنها ، ويحيى بن الحسن عن الخليل بن عبد الله الأسدي عن رجل من الأنصار ، عن ابن عجلان والغرافي- بالغين المعجمة والفاء في ذيله- عن مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن ابن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أقام رهطا على زوايا المسجد ليعدل القبلة ، فأتاه جبريل ، فقال : "يا رسول الله ضع القبلة وأنت تنظر إلى الكعبة" ، ثم قال بيده هكذا ، فانماط كل جبل بينه وبينها ، فوضع تربيع المسجد ، وهو ينظر إلى الكعبة لا يحول دون نظره شيء .

فلما فرغ قال جبريل بيده فأعاد الجبال والشجر والأشياء على حالها ، وصارت قبلته إلى الميزاب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما وضعت قبلة مسجدي هذا حتى رفعت لي الكعبة فوضعتها أمامها"
.

وقال الإمام مالك رحمه الله كما في "العتبية" : "سمعت أن جبريل هو الذي أقام لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبلة مسجد المدينة" . وروى البخاري وأبو داود عن نافع ، وأبو داود عن طريق ابن عطية ، كلاهما عن ابن عمر رضي الله عنهما أن مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كانت سواريه على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من جذوع النخل ، وأعلاه مظلل بجريد النخل ، ثم أنها نخرت في خلافة أبي بكر ، فبناه بجذوع النخل وبجريد النخل ، ولم يزد فيه ، وزاد فيه عمر ، وبناه على بنائه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد ، وأعاد عمده خشبا ، ثم أنها نخرت في خلافة عثمان ، فزاد فيه زيادة كبيرة ، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة ، وجعل عمده من حجارة [ ص: 340 ] منقوشة وسقفه بالساج . زاد في "العيون" : ونقل إليه الحصباء من العقيق .

وأول من اتخذ فيه المقصورة مروان بن الحكم ، بناها بحجارة منقوشة [وجعل لها كوى] ، ثم لم يحدث فيه شيئا إلى أن ولي الوليد بن عبد الملك بن مروان بعد أبيه ، فكتب إلى عمر بن عبد العزيز عامله على المدينة يأمره بهدم المسجد وبنائه ، وبعث إليه بمال وفسيفساء ورخام وثمانين صانعا من الروم والقبط من أهل الشام ومصر ، فبناه وزاد فيه ، وولى القيام بأمره والنفقة عليه صالح بن كيسان وذلك في سنة سبع وثمانين ويقال : من سنة ثمان وثمانين .

ولم يحدث فيه أحد من الخلفاء شيئا حتى استخلف المهدي . قال محمد بن عمر :

بعث المهدي عبد الملك بن شبيب الغساني ورجلا من ولد عمر بن عبد العزيز إلى المدينة لبناء مسجدها والزيادة فيه ، وعليها يومئذ جعفر بن سليمان بن علي ، فمكثا في عمله سنة ، وزاد في مؤخره مائة ذراع ، فصار طوله ثلاثمائة ذراع وعرضه مائتي ذراع . وقال علي بن محمد المدائني : "ولى المهدي جعفر بن سليمان مكة والمدينة واليمامة ، فزاد في مكة ومسجد المدينة ، وتم بناء مسجد المدينة في سنة اثنتين وستين ومائة . وكان المهدي أتى إلى المدينة في سنة ستين ومائة قبل الحج ، فأمر بقلع المقصورة وتسويتها مع المسجد ، ويقال إن المأمون عمره أيضا وزاد فيه . والله أعلم .

ثم لم يزد فيه شيئا أحد من الخلفاء بعد المأمون ، ولم يعمروا إلا مواضع يسيرة ، إلى أن حصل الحريق [في المسجد النبوي] في أول شهر رمضان سنة أربع وخمسين وستمائة أول الليل ، لدخول أبي بكر بن أوحد الفراش الحاصل الذي في الزاوية الغربية لاستخراج قناديل لمنائر المسجد ، وترك الضوء الذي كان في يده على قفص من أقفاص القناديل وفيه مشاق ، فاشتعلت النار فيه وأعجزه إطفاؤها ، وعلقت ببسط وغيرها مما في الحاصل ، وتزايد الالتهاب حتى اتصلت بالسقف بسرعة [ثم دبت في السقوف] آخذة قبلة ، فأعجلت الناس عن إطفائها بعد أن نزل أمير المدينة واجتمع معه غالب أهلها ، فلم يقدروا على قطعها ، وما كان إلا أقل من القليل حتى استولى الحريق على جميع سقف المسجد الشريف ، وما احتوى من المنبر النبوي والأبواب والخزائن والمقاصير والصناديق ، ولم تبق خشبة واحدة ، وكذا الكتب ، وكسوة الحجرة الشريفة . قال القطب القسطلاني : وكان عليها حينئذ إحدى عشرة ستارة ، وأزالت النار تلك الزخارف التي لا ترضى ، وشوهد من هذه النار صفة القهر والعظمة الإلهية مستولية على الشريف والمشروف . وكان هذا الحريق عقب ظهور نار الحجاز المنذر بها من أرض المدينة ، وحماية أهلها منها لما التجأوا إلى مسجدها ، فانطفأت عند وصولها لحرمها . قلت : وسيأتي بيان ذلك في المعجزات إن شاء الله تعالى . [ ص: 341 ]

وربما خطر ببال العوام أن حبسها عنهم ببركة الجوار موجب لحبسها عنهم في الآخرة ، مع اقتراف الأوزار ، فاقتضى الحال البيان بلسان الحال الذي هو أفصح من لسان المقال . والنار مطهرة لأدناس الذنوب ، وقد كان [ذلك] لاستيلاء الروافض حينئذ [على المسجد النبوي والمدينة] وكان القاضي والخطيب منهم ، وأساءوا الأدب كما بسط ذلك ابن جبير في رحلته ، ولذا وجد عقب الحريق على جدران المسجد :


لم يحترق حرم النبي لريبة     يخشى عليه وما به من عار
لكنها أيدي الروافض لامست     تلك الرسوم فطهرت بالنار

ووجد أيضا :


قل للروافض بالمدينة ما بكم     لقيادكم للذم كل سفيه
ما أصبح الحرم الشريف محرقا     إلا لسبكم الصحابة فيه

ولم يسلم من الحريق سوى القبة التي أحدثها الناصر لدين الله لحفظ ذخائر الحرم .

قال المؤرخون : وبقيت سواري المسجد قائمة كأنها جذوع النخل ، إذا هبت الرياح تتمايل ، وذاب الرصاص من بعض الأساطين فسقطت ، ووقع السقف الذي كان على أعلى الحجرة الشريفة على سقف بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوقعا جميعا في الحجرة الشريفة وعلى القبور المقدسة .

وفي صبيحة الجمعة عزلوا موضعا للصلاة ، وكتبوا بذلك للخليفة المستعصم بالله [أبي أحمد عبد الله] بن المستنصر بالله [في شهر رمضان] ، فوصلت الآلات صحبة الصناع مع ركب العراق في الموسم ، وابتدئ بالعمارة أول سنة خمس وخمسين وستمائة ، وقصدوا إزالة ما وقع من السقوف على القبور الشريفة ، فلم يجسروا على ذلك . واتفق رأي [صاحب المدينة يومئذ وهو] الأمير منيف بن شيحة [بن هاشم بن قاسم بن مهنئ الحسيني] مع رأي أكابر الحرم الشريف أن يطالع الإمام المستعصم بالله بذلك ، فيفعل ما يصل إليه أمره . فأرسلوا بذلك فلم يصل جوابه لاشتغاله وأهل دولته بإزعاج التتار لهم ، واستيلائهم على أعمال بغداد في تلك السنة . فتركوا الردم على حاله ولم ينزل أحد هناك . زاد المجد اللغوي : ولم يجسر أحد على التعرض لهذه العظيمة التي دون مرامها تزل الأقدام ، ولا يتأتى من كل أحد بادئ بدئه الدخول فيه والإقدام . ووصلت الآلات من صاحب اليمن [يومئذ وهو الملك] المظفر شمس الدين يوسف بن المنصور عمر بن رسول . ثم عزل صاحب مصر ، وتولى مكانه مملوك أبيه المظفر سيف الدين قطز المعزي ، واسمه الحقيقي محمود بن ممدود ، وأمه أخت السلطان جلال الدين خوارزم شاه ، وأبوه ابن عمه ، أسر عند غلبة التتار ، فبيع بدمشق ، ثم [انتقل بالبيع إلى] مصر . [ ص: 342 ]

وتملك في ثامن عشر ذي القعدة من سنة سبع [وخمسين وستمائة] . وفي شهر رمضان من سنة ثمان أعز الله تعالى الإسلام على يده بوقعة عين جالوت . ثم قتل بعد الموقعة بشهر وهو داخل إلى القاهرة .

وكان العمل بالمسجد الشريف في تلك السنة من باب السلام إلى باب الرحمة [المعروف قديما بباب عاتكة] ومن باب جبريل إلى باب النساء . وتولى مصر آخر تلك السنة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحي البندقداري ، فحصل منه اهتمام بأمر المسجد ، فجهز الأخشاب والحديد والرصاص ، ومن الصناع ثلاثة وخمسين صانعا ، وما يمونهم ، وأنفق عليهم قبل سفرهم ، وأرسل معهم الأمير جمال الدين محسن الصالحي وغيره ، ثم صار يمدهم بما يحتاجون إليه من الآلات والنفقات . فعمل في أيامه باقي سقف المسجد كما كان قبل الحريق سقفا فوق سقف ، إلا السقف الشمالي فإنه جعل سقفا واحدا .

ولم يزل المسجد على ذلك حتى جدد السقف الشرقي والسقف الغربي اللذان عن يمين صحن المسجد وشماله ، وذلك في سنتي خمس وست وسبعمائة في أوائل دولة الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي ، فجعلا سقفا واحدا شبه السقف الشمالي [أي سقف الدكاك] . ثم في سنة تسع وعشرين وسبعمائة أمر الملك الناصر محمد المذكور بزيادة رواقين [في المسقف القبلي] متصلين بمؤخره ، فاتسع مسقفه بهما وعم نفعهما . ثم حصل في هذين الرواقين خلل ، فجددهما الملك الأشرف برسباي سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة من مال جوالي قبرص . وجدد الأشرف أيضا شيئا من السقف الشامي [مما يلي المنارة السنجارية] .

ثم حصل خلل في سقف الروضة الشريفة وغيرها من سقف المسجد في دولة الظاهر جقمق ، فجدد ذلك في سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة . ثم جدد السلطان الملك الأشرف قايتباي كثيرا من سقف المسجد ، ثم احترق المسجد النبوي ثانيا في الثلث الأخير من ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان ، سنة ست وثمانين وثمانمائة ، وذلك أن رئيس المؤذنين وصدر المدرسين شمس الدين محمد بن الخطيب قام يهلل حينئذ بالمنارة الشرقية اليمانية المعروفة بالريسية ، وصعد المؤذنون بقية المنائر ، وقد تراكم الغيم وحصل رعد قاصف ، فسقطت صاعقة أصاب بعضها هلال المنارة المذكورة ، فسقط شرقي المسجد لهب كالنار ، وانشق رأس المئذنة ، وتوفي الريس لحينه صعقا . وأصاب ما نزل من الصاعقة سقف المسجد الأعلى بين المنارة الرئسية وقبة الحجرة النبوية ، فثقبه ثقبا كالترس ، فعلقت النار فيه وفي السقف الأسفل ، ففتحت أبواب المسجد ، ونودي بأن الحريق في المسجد .

فاجتمع أمير المدينة قسطل بن زهير الجمازي وأهلها بالمسجد الشريف ، وصعد أهل [ ص: 343 ]

النجدة منهم بالمياه لإطفاء النار ، وقد التهبت سريعا في السقفين ، وأخذت في جهة الشمال والغرب ، فعجزوا عن إطفائها وكادت أن تدركهم فهربوا . وسقط بعضهم فهلك ، ونجا بعضهم مع من حالت النار بينه وبين الأبواب إلى صحن المسجد . وجملة من مات بسبب ذلك بضع عشرة نفسا . وعظمت النار جدا حتى صارت كبحر لجي من نار ، ولها زفير وشهيق وألسن تصعد في الجو ، وصارت ترمي بشرر كالقصر ويسقط بالبيوت المجاورة ، ومع ذلك فلا تؤثر فيها . وحمل بعض خزائن الكتب والربعات والمصاحف غير ما بادروا بإخراجه ، وذلك كله في نحو عشرة أدراج فأصابها الشرر فأحرقها . وأخبر أمير المدينة قسطل الجمازي أن شخصا من العرب الصادقين رأى في المنام قبل ذلك بليلة أن السماء فيها جراد منتشر ثم أعقبته نار عظيمة ،

فأخذ النبي- صلى الله عليه وسلم- النار وقال : "أمسكها عن أمتي" .

قال السيد : وأخبرني جماعة أنهم شاهدوا أشكال طيور بيض تحوم حول النار كالذي يكفها عن بيوت الجيران ، مع هرب كثير منهم لما رأوا تساقط الشرر . وخرج بعضهم من باب المدينة لعظم ما شاهدوه من الهول ، وظنوا أنهم قد أحيط بهم ، ثم خمدت النار ثاني يوم ، وأرسلوا للسلطان قايتباي يعلمونه بذلك ، فاهتم بذلك رحمه الله تعالى الذي أهله لهذا الأمر ، وعمر المسجد الشريف والحجرة الشريفة العمارة المحكمة الموجودة في زماننا .

التالي السابق


الخدمات العلمية