سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الباب الثالث : في بنائه صلى الله عليه وسلم حجر نسائه رضي الله عنهن

قال في "الروض" : "كانت بيوته صلى الله عليه وسلم تسعة : بعضها من جريد مطين بالطين وسقفها من جريد ، وبعضها من حجارة مرضومة بعضها فوق بعض ، وسقفها من جريد أيضا" . قال الحافظ الذهبي في "بلبل الروض" : "لم يبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم بني له تسعة أبيات حتى بنى المسجد ، ولا أحسبه فعل ذلك ، إنما كان يريد بيتا واحدا لسودة أم المؤمنين رضي الله عنها . ولم يحتج إلى بيت آخر حتى بنى لعائشة رضي الله عنها في شوال سنة اثنتين ، وكان صلى الله عليه وسلم بناها في أوقات مختلفة" . انتهى .

وتقدم في الباب الثاني أنه صلى الله عليه وسلم بنى لزوجيه : سودة وعائشة رضي الله عنهما ، على نعت بناء المسجد ، لأن عائشة كانت زوجه حينئذ ، وإن تأخر الدخول بها ، ثم بنى بقية الحجر عند الحاجة إليها .

قال محمد بن عمر الأسلمي : "كانت لحارثة بن النعمان رضي الله عنه منازل قرب المسجد وحوله ، وكلما أحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلا نزل له حارثة عن منزل ، أي محل حجرة ، حتى صارت منازله كلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه" . "قال محمد بن عمر : "حدثنا عبد الله بن يزيد الهذلي قال : رأيت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين هدمها عمر بن عبد العزيز بأمر الوليد بن عبد الملك ، كانت بيوتا من اللبن ، ولها حجر من جريد مطرورة بالطين ، عددت تسعة أبيات بحجرها ، وهي ما بين بيت عائشة إلى الباب الذي يلي باب النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزل أسماء بنت حسن اليوم . قال : ورأيت بيت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وحجرتها من اللبن ، فسألت ابن ابنها فقال :

لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم دومة الجندل بنت أم سلمة حجرتها بلبن . فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى اللبن ودخل عليها أول نسائه فقال : "ما هذا البناء" ؟ فقالت : "أردت يا رسول الله أن أكف أبصار الناس" . فقال : "يا أم سلمة إن شر ما ذهب فيه مال المسلم البنيان" .

قال محمد بن عمر : فحدثت بهذا الحديث معاذ بن محمد الأنصاري فقال : "سمعت عطاء الخراساني في مجلس فيه عمران بن أبي أنس يقول وهو فيما بين القبر الشريف والمنبر المنيف : أدركت حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم [من جريد ، على أبوابها المسوح من شعر أسود ، فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يقرأ ، يأمرنا بهدم حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم] ، فما رأيت يوما كان أكثر باكيا من ذلك اليوم . قال عطاء : "فسمعت سعيد بن المسيب يقول يومئذ : [ ص: 349 ] "والله لوددت أنهم تركوها على حالها ، ينشأ ناشئ من أهل المدينة ، ويقدم القادم من الآفاق فيرى ما اكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ، فيكون ذلك مما يزهد الناس في التفاخر والتكاثر" قال معاذ : "فلما فرغ عطاء الخراساني من حديثه قال عمران بن أبي أنس : كان فيها أربعة أبيات بلبن ، لها حجر من جريد ، وكانت خمسة أبيات من جريد مطينة لا حجر لها ، على أبوابها مسوح الشعر ، ذرعت الساتر فوجدته ثلاثة أذرع في ذراع وعظم الذراع أو أدنى من العظم . فأما ما ذكر من البكاء يومئذ ، فلقد رأيتني في المسجد وفيه نفر من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، منهم أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، وأبو أمامة بن سهل بن حنيف ، وخارجة بن زيد بن ثابت ، وإنهم ليبكون حتى أخضلوا لحاهم من الدمع . وقال يومئذ أبو أمامة : "ليتها تركت فلم تهدم حتى يفصل الناس عن البناء ، ويروا ما رضي الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ، ومفاتيح خزائن الدنيا بيده" وروى ابن سعد ، والبخاري في "الأدب" ، وابن أبي الدنيا ، والبيهقي في "الشعب" عن الحسن البصري قال : "كنت وأنا مراهق أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان فأتناول سقفها بيدي" وروى البخاري في "الأدب" ، وابن أبي الدنيا ، والبيهقي عن داود بن قيس قال : "رأيت الحجر من جريد النخل تغشى من خارج بمسوح من الشعر ، وأظن عرض البيت من باب الحجرة إلى باب البيت نحوا من ست أو سبع أذرع ، وأحزر البيت من الداخل عشر أذرع ، وأظن سمكه بين الثمان والسبع" .

وروى محمد بن الحسن المخزومي عن محمد بن هلال قال : "أدركت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، كانت من جريد مستورة بمسوح الشعر ، مستطيرة في القبلة وفي المشرق وفي الشام ، ليس في غربي المسجد منها شيء ، وكان باب عائشة يواجه الشام ، وكان بمصراع واحد من عرعر أو ساج" . وروى ابن منده عن بشر بن صحار العبدي قال : "كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فأنال سقفها" . وروى ابن سعد عن عمرو بن دينار ، وعبيد الله بن أبي مرثد قالا :

"لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم على بيته من حائط ، فكان أول من بنى عليه جدارا عمر بن الخطاب رضي الله عنه" . قال عبيد الله : "كان جداره قصيرا ، ثم بناه عبد الله بن الزبير" .

التالي السابق


الخدمات العلمية