سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
تنبيهات

الأول : قال في "الروض" : "آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه حين نزلوا المدينة ، لتذهب عنهم وحشة الغربة ، ويؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة ، ويشد أزر بعضهم ببعض ، فلما عز الإسلام واجتمع الشمل وذهبت الوحشة أنزل الله سبحانه : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله [الأنفال 75] أعني في الميراث ، ثم جعل المؤمنين كلهم إخوة ، يعني في التواد وشمول الدعوة" .

الثاني : اختلف في ابتدائها ، فقيل بعد الهجرة بخمسة أشهر ، وقيل بتسعة ، وقيل وهو يبني المسجد ، وقيل قبل بنائه ، وقيل بسنة ، وقيل بثلاثة أشهر وقيل بدر ، وتقدم عن أنس بن مالك أن ذلك كان في داره ، وذكر أبو سعد النيسابوري في "الشرف" أن ذلك كان في المسجد . فالله أعلم .

الثالث : أنكر الواقدي مؤاخاة سلمان لأبي الدرداء؛ لأن سلمان إنما أسلم بعد وقعة أحد ، وأول مشاهده الخندق . وأجاب الحافظ بأن التاريخ المذكور [هو] للأخوة الثانية ، وهو ابتداء الأخوة ، واستمر صلى الله عليه وسلم يجددها بحسب من يدخل في الإسلام ويحضر إلى المدينة . [ ص: 368 ]

وليس باللازم أن تكون المؤاخاة وقعت وقعة واحدة حتى يرد هذا التعقيب . وبما أجاب به الحافظ يجاب به عن مؤاخاة أبي ذر والمنذر بن عمرو ، وعن مؤاخاة حذيفة وعمار ، وعن مؤاخاة جعفر ومعاذ بن جبل ، ويقال بأن معاذا أرصد لمؤاخاة جعفر حتى يقدم .

الرابع : نقل محمد بن عمر ، عن الزهري أنه أنكر كل مؤاخاة وقعت بعد بدر ، ويقول :

قطعت بدر المواريث . قال الحافظ رحمه الله تعالى : وهذا لا يدفع المؤاخاة من أصلها ، وإنما يدفع المؤاخاة المخصوصة التي كانت عقدت بينهم ليتوارثوا بها .

الخامس : أنكر الحافظ أبو العباس بن تيمية المؤاخاة بين المهاجرين ، وخصوصا مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه . قال : لأن المؤاخاة شرعت لإرفاق بعضهم بعضا ، ولتتألف قلوب بعضهم على بعض ، فلا معنى لمؤاخاته لأحد ، ولا لمؤاخاة مهاجري لمهاجري .

قال الحافظ : "وهذا رد للنص بالقياس ، وإغفال عن حكمة المؤاخاة؛ لأن بعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة والقوة ، فواخى بين الأعلى والأدنى ليرتفق الأدنى بالأعلى ، ويستعين الأعلى بالأدنى ، وبهذا تظهر حكمة مؤاخاته صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه ، لأنه هو الذي كان يقوم بعلي من عهد الصبا قبل البعثة واستمر ، وكذلك مؤاخاة حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة؛ لأن زيدا مولاهم ، فقد ثبتت أخوتهما وهما من المهاجرين ، وفي الصحيح في عمرة القضاء أن زيدا قال : "إن ابنة حمزة ابنة أخي" . وأخرج الحاكم وابن عبد البر بسند حسن عن أبي الشعثاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين الزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود ، وهما من المهاجرين ، وأخرجه الضياء المقدسي في "المختارة" ، وابن تيمية يصرح بأن أحاديث "المختارة" أصح وأقوى من أحاديث "المستدرك" ، قلت : يأتي الكلام مبسوطا على أخوة النبي صلى الله عليه وسلم في ترجمة علي رضي الله عنه عند ذكر تراجم العشرة إن شاء الله تعالى .

السادس :

روى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن حبان عن شعبة بن التوأم- بفتح الفوقية والهمزة- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا حلف في الإسلام" ،

زاد شعبة بن التوأم : "ولكن تمسكوا بحلف الجاهلية" . انتهى . "وأيما- وفي لفظ : كل- حلف كان في [ ص: 369 ] الجاهلية لم يزده الإسلام إلا حدة وشدة ، وما يسرني أن لي حمر النعم وأني نقضت الحلف الذي كان في دار الندوة" .

وروى البخاري في الكفالة وفي الاعتصام ، ومسلم في الفضائل ، وأبو داود في الفرائض عن عاصم بن سليمان الأحول قال : "قلت لأنس بن مالك : أبلغك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا حلف في الإسلام؟ قال : قد حالف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري" .

قال الطبراني : ما استدل به أنس على إثبات الحلف لا ينافي الأحاديث السابقة في نفيه ، فإن الإخاء المذكور كان في أول الهجرة ، وكانوا يتوارثون به ، ثم نسخ من ذلك الميراث ، وبقي ما لم يبطله القرآن ، وهو التعاون على الحق والنصر ، والأخذ على يد الظالم ، كما قال ابن عباس : "إلا النصر والنصيحة" ، ويوصي به ، فقد ذهب الميراث .

وقال الخطابي : قال ابن عيينة : حالف بينهم : أي آخى بينهم ، يريد أن معنى الحلف في الجاهلية معنى الحلف في الإسلام جار على أحكام الدين وحدوده ، وحلف الجاهلية جار على ما كانوا يتواضعونه بينهم ، فبطل منه ما خالف حكم الإسلام ، وبقي ما عدا ذلك على حاله .

والحلف- بكسر الحاء المهملة وسكون اللام بعدها فاء ، قال في "النهاية" : أصله المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق ، فما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال بين القبائل والغارات ، فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام

بقوله صلى الله عليه وسلم : "لا حلف في الإسلام" .

وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام كحلف المطيبين وما جرى مجراه فذلك الذي

قال فيه صلى الله عليه وسلم : "وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" ،

يريد من المعاقدة على الخير ونصرة الحق [وبذلك يجتمع الحديثان ، وهذا هو الحلف الذي يقتضيه الإسلام ، والممنوع منه ما خالف حكم الإسلام] والله سبحانه وتعالى أعلم . [ ص: 370 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية