سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
تنبيهات

الأول : تصوير ما ذكر من تحويل الرجال مكان النساء وتحويل النساء مكان الرجال : أن الإمام يتحول من مكانه في مقدم المسجد إلى مؤخره ، لأن من استقبل الكعبة بالمدينة فقد استدبر بيت المقدس ، وهو لو دار كما هو مكانه لم يكن خلفه مكان يسع الصفوف ، فلما تحول الإمام تحولت الرجال حتى صاروا خلفه ، وتحولت النساء حتى صرن خلف الرجال . وهذا يستدعي عملا كثيرا في الصلاة . ويحتمل أن ذلك وقع قبل تحريم العمل الكثير ، كما كان قبل تحريم الكلام ، ويحتمل أن يكون اغتفر العمل المذكور لأجل المصلحة المذكورة ، أو لم يتوال الخطأ عند التحويل بل وقعت متفرقة .

الثاني : اختلف في تاريخ تحويل القبلة ، فقال البراء بن عازب كما عند البخاري : كان على رأس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا . وقال ابن عباس كما عند ابن إسحاق ، وأبي داود في ناسخه : سبعة عشر شهرا . وكذا قال عمرو بن عوف كما عند البزار والطبراني . وقال ابن عباس [ ص: 373 ]

أيضا كما عند ابن أبي شيبة وأبي داود في ناسخه ، والطبراني والزهري كما عند البيهقي ، وسعيد بن المسيب كما عند الإمام مالك وأبي داود فيه ، وابن جرير وقتادة كما عند عبد بن حميد ، وابن المنذر "على رأس ستة عشر شهرا" . وقال أنس بن مالك كما عند البزار ، وابن جرير : تسعة عشر شهرا . قال الحافظ : "فطريق الجمع بين رواية ستة عشر وسبعة عشر شهرا ، ورواية الشك في ذلك : أن من جزم بستة عشر لفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهرا ، وألغى الأيام الزائدة ، ومن جزم بسبعة عشر عدهما معا ، ومن شك تردد في ذلك ، وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف ، وكان التحويل بعد الزوال في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح ، وبه جزم الجمهور ، ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس . وقول ابن حبان : سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام مبني على أن القدوم كان في ثاني ربيع الأول ، وأسانيد رواية ثلاثة عشر وثمانية عشر وتسعة عشر شهرا ، وعشرة أشهر ، ورواية شهرين ، ورواية سنتين هي أسانيد ضعيفة ، والاعتماد على الثلاثة الأول .

الثالث : اختلف في أي شهر كان تحويل القبلة . فقال محمد بن حبيب : في نصف شعبان ، وهو الذي ذكره النووي في "الروضة" وأقره ، مع كونه رجح في شرحه على صحيح مسلم رواية ستة عشر شهرا ، لكونها مجزوما بها عند مسلم . ولا يستقيم أن يكون ذلك في شعبان إلا بإلغاء شهري القدوم والتحويل . وجزم موسى بن عقبة بأن التحويل كان في جمادى الآخرة .

الرابع : اختلف في أي صلاة كان التحويل ، ففي الصحيح عن البراء بن عازب أن أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي صلاة العصر ، والأكثر على أنها صلاة الظهر . قال الحافظ :

والتحقيق أن أول صلاة صلاها في بني سلمة- بكسر اللام- الظهر ، وأول صلاة صلاها بالمسجد النبوي العصر ، وأما الصبح فهو لأهل قباء .

الخامس : اختلف في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وهو بمكة ، فروى ابن ماجه عن طريق أبي بكر بن عياش عن البراء أنه قال : "صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ثمانية عشر شهرا ، وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخول المدينة بشهرين" . وظاهره أنه كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس محضا . وحكى الزهري خلافا في أنه جعل الكعبة خلف ظهره ، أو أنه جعلها بينه وبين بيت المقدس ، وعلى الأول فكان يجعل الميزاب خلفه ، وعلى الثاني كان يصلي بين الركنين اليمانيين . وزعم ناس أنه لم يزل يستقبل الكعبة بمكة ، فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس ، ثم نسخ . قال الحافظ : "وهذا ضعيف ، ويلزم منه دعوى النسخ مرتين ، والأول أصح؛ لأنه يجمع بين القولين . وقد صححه الحاكم وغيره . وحمل أبو عمر هذا [ ص: 374 ]

القول على الثاني ، ويؤيده في حمله على ظاهره إمامة جبريل ، ففي بعض طرقه أن ذلك كان عند البيت . وروى ابن جرير وغيره بسند جيد قوي عن ابن عباس قال : "لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس" إلى آخره ، وظاهره أن استقبال بيت المقدس إنما وقع بعد الهجرة إلى المدينة ، لكن روى الإمام أحمد من وجه آخر عن ابن عباس قال : "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه" . ورواه ابن سعد أيضا وسنده جيد قوي ، والجمع بينهما ممكن ، بأن يكون أمر لما هاجر أن يستمر على الصلاة إلى بيت المقدس .

وقوله في حديث ابن عباس الأول : "أمره الله" يرد قول من قال : "أنه صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس باجتهاد" ، كما رواه ابن جرير عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وهو ضعيف .

وعن أبي العالية أنه صلى إلى بيت المقدس يتألف بذلك أهل الكتاب ، وهذا لا ينبغي إلا بتوقيف .

السادس : الذين ماتوا قبل فرض الصلاة وقبل تحويل القبلة من المسلمين عشر أنفس :

بمكة من قريش 1 عبد الله بن شهاب 2 والمطلب بن أزهر ، الزهريان ، 3 والسكران بن عمرو العامري . وبأرض الحبشة منهم : 4 حطاب بن الحارث الجمحي- حطاب بالحاء المهملة- 5 وعمرو بن أمية الأسدي ، 6 وعبد الله بن الحارث السهمي . 7 وعروة بن عبد العزى ، 8 وعدي بن نضلة- بالنون والضاد المعجمة- العدويان- ومن الأنصار بالمدينة : 9 البراء بن معرور- بمهملات ، 10 وأسعد بن زرارة . فهؤلاء العشرة متفق عليهم ، ومات في المدة أيضا إياس بن معاد الأشهلي ، لكنه مختلف في إسلامه .

السابع : وقع في رواية زهير بن معاوية في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه في صحيح البخاري وغيره : أنه مات على القبلة- أي قبلة بيت المقدس من قبل أن تحول [قبل البيت] - رجال قتلوا [فلم ندر ما نقول فيهم] . قال الحافظ : "ذكر القتل لم أره إلا في رواية الزهري ، وباقي الروايات إنما فيها ذكر الموت فقط ، ولم أجد في شيء من الأخبار أن أحدا من المسلمين قتل قبل تحويل القبلة ، لكن لا يلزم من عدم الذكر عدم الوقوع ، فإن كانت هذه اللفظة محفوظة فتحمل على أن بعض المسلمين ممن لم يشتهر قتل في تلك المدة في غير الجهاد ، ولم يضبط لقلة الاعتناء بالتاريخ إذ ذاك" . قال : "ثم وجدت في التاريخ ذكر رجل [ ص: 375 ] اختلف في إسلامه وهو سويد بن الصامت" فذكر ما تقدم في بدء إسلام الأنصار . ثم قال الحافظ : "فيحتمل أن يكون هو المراد" قال : وذكر لي بعض الفضلاء أنه يجوز أن يراد من قتل بمكة من المستضعفين ، كأبوي عمار ، فقلت : يحتاج إلى ثبوت أن قتلهما بعد الإسراء .

الثامن : في بيان غريب ما سبق :

"حجج" ، بكسر الحاء المهملة وفتح الجيم الأولى وكسر الثانية [أي سنين] .

"قبل" البيت- بكسر القاف وفتح الموحدة- : أي جهته .

"معرور" بعين مهملة .

"حانت" الصلاة : دنا وقتها . [ ص: 376 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية