سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
تنبيهات

الأول : دل حديث ابن مسعود على أن نزول هذه الآية كان بالمدينة ، وروى الإمام أحمد والترمذي وصححه ، والنسائي وابن حبان عن ابن عباس قال : قالت قريش ليهود : أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل . فقالوا : سلوه عن الروح . فنزلت : ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا . قالوا : "أوتينا علما كثيرا . أوتينا التوراة ، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا" . فأنزل الله عز وجل : قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا [الكهف 109] سند رجاله رجال صحيح مسلم ، ورواه ابن إسحاق من وجه آخر نحوه ، وسبق في باب امتحان المشركين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأشياء لا يعرفها إلا نبي .

وروى ابن إسحاق وابن جرير عن عطاء بن يسار قال : نزلت بمكة : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا

فلما هاجر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة أتاه أحبار يهود فقالوا : يا محمد ، بلغنا أنك تقول : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أفعنيتنا أم عنيت قومك؟ قال : "لا بل [ ص: 386 ] عنيتكم" . فقالوا : "إنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء" . فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- :

"هي في علم الله قليل ، وقد آتاكم الله ما إن عملتم به انتفعتم" ،

وأنزل الله عز وجل : ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ، ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير .
[لقمان 27 ، 28] ودل حديث ابن مسعود ، وأثر عطاء أن الآية نزلت بمكة ، وجمع بينهما وبين حديث ابن مسعود رضي الله عنه بتعدد النزول ، ويحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك إن ساغ ذلك ، وإلا فما في الصحيح أصح . وقال الشيخ رحمه الله تعالى في "الإتقان" : "إذا استوى الإسنادان في الصحة فيرجح أحدهما بكون راويه حاضر القصة أو نحو ذلك من وجوه الترجيحات" ، ثم ذكر [مثالا له] حديث ابن مسعود وحديث ابن عباس المذكورين . ثم قال :

"فهذا- أي حديث ابن عباس- يقتضي أن الآية نزلت بمكة ، والحديث الأول خلافه" . وقد رجح أن ما رواه البخاري أصح من غيره ، وبأن ابن مسعود كان حاضر القصة .

الثاني : قال أبو نعيم : "قيل : من علامات نبوة سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- في الكتب المنزلة أنه إذا سئل عن الروح فوض العلم بحقيقتها إلى منشئها وبارئها ، وأمسك عما خاضت فيه الفلاسفة وأهل المنطق القائلون بالحدس والتخمين ، فامتحنه اليهود بالسؤال عنها ليقفوا منه على نعته المثبت عندهم في كتابهم ، فوافق كتابه ما ثبت في كتبهم" .

الثالث : قال ابن التين : "اختلف في الروح المسؤول عنها في هذا الخبر على أقوال :

الأول : روح الإنسان ، الثاني : روح الحيوان . الثالث : جبريل . الرابع : عيسى . الخامس : القرآن .

السادس : الوحي . السابع : ملك يقوم وحده صفا يوم القيامة . الثامن : ملك له سبعون ألف وجه ، لكل وجه منها سبعون ألف لسان ، لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى [بتلك اللغات كلها] ويخلق الله سبحانه وتعالى من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة ، وقيل : ملك رجلاه في الأرض السفلى ورأسه عند قائمة العرش . التاسع : خلق كخلق بني آدم يأكلون ويشربون ، لا ينزل ملك من السماء إلا نزل معه ملك منهم . وقيل : هو صنف من الملائكة يأكلون ويشربون" . قال الحافظ : "وهذا إنما يجمع من كلام أهل التفسير في معنى لفظ "الروح" الوارد في القرآن لا خصوص هذه الآية ، فمن الذي في القرآن : 1 نزل به الروح الأمين [الشعراء 193] ، 2 وكذلك أوحينا- إليك روحا من أمرنا [الشورى 52] ، 3 يلقي الروح من أمره [غافر : 15] ، 4 وأيدهم بروح منه [المجادلة 22] ، 5 يوم يقوم الروح والملائكة صفا [النبأ 38] ، 6 ينزل الملائكة بالروح من أمره [النحل 2] ؟ فالأول : جبريل ، والثاني : القرآن ، والثالث : الوحي ، والرابع : القوة ، والخامس والسادس : محتمل لجبريل أو غيره ، ووقع إطلاق الروح على عيسى . [ ص: 387 ]

وروى إسحاق بن راهويه بسند صحيح عن ابن عباس قال : "الروح من الله ، وخلق من خلق الله ، وصور كبني آدم ، لا ينزل ملك إلا ومعه أحد من الروح" . وقال الخطابي : "حكوا في المراد بالروح في الآية أقوالا ، وقال الأكثرون : سألوه عن الروح التي تكون بها الحياة في الجسد . وقال أهل النظر : "سألوه عن مسلك الروح وامتزاجها بالجسد ، وهذا هو الذي استأثر الله بعلمه . وقال القرطبي : "الراجح أنهم سألوه عن روح الإنسان : لأن اليهود لا تعترف بأن عيسى روح الله ، ولا نجهل أن جبريل ملك ، وأن الملائكة أرواح" . وقال الإمام فخر الدين :

"المختار أنهم سألوه عن الروح الذي هو سبب الحياة ، وأن الجواب وقع على أحسن الوجوه ، وبيانه : أن السؤال عن الروح يحتمل أن يكون عن ماهيتها ، وهل هي متحيزة أم لا ، وهل هي حالة في متحيز أم لا ، وهل هي قديمة أو حادثة ، وهل تبقى بعد انفصالها من الجسد أو تفنى ، وما حقيقة تعذيبها وتنعيمها وغير ذلك من تعلقاتها" ؟ قال : "وليس في السؤال ما يخصص أحد هذه المعاني ، إلا أن الأظهر أنهم سألوه عن الماهية ، وهل الروح قديمة أو حادثة؟ والجواب يدل على أنها شيء موجود مغاير للطبائع والأخلاط وتركيبها ، فهي جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث ، وهو قوله تعالى : "كن فكان" . قال : هي موجودة محدثة بأمر الله عز وجل وتكوينه ، ولها تأثير في إفادة الحياة للجسد ، ولا يلزم من عدم العلم بكيفيتها المخصوصة نفيها .

الرابع : تنطع قوم "فتباينت أقوالهم في الروح ، فقيل : هي النفس الداخل الخارج ، وقيل الحياة ، وقيل : جسم لطيف يحل في جميع البدن ، وقيل : هي الدم ، وقيل : هي عرض ، حتى قيل : إن الأقوال بلغت المائة ، ونقل ابن منده عن بعض المتكلمين إن لكل نبي خمس أرواح ، وأن لكل مؤمن ثلاثا ، ولكل حي واحدة .

الخامس : قال القاضي أبو بكر بن العربي : "اختلفوا في الروح والنفس ، فقيل متغايران وهو الحق ، وقيل : هما شيء واحد ، وقد يعبر بالروح عن النفس وبالعكس ، كما يعبر عن الروح وعن النفس بالقلب وبالعكس ، وقد يعبر عن الروح بالحياة حتى يتعدى ذلك إلى غير العقلاء ، بل إلى الجهال مجازا .

قال تلميذه السهيلي : يعني على مغايرة الروح والنفس قوله تعالى : فإذا سويته ونفخت فيه من روحي [الحجر : 29] ، وقوله تعالى : تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك [المائدة 116] فإنه لا يصح جعل أحدهما موضع الآخر ، ولولا التغاير لساغ ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية