سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
تنبيهات

الأول : السحر يطلق ويراد به الآلة التي يسحر بها ، ويطلق ويراد به فعل الساحر ، وتكون الآلة تارة معنى من المعاني فقط ، كالرقى والنفث في العقد ، وتارة تكون بالمحسوسات . وتارة تجمع الأمرين : الحسي والمعنوي ، وهو أبلغ .

الثاني : اختلف في السحر ، فقيل : هو تخييل فقط ولا حقيقة له ، وهو اختيار أبي جعفر الأستراباذي من الشافعية ، وأبي بكر الدارمي من الحنفية ، وابن حزم الظاهري وطائفة . قال النووي : "والصحيح أن للسحر حقيقة ، وبه قطع الجمهور ، وعليه عامة العلماء ، ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة" انتهى . ولكن محل النزاع : هل يقع بالسحر انقلاب عين أو لا؟ فمن قال إنه تخييل فقط ، منع . وقيل إن له حقيقة . واختلفوا هل له تأثير فقط بحيث يغير المزاج ، فيكون نوعا من الأمراض ، وينتهي إلى حالة بحيث يصير الجماد حيوانا مثلا وعكسه؟

فالذي عليه الجمهور ، الأول . وذهبت طائفة قليلة إلى الثاني .

فإن كان بالنظر إلى القدرة الإلهية فمسلم به ، وإن كان بالنظر إلى الواقع فهو محل الخلاف ، فإن كثيرا ممن يدعي ذلك لا يستطيع إقامة البرهان عليه . وذكروا قوما أنكروا السحر مطلقا ، وكأنهم عنوا القائلين بأنه تخييل ، وإلا فهذه مكابرة . قال المازري : جمهور العلماء على إثبات السحر وأن له حقيقة ، ونفى بعضهم حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة ، وهو مردود لورود النقل بإثبات السحر ، ولأن العقل لا ينكر أن الله تعالى قد يخرق العادة عند نطق الساحر بكلام ملفق ، أو تركيب أجسام ، أو بمزج بين قوى على ترتيب مخصوص ، ونظير ذلك ما يقع من حذاق الأطباء من مزج بعض العقاقير ببعض حتى ينقلب الضار منها بمفرده ، فيصير بالتركيب نافعا . وقيل : لا يزيد تأثير السحر على ما ذكر الله تعالى في قوله : يفرقون به بين المرء وزوجه [سورة البقرة ، آية 102] لكون المقام مقام تهويل ، فلو جاز أن يقع به أكثر من ذلك لذكره . قال المازري : "والصحيح من جهة العقل أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك ، والآية ليست نصا في منع الزيادة ، ولو قلنا إنها ظاهرة في ذلك" . ثم ذكر الفرق بين السحر والمعجزة والكرامة ، وقد ذكرته في أبواب المعجزات .

الثالث : قال النووي : "عمل السحر حرام ، وهو من الكبائر بإجماع ، وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات ، ومنه ما يكون كفرا ، ومنه ما لا يكون كفرا بل معصية كبيرة ، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر ، كالتعبد للشياطين أو الكواكب . وأما تعليمه وتعلمه فحرام ، فإن كان فيه ما يقتضي الكفر استتيب منه [متعاطيه] ولا يقتل . فإن تاب قبلت توبته ، وإن لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر . وعن الإمام مالك : الساحر كافر ، يقتل ولا يستتاب . بل يتحتم [ ص: 413 ]

قتله كالزنديق . قال القاضي : "وبقول مالك قال أحمد ، وجماعة من الصحابة والتابعين" . انتهى .

وإلى ذلك جنح البخاري .

الرابع : قال الحافظ : "أجاز بعض العلماء تعلم السحر لأحد أمرين : إما لتميز ما فيه من كفر من غيره ، وإما لإزالته عمن وقع فيه . فأما الأول فلا محذور فيه إلا من جهة الاعتقاد ، فإذا سلم الاعتقاد ، فمعرفة الشيء معرفة مجردة لا تستلزم منعا ، كمن يعرف عبادة أهل الأوثان ، لأن كيفية ما يعرفه الساحر إنما هي حكاية قول وفعل ، بخلاف تعاطيه والعمل به . وأما الثاني ، فإن كان لا يتم كما زعم بعضهم إلا بنوع من أنواع الكفر أو الفسق فلا يحل أصلا ، وإلا جاز للمعنى المذكور ، ولهذا مزيد بسط يأتي إن شاء الله في أبواب عصمته صلى الله عليه وسلم .

الخامس : لبيد- بفتح اللام وكسر الموحدة بعدها تحتية ساكنة ثم مهملة- ابن الأعصم بوزن أحمر بمهملتين- وصف في رواية بأنه من يهود بني زريق . وفي رواية [أخرى] بأنه رجل من بني زريق حليف يهود ، وكان منافقا . ويجمع بينهما بأن من أطلق أنه يهودي نظر إلى ما في نفس الأمر ، ومن أطلق عليه منافقا نظر إلى ظاهر أمره . قال أبو الفرج : وهذا يدل على أنه أسلم نفاقا ، وهو واضح .

السادس : في مدة مكثه صلى الله عليه وسلم مسحورا : وقع في رواية أبي ضمرة عند الإسماعيلي في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم مكث أربعين ليلة . وفي رواية وهيب عن هشام عند الإمام أحمد ستة أشهر .

ويمكن الجمع بينهما بأن تكون الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه ، والأربعون يوما من استحكامه .

قال السهيلي : لم أقف على شيء من الأحاديث المشهورة على قدر المدة التي مكث صلى الله عليه وسلم فيها من السحر ، حتى ظفرت به في جامع معمر [بن راشد] عن الزهري قال : "سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة [يخيل إليه أنه يفعل الفعل ولا يفعله] . وقد وجدناه موصولا بإسناد صحيح ، فهو المعتمد .

السابع : قوله : "فدعا الله عز وجل ، ثم دعا الله عز وجل" : قال الإمام النووي : "فيه استحباب الدعاء عند حصول الأمور المكروهات وتكريره ، وحسن الالتجاء إلى الله تعالى في رفع ذلك" . قال الحافظ : "سلك النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القضية مسلكي التفويض وتعاطي الأسباب ، ففي أول الأمر فوض وسلم لأمر ربه ، واحتسب الأجر في صبره على بلائه . ثم لما تمادى ذلك وخشي من تماديه أن يضعف عن عبادته جنح إلى التداوي ثم إلى الدعاء . وكل من المقامين غاية "في الكمال" .

الثامن : وقع في حديث ابن عباس عند ابن سعد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل عليا وعمارا لاستخراج السحر . وفي رواية عائشة في الصحيح : أنه صلى الله عليه وسلم توجه إلى البئر مع جماعة . وعن [ ص: 414 ]

ابن سعد عن عمر بن الحكم مرسلا : "فدعا جبير بن إياس الزرقي فدله على موضعه في بئر ذروان تحت أرعوفة البئر ، فخرج جبير حتى استخرجه . قال ابن سعد : ويقال : إن الذي استخرج السحر بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قيس بن محصن الزرقي . ويجمع بأنه أعان جبيرا على ذلك وباشره بنفسه ، فنسب إليه . التاسع : في بيان غريب ما سبق :

"الحديبية" : يأتي الكلام عليها في غزوتها .

"الحليف" : المعاهد .

"بنو زريق" : بتقديم الزاي ، تصغير أزرق .

"أشعرت؟" : أعلمت؟ .

"مطبوب" : مسحور . يقال : طب الرجل- بالضم- إذا سحر ، وكنوا بالطب عن السحر تفاؤلا بالبرء ، كما كنوا بالسليم عن اللديغ . وقال القرطبي في "المفهم" : "إنما قالوا للسحر طب ، لأن أصل الطب الحذق بالشيء والتفطن له ، فلما كان كل من عالج المرض والسحر إنما يأتي عن فطنة وحذق ، أطلق على كل منهما هذا الاسم .

"مشط" : معروف ، وتقدم الكلام عليه في شرح غريب قصة المعراج .

"مشاطة" . ما مشط من الرأس .

"مشاقة" قيل : مشاقة الكتان . وقيل : المشاقة هي المشاطة بعينها ، والقاف تبدل من الطاء لقرب المخرج ، وهما بمعنى واحد .

"جف" : بالجيم والفاء : وهو الغشاء الذي يكون على الطلع .

"الظلع" : يطلق على الذكر والأنثى ، فلهذا قيده بالذكر ، وفي رواية في الصحيح بتنوين طلعة ذكر ، فهو صفة ألحقت إلى ذكر .

"بئر ذروان" : بالذال المعجمة ، وزن مروان . وفي رواية "ذي أروان" وهي الأصل ، فسهلت الهمزة لكثرة الاستعمال فصارت ذروان . وفي رواية السهيلي : ذي روان بإسقاط همزته [وهو] غلط .

"الراعوفة" : كذا لأكثر رواة الصحيح بزيادة ألف خلافا لابن التين ، حيث زعم أن رعوفة [ ص: 415 ] للأصيلي فقط ، وهو المشهور في اللغة . وفي لغة أرعوفة . وفي رواية عند أحمد "راعوثة" ، بثاء مثلثة بدل الفاء ، وهي لغة أخرى معروفة . وفيها لغة أخرى "زعوبة" بالزاي والموحدة ، وهما بمعنى واحد . والراعوفة : حجر يوضع عند رأس البئر لا يستطاع قلعه ، يقوم عليه المستقي ، وقد يكون في أسفل البئر إذا احتفرت ، يجلس عليها الذي ينظف البئر ، وهو حجر يوجد صلبا لا يستطاع قلعه .

"أفتاني فيما استفتيته فيه" : أجابني فيما دعوته ، فأطلق على الدعاء استفتاء لأن الداعي طالب ، والمجيب مستفتى ، والمعنى : أجابني عما سألته عنه ، لأن دعاءه كان الله أطلعه على حقيقة ما هو فيه لما اشتد عليه الأمر .

"أنشط من عقال" : بضم الهمزة . وفي رواية إسقاط الألف ، أي حل كما قال في "النهاية" ، وكثيرا ما يجيء في الرواية "كأنما نشط من عقال" وليس بصحيح ، يقال : نشطت العقدة إذا عقدتها ، وأنشطتها وانتشطتها إذا حللتها . انتهى . قال في "البارع" تقول العرب : "كأنما أنشط من عقال" ، بضم الهمزة . ويقال في المثل للمريض يسرع برؤه ، والمغشي عليه تسرع إفاقته في أمر شرع فيه عزيمته : "كأنما أنشط من عقال" ، ويقال نشط ، انتهى . فأثبت ما في الرواية لغة ، وهو أعرف باللغة من صاحب "النهاية" .

"تنشرت" : ظاهر صحيح البخاري أنه من النشرة ، ويحتمل أنه من النشر بمعنى الإخراج ، فيوافق رواية من رواه بلفظ "أفأخرجته؟" ورواية "أفلا" ، وحذف المفعول للعلم به ، ويكون المراد بالمخرج ما حواه الجف لا الجف نفسه ، ليتأكد الجمع المتقدم ذكره . والنشرة : ضرب من العلاج يعالج به من يظن أن به سحرا أو مسا . قيل للنشرة ذلك لأنه يكشف بها عنه ما خالطه من الداء . والله أعلم . [ ص: 416 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية