سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
تنبيهات

الأول : ذكر في سبب نزول هذه الآية شيء آخر : وهو قول عبد الله بن أبي في غزوة المريسيع : "والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك . والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" . فسعى بها زيد بن أرقم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأرسل خلف ابن أبي فحلف بالله ما قاله ، فأنزل الله تعالى الآية . رواه ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة . وسيأتي بيان ذلك في غزوة المريسيع إن شاء الله تعالى .

الثاني : روى محمد بن عمر عن عبد الحميد بن جعفر ، أن الجلاس تاب وحسنت توبته ، ولم ينزع عن خير كان يصنعه إلى عمير ، وكان ذلك مما عرفت به توبته .

ومن المنافقين : نبتل- بنون مفتوحة فموحدة ساكنة ففوقية مفتوحة فلام- ابن الحارث ، وكان رجلا جسيما ، أدلم ، ثائر شعر الرأس أحمر العينين ، أسفع الخدين ، وهو الذي

قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث" .

وروى ابن إسحاق عن بعض بني العجلان أنه حدث أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : "إنه يجلس إليك رجل أدلم ، ثائر شعر الرأس ، أسفع الخدين ، أحمر العينين كأنهما قدران من صفر ، كبده أغلظ من كبد الحمار ، ينقل حديثك إلى المنافقين فاحذره" . وكانت تلك صفة نبتل بن الحارث ، يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجلس إليه فيسمع منه ، ثم ينقل حديثه إلى المنافقين . وهو الذي قال لهم : "إنما محمد أذن ، من حدثه بشيء صدقه" . فأنزل الله تعالى :

ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم [ ص: 418 ] [التوبة 61] .

تنبيه : في بيان غريب ما سبق :

"الأدلم" بدال مهملة : الأسود الطويل .

"ثائر شعر الرأس" : منتشر الشعر .

"أسفع الخدين" : السفعة- بالضم : سواد مشرب بحمرة أو زرقة .

"الصفر" بضم الصاد المهملة وبالفاء : النحاس .

ومنهم : مربع- بميم مكسورة فراء ساكنة فموحدة مفتوحة فعين مهملة- ابن قيظي بقاف فتحتية فظاء معجمة مشالة- وهو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أجاز في حائطه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عامد إلى أحد : "لا أحل لك يا محمد إن كنت نبيا أن تمر في حائطي" .

وأخذ في يده حفنة من تراب ثم قال : "والله لو أعلم أني لا أصيب بهذا التراب غيرك لرميتك به" . فابتدره القوم ليقتلوه ،

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "دعوه ، فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر" .


ومنهم عبد الله بن أبي بن سلول ، وسلول هي أم أبي ، وهو أبي بن مالك العوفي ، أحد بني الحبلى . وكان رأس المنافقين وإليه يجتمعون ، وهو الذي قال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل في غزوة بني المصطلق . وفي قوله ذلك نزلت سورة المنافقين بأسرها . وقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وعبد الله بن أبي سيد أهلها ، لا يختلف عليه في شرفه من قومه اثنان ، لم يجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين غيره ، حتى جاء الإسلام . وكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوجوه ثم يملكوه عليهم ، فجاءهم الله عز وجل برسوله صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك ، فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام ضغن ، ورأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استلبه ملكا . فلما أن رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام ، دخل فيه كارها مصرا على نفاق وضغن .

وروى ابن إسحاق ، والإمام أحمد ، والشيخان عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما . قال :

ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا عليه إكاف فوقه قطيفة فدكية مختطمة بحبل من ليف . قال :

وأردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر ، [ ص: 419 ] فمر بعبد الله بن أبي وذلك قبل أن يسلم ، وهو في ظل أطم وفي مجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود ، في مجلس عبد الله بن رواحة . فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال : لا تغبروا علينا . فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقف ، فنزل فدعاهم إلى الله ، فقرأ عليهم القرآن وحذر وبشر وأنذر ، فقال له عبد الله بن أبي : "يا أيها المرء ، إنه لا أحسن من حديثك هذا إن كان حقا ، فلا تؤذونا به في مجلسنا ، وارجع إلى رحلك ، فمن جاءك فاقصص عليه" . قال : فقال ابن رواحة : "بلى يا رسول الله ، فاغشنا به في مجالسنا ، فهو والله مما نحب" . فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون .

فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا . فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم دابته حتى دخل إلى سعد بن عبادة ، فقال له : "أي سعد ، ألم تسمع ما قال أبو حباب" ؟ يريد عبد الله بن أبي . فقال سعد : "يا رسول الله اعف عنه واصفح ، فلقد أعطاك الله ما أعطاك ، ولقد اجتمع أهل البحيرة على أن يتوجوه فيعصبوه ، فلما رد ذلك بالحق الذي أعطاك شرق ، فذلك الذي فعل به ما رأيت"
.

وعن أنس رضي الله عنه قال : قلت : يا نبي الله لو أتيت عبد الله بن أبي؟ فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فركب حمارا ، وانطلق المسلمون يمشون ، وهي أرض سبخة . فلما أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : إليك عني ، فوالله لقد أذاني نتن حمارك . فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك .

فغضب لعبد الله رجل من قومه فشتمه ، وغضب لكل واحد منهما أصحابه ، فكان بينهم ضرب بالجريد- وفي لفظ بالحديد- والأيدي والنعال ، فبلغنا أنه أنزل فيهم :
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما
[الحجرات 9] . رواه الشيخان .

قال ابن إسحاق : وقال عبد الله بن أبي حين رأى من خلاف قومه ما رأى :


متى ما يكن مولاك خصمك لا تزل تذل ويصرعك الذين تصارع     وهل ينهض البازي بغير جناحه
وإن جذ يوما ريشه فهو واقع

ومنهم أبو عامر الفاسق ، واسمه : عبد عمرو بن صيفي بن النعمان الأوسي ، أحد بني ضبيعة بن زيد ، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة . وكان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح ، فكان يقال له الراهب . وكان شريفا مطاعا في قومه ، فشقي بشرفه وضره .

ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه أبو عامر قبل أن يخرج إلى مكة فقال : يا محمد ، ما [ ص: 420 ] هذا الدين الذي جئت به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "جئت بالحنيفية دين إبراهيم" . قال : فإني عليها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لست عليها [لأنك أدخلت فيها ما ليس منها] . قال : بل أدخلت يا محمد في الحنيفية ما ليس منها . قال : "ما فعلت ، بل جئت بها بيضاء نقية" . فقال أبو عامر : أمات الله الكاذب [منا] طريدا وحيدا . وإنما قال ذلك يعرض برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث خرج من مكة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نعم ، أمات الله الكاذب منا كذلك" .

فكان ذلك هو عدو الله فخرج إلى مكة . فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، خرج إلى الطائف ، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام ، فمات بها طريدا غريبا وحيدا .

التالي السابق


الخدمات العلمية