سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الرابع عشر : اتفق عمر وأبو طلحة ، وابن مسعود ، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال له المسلمون : يا رسول الله كيف تخاطب أمواتا ؟ فقال : «والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» والثلاثة الأول شاهدوا القصة ، وسمعوا هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم ، وعبد الله يحتمل أن يكون سمعه من أبيه ، أو من النبي صلى الله عليه وسلم ، ولفظ ابن مسعود قال : «يسمعون كما تسمعون ولكن لا يجيبون» رواه الطبراني بإسناد صحيح ، وأنكرت ذلك عائشة رضي الله عنها لما بلغها ذلك عن ابن عمر ، وقالت : ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حقا ، واستدلت على ذلك بقوله تعالى : [ ص: 85 ] وما أنت بمسمع من في القبور [فاطر : 22] وهذا مصير منها إلى رد رواية ابن عمر المذكورة ، وقد خالفها الجمهور في ذلك ، وقبلوا حديث ابن عمر؛ لموافقة من رواه غيره عليه .

وأما استدلالها عليه بالآية فقالوا : معناها لا تسمعهم سماعا ينفعهم ولا تسمعهم إلا أن يشاء الله .

وقال الإسماعيلي : كان عند عائشة رضي الله عنها من الفهم والذكاء وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم ما لا مزيد عليه ، ولكن لا سبيل إلى رد كلام الثقة إلا بنص يدل على نسخه ، أو تخصيصه أو استحالته ، فكيف والجمع بين الذي أنكرته وأثبته غيرها ممكن ؟ لأن قوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى لا ينافي قوله صلى الله عليه وسلم : «إنهم الآن يسمعون» لأن الإسماع هو إبلاغ الصوت من المسمع في أذن السامع ، فالله تعالى هو الذي أسمعهم بأن أبلغهم صوت نبيه صلى الله عليه وسلم .

وأما جوابه بأنه إنما قال : «إنهم ليعلمون» فإن كانت سمعت ذلك فلا ينافي رواية يسمعون ، بل يؤيدها . وقال البيهقي : العلم لا يمنع من السماع ، والجواب عن الآية : لا يسمعهم وهم موتى ، ولكن الله تعالى أحياهم حتى سمعوا كما قال قتادة .

وقال السهيلي ما محصله : إن في نفس الخبر ما يدل على خرق العادة بذلك للنبي صلى الله عليه وسلم لقول الصحابة له : أتخاطب أقواما قد جيفوا فأجابهم ، وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحالة عالمين جاز أن يكونوا سامعين ، وذلك بآذان رؤوسهم على قول الأكثر ، أو بآذان قلوبهم ، واحتجاج عائشة رضي الله عنها بقوله تعالى : وما أنت بمسمع من في القبور وهذه الآية لقوله تعالى : أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي [الزخرف : 40] أي أن الله تعالى هو الذي يهدي ويوفق ويوصل الموعظة إلى آذان القلوب لا أنت ، وجعل الكفار أمواتا وصما على جهة التشبيه بالأموات وبالصم ، والله تعالى هو الذي يسمعهم على الحقيقة إذا شاء لا نبيه ولا أحد ، فإذا : لا تعلق بالآية من وجهين :

أحدهما : أنها نزلت في دعاء الكفار إلى الإيمان .

الثاني : أنه إنما نفى عن نبيه أن يكون هو المسمع لهم ، وصدق الله تعالى فإنه لا يسمعهم إذا شاء إلا هو ، ويفعل ما يشاء ، وهو على كل شيء قدير .

التالي السابق


الخدمات العلمية