سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
ذكر ترك الرماة مكانهم الذي أقامهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما حصل بسبب ذلك

لما رأى أصحاب عبد الله بن جبير وهم الرماة ما حصل للمشركين قالوا : أي قوم ، الغنيمة الغنيمة ، لم تقيمون ها هنا في غير شيء ، قد هزم الله تعالى العدو ، وهؤلاء إخوانكم قد ظهروا ، وهم ينتهبون عسكرهم ، فادخلوا عسكر المشركين فاغنموا مع إخوانكم ، فقال عبد الله بن جبير ومن وافقه : ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكم : «احموا ظهورنا ولا تبرحوا من مكانكم ، وإذا رأيتمونا نقتل ، فلا تنصرونا ، وإن غنمنا فلا تشركونا ، احموا ظهورنا ؟ ! » فقال الآخرون : لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا . وانطلقوا فلم يبق مع أميرهم عبد الله بن جبير إلا دون العشرة ، وذهب الباقون إلى عسكر المشركين ينتهبون ، فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين ، ونظر خالد بن الوليد إلى الجبل وقلة أهله ، فكر بالخيل وتبعه عكرمة بن أبي جهل - وأسلما بعد ذلك - فحملوا على من بقي من الرماة فقتلوهم ، وثبت أميرهم عبد الله ، فقاتل حتى قتل ، فجردوه ومثلوا به أقبح مثلة ، وكانت الرماح قد شرعت في بطنه ، حتى خرقت ما بين سرته إلى خاصرته إلى عانته ، وخرجت حشوته ، وأحاطوا بالمسلمين . فبينما المسلمون قد شغلوا بالنهب والغنائم إذ دخلت الخيول تنادى فرسانها بشعارهم : يا للعزى ، يا لهبل ، ووضعوا السيوف في المسلمين وهم آمنون وكل في يديه أو حضنه شيء قد انتهبه . ولما رأى المشركون خيلهم ظاهرة رجعوا فشدوا على المسلمين فهزموهم ، فقتلوا فيهم قتلا ذريعا ، وتفرق المسلمون [ ص: 196 ] في كل وجه ، وتركوا ما انتهبوا ، وخلوا من أسروا ، وانتقضت صفوف المسلمين ، واستدارت رحاهم ، وكانت الريح أول النهار صبا فصارت دبورا ، وكر الناس منهزمين يحطم بعضهم بعضا ، فصاروا ثلاثا : ثلثا جريحا ، وثلثا منهزما ، وثلثا مقتولا ، وصرخ الشيطان - لعنه الله - : أي عباد الله ، إخوانكم . فرجعت أولاهم ، فاجتدلت هي وأخراهم ، وهم يظنون أنهم من العدو . وكان غرض إبليس بذلك أن يقتل المسلمون بعضهم بعضا ، وكان أول النهار للمسلمين على الكفار ، كما قال تعالى : ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ، ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين [آل عمران 152 ] . فما كانت دولة أسرع من دولة المشركين . وصرخ الشيطان عند جبل عينين وقد تصور في صورة جعال بن سراقة رضي الله عنه : «إن محمدا قد قتل » ثلاث صرخات ، ولم يشك فيه أنه حق وكان جعال إلى جنب أبي بردة يقاتل أشد القتال ، فقال جماعة من المسلمين لما سمعوا ذلك : إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل أفلا تقاتلون على دينكم ، وعلى ما كان عليه نبيكم ، حتى تلقوا الله تعالى شهداء ؟ ! وقال جماعة : ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي لنا أمانا من أبي سفيان ، يا قوم إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم ، قبل أن يأتوكم فيقتلوكم ، واختلط المسلمون ، فصاروا يقتلون على غير شعار ، ويضرب بعضهم ، بعضا ، من العجلة والدهش وما يدري .

وتفرق المسلمون في كل وجه ، وانهزمت طائفة منهم حتى دخلت المدينة ، فلقيتهم أم أيمن فجعلت تحثو في وجوههم التراب وتقول لبعضهم : «هاك المغزل فاغزل به ، وهلم سيفك » .

ولما انكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا نفر يسير لم يبق للمسلمين لواء قائم ولا فئة ، وإن كانت خيل المشركين لتجوسهم مقبلة مدبرة في الوادي ، يلتقون ولا يفترقون ، ما يرون أحدا من الناس يردهم ، حتى رجعوا إلى معسكرهم ، وأصعد بعض المسلمين في الجبل ، واستشهد منهم من أكرمه الله تعالى بالشهادة ، ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صرخ به الشيطان قال : هذا إزب العقبة .

التالي السابق


الخدمات العلمية