سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
ذكر طلب المسلمين قتلاهم

روى البيهقي عن عروة قال : لما رحل المشركون انتشر المسلمون يطلبون قتلاهم فلم يجدوا قتيلا إلا وقد مثل به المشركون ، إلا حنظلة بن أبي عامر فإن أباه كان معهم فتركوه له .

وقال ابن إسحاق ومحمد بن عمر : لما انصرف المشركون أقبل المسلمون على موتاهم يطلبونهم . وروى الحاكم والبيهقي ، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه وابن إسحاق عن شيوخه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : من ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع ، أفي الأحياء هو أم في الأموات ، فإني رأيت اثني عشر رمحا شرعى إليه ، فقال رجل من الأنصار - قال محمد بن عمر : هو محمد بن مسلمة ، وقال أبو عمر : هو أبي بن كعب - فنظر في القتلى ، فناداه ثلاثا فلم يجبه ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر إلى خبرك ، فأجابه بصوت ضعيف . وفي [ ص: 222 ] حديث زيد : فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يوم أحد ، لطلب سعد بن الربيع ، وقال : إن رأيته فأقره مني السلام ، وقل له : كيف تجدك ؟ قال : فأصبته وهو في آخر رمق ، وبه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح ، وضربة بسيف ، ورمية بسهم ، فقلت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات ؟ فقال : أنا في الأموات ، فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عني السلام ، وقل له : إن سعد بن الربيع يقول : جزاك الله تعالى عنا خير ما جزى نبيا عن أمته ، وقل له : إني أجد ريح الجنة ، وأبلغ قومك عني السلام ، وقل لهم : إن سعد بن الربيع يقول لكم : إنه لا عذر لكم عند الله إن يخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنكم عين تطرف ، ثم لم يبرح أن مات ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره خبره .

قال ابن هشام : وحدثني أبو بكر الزبيري : أن رجلا دخل على أبي بكر الصديق ، وبنت لسعد بن الربيع : جارية صغيرة على صدره يرشفها ويقبلها ، فقال له الرجل : من هذه ؟ قال له : بنت رجل خير مني : سعد بن الربيع ، كان من النقباء يوم العقبة . وشهد بدرا ، واستشهد يوم أحد .

قال ابن إسحاق : وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - يلتمس حمزة بن عبد المطلب . قال محمد بن عمر وغيره : وجعل يقول : «ما فعل عمي ؟ » ويكرر ذلك . فخرج الحارث بن الصمة يلتمسه فأبطأ ، فخرج علي فوجد حمزة ببطن الوادي مقتولا ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فخرج يمشي حتى وقف عليه ، فوجده قد بقر بطنه عن كبده ، ومثل به ، فجدع أنفه وأذناه ، فنظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه ، ونظره قد مثل به .

وفي حديث كعب بن مالك عن ابن أبي شيبة في سنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قيل له : إن حمزة مثل به ، كره أن ينظر إليه . انتهى .

فقال : «أحتسبك عند الله ! »

وروى البزار بسند لا بأس به ، عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه قتل حمزة بكى ، فلما نظر إليه شهق .

وروى الحاكم عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال : فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة حين فاء الناس من القتال ، فقال رجل : رأيته عند تلك الصخرات وهو يقول : أنا أسد الله وأسد رسوله ، اللهم أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني أبا سفيان وأصحابه - وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء بانهزامهم . فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه ، فلما رأى جثته بكى . ولما رأى ما مثل به [ ص: 223 ] شهق ثم قال : «ألا كفن ؟ » فقام رجل من الأنصار فرمى بثوبه عليه ، ثم قام آخر فرمى بثوبه عليه ، فقال : «يا جابر هذا الثوب لأبيك وهذا لعمي » ، وقال صلى الله عليه وسلم : «رحمة الله عليك ، فإنك كنت كما علمتك ، فعولا للخيرات ، وصولا للرحم ، لولا أن تحزن صفية - وفي لفظ : نساؤنا ، وفي لفظ : لولا حزن من بعدي عليك ، وتكون سبة من بعدي - لتركته ، حتى يحشر من بطون السباع وحواصل الطير » ، ثم قال : «أبشروا ، جاءني جبريل فأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السماوات السبع : حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله » . وقال : «لئن ظفرني الله تعالى على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بسبعين منهم مكانك » ، فلما رأى المسلمون حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وغيظه على من فعل بعمه ما فعل ، قالوا : والله لئن ظفرنا الله تعالى بهم يوما من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب ، قال أبو هريرة ، كما رواه ابن سعد والبزار وابن المنذر والبيهقي : فنزل جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بخواتيم سورة النحل وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين [النحل 126 ] فكفر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه ، وأمسك عن الذي أراد وصبر .

وروى ابن المنذر والطبراني والبيهقي نحوه عن ابن عباس .

وروى الترمذي وحسنه ، وعبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند ، والنسائي ، وابن المنذر ، وابن خزيمة في فرائده ، وابن حبان والضياء في صحيحهما عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلا . ومن المهاجرين ستة ، منهم حمزة ، فمثلوا به ، فقالت الأنصار : لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين عليهم ، فلما كان فتح مكة أنزل الله تعالى : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نصبر ولا نعاقب ، كفوا عن القوم إلا أربعة » .

وروى ابن إسحاق وابن جرير عن عطاء بن يسار قال : نزلت سورة النحل كلها بمكة إلا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة بعد أحد ، حيث قتل حمزة ومثل به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط ، فأنزل الله تعالى : وإن عاقبتم إلى آخر السورة .

[ ص: 224 ] وروى ابن إسحاق عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام قط ففارقه ، حتى أمر بالصدقة ونهى عن المثلة .

قال ابن إسحاق وغيره : وأقبلت صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها لتنظر إلى حمزة ، وكان أخاها لأمها وأبيها ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن تراه ، فقال : «المرأة المرأة » . فقال الزبير بن العوام : فتوسمت أنها أمي صفية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «القها فأرجعها لا ترى ما بأخيها » ، فخرج يسعى فأدركها قبل أن تنتهي إلى القتلى ، فردها فلكمت صدره ، وكانت امرأة جلدة ، وقالت : إليك عني ، لا أرضى لك . فقال : يا أمه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي . قالت : ولم وقد بلغني أنه قد مثل بأخي ؟ وذلك في الله ، فما أرضانا بما كان من ذلك ، فلأصبرن وأحتسبن إن شاء الله . فجاء الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : «خل سبيلها » ، فأتته فنظرت إليه ، فصلت عليه ، واسترجعت ، واستغفرت له .

وروى الطبراني والبزار ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاف على عقل صفية بنت عبد المطلب ، فوضع يده على صدرها فاسترجعت ، وبكت .

وروى الإمام أحمد وأبو يعلى والبزار عن الزبير والطبراني بسند رجاله ثقات ، عن ابن عباس : أن صفية رضي الله عنها أتت بثوبين معها فقالت : هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة ، فقد بلغني مقتله فكفنوه فيهما . قال : فجئنا بالثوبين لنلفه فيهما فإذا إلى جنبه رجل من الأنصار ، فعل به مثل ما فعل بحمزة ، فوجدنا غضاضة وحياء أن نكفن حمزة في ثوبين ، والأنصاري لا كفن له ، فقلنا : لحمزة ثوب ، وللأنصاري ثوب ، فكان أحدهما أكبر من الآخر فأقرعنا بينهما فكفنا كلا منهما في الثوب الذي طاوله ، وجعل أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه يريد أن ينال من قريش ، لما رأى من غم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل حمزة ما مثل به ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إليه أن اجلس وكان قائما ، ثم قال : «يا أبا قتادة . إن قريشا أهل أمانة ، من بغاهم العواثر أكبه الله تعالى لفيه ، وعسى إن طالت بك حياة أن تحقر عملك مع أعمالهم ، وفعالك مع فعالهم ، لولا أن تبطر قريش لأخبرتها بما لها عند الله تعالى » . فقال أبو قتادة : يا رسول الله ، ما غضبت إلا لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، حين نالوا من حمزة ما نالوا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «صدقت ، بئس القوم كانوا لنبيهم » .

وروى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قتل حمزة جنبا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «غسلته الملائكة » ، وعند ابن سعد عن الحسن مرسلا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لقد رأيت الملائكة تغسل حمزة » .

[ ص: 225 ] وروى ابن أبي شيبة في سنده والطبراني برجال ثقات ، عن أبي أسيد الساعدي وابن أبي شيبة والحاكم عن أنس قالا : كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة في نمرة ، فمدت النمرة على رأسه وانكشف رجلاه ، فمدت على رجليه فانكشف رأسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مدوها على رأسه واجعلوا على رجليه شيئا من الحرمل ، وفي لفظ : من الإذخر » .

التالي السابق


الخدمات العلمية