سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
ذكر رحيل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة

لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من دفن أصحابه ، رضي الله عنهم ، ركب فرسه وخرج المسلمون حوله راجعين إلى المدينة ، فلقيته حمنة بنت جحش ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا حمنة : احتسبي » ، قالت : من يا رسول الله ؟ قال : «خالك حمزة بن عبد المطلب » . قالت : إن لله وإنا إليه راجعون ، غفر الله له ، هنيئا له الشهادة ، ثم قال لها : «احتسبي » ، قالت : من يا رسول الله ؟ قال : «أخوك عبد الله بن جحش » ، قالت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، غفر الله له ، هنيئا له الشهادة ، ثم قال لها : «احتسبي » ، قالت : من يا رسول الله ؟ قال : «زوجك مصعب بن عمير » ، قالت : واحزناه ، وفي لفظ : واعقراه ، وصاحت وولولت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن زوج المرأة [ ص: 228 ] منها لبمكان ، لما رأى من تثبتها على أخيها وخالها ، وصياحها على زوجها » ، ثم قال لها : «لم قلت هذا ؟ » قالت : يا رسول الله ، ذكرت يتم بنيه فراعني ، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولولدها أن يحسن الله تعالى عليهم من الخلف .

وروى ابن ماجة عن إبراهيم بن أحمد بن عبيد الله بن جحش عن أبيه عن حمنة بنت جحش : أنه قيل لها : قتل أخوك ، فقالت : رحمه الله ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ، فقالوا : قتل زوجك ، فقالت : واحزناه ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن للزوج من المرأة لشغفة ما هي لشيء ! » .

وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى طلع على بني عبد الأشهل وهم يبكون على قتلاهم ، فذرفت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : لكن حمزة لا بواكي له ! فخرج النساء ينظرن إلى سلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت أم عامر الأشهلية : كل مصيبة بعدك جلل !

ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بامرأة من بني دينار قد أصيب أبوها وزوجها وأخوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بأحد ، فلما نعوا إليها قالت : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : خيرا يا أم فلان ، هو بحمد الله كما تحبين ، قالت : أرونيه حتى أنظر إليه فأشير بها إليه ، فلما رأته قالت : كل مصيبة بعدك جلل !

وروى الطبراني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : لما كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة ، وقالوا : قتل محمد ، حتى كثر الصراخ في ناحية المدينة ، فخرجت امرأة من الأنصار محزمة ، فاستقبلت بأبيها وابنها وزوجها وأخيها ، لا أدري أيهم استقبلت به أولا ، فلما مرت على آخرهم قالوا : أبوك ، زوجك ، أخوك ، ابنك ، فتقول : ما فعل رسول الله ؟ يقولون : أمامك ، حتى دفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذت بناحية ثوبه ، ثم قالت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، لا أبالي إذا سلمت من عطب !

وروى ابن أبي حاتم ، عن عكرمة مرسلا قال : لما أبطأ الخبر على النساء خرجن يستخبرن ، فإذا رجلان مقتولان على دابة أو بعير ، فقالت امرأة من الأنصار : من هذان ؟ قالوا : فلان وفلان : أخوها وزوجها أو زوجها وابنها . فقالت : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : حي ، قالت : فلا أبالي ، يتخذ الله من عباده شهداء ، وأنزل الله تعالى على ما قالت : ويتخذ منكم شهداء [آل عمران 140 ] [ ص: 229 ] وجاءت أم سعد بن معاذ ، وهي كبشة بنت رافع تعدو نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد وقف على فرسه ، وسعد بن معاذ آخذ بعنان فرسه ، فقال سعد : يا رسول الله ! أمي ! ، فقال : «مرحبا بها » ، فدنت حتى تأملت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالت : أما إذ رأيتك سالما فقد أشوت المصيبة ، فعزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمرو بن معاذ ابنها ، ثم قال : «يا أم سعد ، أبشري وبشري أهليهم : أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعا ، وقد شفعوا في أهليهم » قالت : رضينا يا رسول الله ، ومن يبكي عليهم بعد هذا ؟ ثم قالت : يا رسول الله ادع لمن خلفوا فقال : «اللهم أذهب حزن قلوبهم ، واجبر مصيبتهم ، وأحسن الخلف على من خلفوا » ، ثم قال : «خل يا أبا عمرو - يعني سعد بن معاذ - الدابة » ، فخلى سعد الفرس ، فتبعه الناس ، فقال : «أبا عمرو إن الجراح في أهل دارك فاشية ، وليس منهم مجروح إلا يأتي يوم القيامة جرحه كأغزر ما كان ، اللون لون الدم ، والريح ريح المسك ، فمن كان مجروحا فليقر في داره وليداو جرحه ، ولا يبلغ معي بيتي ، عزيمة مني » . فنادى فيهم سعد : عزيمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم جريح من بني عبد الأشهل ، فتخلف كل مجروح ، فباتوا يوقدون النيران ، ويداوون الجرحى ، ومضى سعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء بيته ، فما نزل نبي الله صلى الله عليه وسلم ، عن فرسه إلا حملا ، واتكأ على سعد بن عبادة وسعد بن معاذ ، حتى دخل بيته ، فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة ، فقال : «اغسلي عن هذا دمه ، فوالله لقد صدقني اليوم » ، وناولها علي بن أبي طالب سيفه ، فقال : «وهذا ، فاغسلي عنه دمه ، فوالله لقد صدقني اليوم » ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لئن كنت صدقت القتال لقد صدقه معك سهل بن حنيف وأبو دجانة » .

وروى الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء علي بسيفه يوم أحد وقد انحنى ، فقال لفاطمة : هاك السيف حميدا ، فإنه قد شفاني اليوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لئن أجدت الضرب بسيفك لقد أجاد سهل بن حنيف ، وأبو دجانة ، وعاصم بن ثابت ، والحارث بن الصمة » .

قال ابن هشام : وحدثني بعض أهل العلم أن ابن أبي نجيح قال : نادى مناد يوم أحد :


لا سيف إلا ذو الفقا ر ولا فتى إلا علي



يعني بذي الفقار سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي غنمه يوم بدر ، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد .

ولما أذن بلال بصلاة المغرب خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو على تلك الحال ، يتوكأ على السعدين ، فصلى بهم ، ثم عاد إلى بيته . ومضى سعد بن معاذ إلى نسائه ونساء قومه ، فساقهن حتى لم تبق امرأة إلا جاء بها إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يبكين حمزة بين المغرب [ ص: 230 ] والعشاء ، والناس في المسجد يوقدون النيران ، يتكمدون بها من الجراح .

وأذن بلال العشاء حتى غاب الشفق الأحمر ، فلم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى ذهب ثلث الليل ، ثم ناداه : الصلاة يا رسول الله ، فهب رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه وخرج ، فإذا هو أخف في مشيته منه حين دخل ، وسمع البكاء ، فقال : «ما هذا ؟ » فقيل : نساء الأنصار يبكين على حمزة ، فقال : «رضي الله عنكن وعن أولادكن » ، وأمر أن ترد النساء إلى منازلهن .

وذكر ابن هشام أنه صلى الله عليه وسلم خرج عليهن ، وهن على باب المسجد يبكين على حمزة فقال : «ارجعن رحمكن الله ، ولقد واسيتن ، رحم الله الأنصار ، فإن المواساة فيهم ما علمت قديمة » ، فرجعن بليل مع رجالهن .

وروى أبو يعلى برجال الصحيح عن ابن عمر ، وعن أنس ، والإمام أحمد ، وابن ماجة بسند صحيح ، عن ابن عمر ، والطبراني ، عن ابن عباس رضي الله عنهم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما رجع من أحد سمع نساء الأنصار يبكين على أزواجهن فقال : لكن حمزة لا بواكي له ، فبلغ النساء ذلك ، فجئن فبكين على حمزة ، فانتبه من الليل فسمعهن وهن يبكين ، فقال : ويحهن ما زلن يبكين منذ الليلة . مروهن ليرجعن ولا يبكين على هالك بعد اليوم » .

وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ، ثم رجع إلى بيته وقد صف له الرجال ما بين بيته إلى مصلاه يمشي وحده حتى دخل ، وباتت وجوه الأوس والخزرج على بابه في المسجد يحرسونه ، فرقا من قريش أن تكر .

التالي السابق


الخدمات العلمية