سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الثاني : كانت هذه الوقعة في شوال سنة ثلاث باتفاق الجمهور . قال ابن إسحاق كما رواه الطبراني بسند رجال ثقات : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة ، فأصبح بالشعب من أحد ، فالتقوا يوم السبت في النصف من شوال ، وفي الفتح عنه أن الوقعة كانت لإحدى عشرة ليلة خلت منه ، وقيل : لتسع ليال ، وقيل : لثمان ، وقيل : لسبع . قال الإمام مالك : أول النهار ، وشذ من قال سنة أربع .

الثالث : أحد - بضم الهمزة والحاء وبالدال المهملتين - قال ياقوت في معجمه وغيره : هو جبل أحمر ليس بذي شناخيب ، بينه وبين المدينة أقل من فرسخ ، وهو في شماليها .

روى الشيخان عن أنس بن مالك وابن أبي شيبة ، والطبراني بسند جيد عن سويد بن عامر الأنصاري ، والبخاري عن أبي حميد الساعدي ، والبخاري عن سهل بن سعد ، والطبراني عن ابن عباس ، والطبراني عن أبي هريرة ، وعمر بن شبة ، بسند جيد عن أبي قلابة ، رضي الله [ ص: 243 ] عنهم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأحد لما بدا له : هذا جبل يحبنا ونحبه . وتكرر منه صلى الله عليه وسلم هذا القول مرات . وسيأتي الكلام على هذا الحديث في المعجزات ، إن شاء الله تعالى .

وروى الطبراني بسند ضعيف ، عن سهل بن سعد رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : أحد ركن من أركان الجنة .

وروى عمر بن شبة عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أحد على باب من أبواب الجنة ، فإذا مررتم به ، فكلوا من شجره ولو من عضاهه .

وروى عبد الرزاق عن أبي ليلى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «أحد على ترعة من ترع الجنة » .

قال ياقوت : وهو اسم مرتجل لهذا الجبل .

وقال السهيلي : سمي أحدا لتوحده وانقطاعه عن جبال أخر هناك ، أو لما وقع من أهله من نصرة التوحيد ، ولا أحسن من اسم مشتق من الأحدية ، وقد سمى الله تعالى هذا الجبل بهذا الاسم تقدمة لما أراده سبحانه وتعالى من مشاكلة اسمه لمعناه ، إذ أهله وهم الأنصار نصروا التوحيد والمبعوث بدين التوحيد ، عنده استقر حيا وميتا وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يستعمل الوتر ويحبه في شأنه إشعارا للأحدية ، فقد وافق اسم هذا الجبل لأغراضه صلى الله عليه وسلم ، ومقاصده في الأسماء ، فقد بدل كثيرا من الأسماء ، استقباحا لها من أسماء البقاء وأسماء الناس ، فاسم هذا الجبل من أوفق الأسماء له ، ومع أنه مشتق من الأحدية ، فحركات حروفه الرفع ، وذلك يشعر بارتفاع دين الأحد وعلوه ، فتعلق الحب من النبي صلى الله عليه وسلم اسما ومسمى ، فخص من بين الجبال أن يكون معه في الجنة .

الرابع : قال في الروض : البقر في الرؤيا عبارة عن رجال مسلمين يتناطحون ، وقد رأت عائشة رضي الله عنها مثل هذا ، فكان تأويله قتل من قتل معها يوم الجمل . قال في الفتح : وفيه نظر ، فقد رأى الملك بمصر البقر ، وأولها يوسف صلى الله عليه وسلم بالسنين . ووقع في حديث ابن عباس ومرسل عروة عند أبي الأسود في المغازي : «وتأولت البقر ببقر يكون فينا » . قال : وكان ذلك من أصيب من المسلمين . وقوله : بقرا - بسكون القاف - وهو شق البطن . وهذا أحد وجوه التفسير : أن يشتق من الاسم معنى مناسبا ، ويمكن أن يكون ذلك لوجه آخر من وجوه التأويل ، وهو التصحيف ، فإن لفظ بقر مثل نفر بالنون والفاء خطأ .

وعند أحمد والنسائي وابن سعد من حديث جابر بسند صحيح في هذا الحديث : [ ص: 244 ] «ورأيت نفرا منحرة » ، وقال فيه : إن الدرع المدينة ، والنفر نفر ، هكذا بنون وفاء ، وهو يؤيد الاحتمال المذكور .

الخامس : لما ذب فرس بذنبه فأصاب كلاب سيفه فسله ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفاءل ولا يعتاف .

قال أبو القاسم الخثعمي : وظاهر الكلام أن العيافة في المكروه خاصة ، والفأل في المحبوب وقد يكون في المكروه والطيرة تكون في المكروه والمحبوب . وفي الحديث : أنه نهى عن الطيرة وقال : «خيرها الفأل » فدل على أنها تكون على وجوه ، والفأل خيرها . ولفظها يعطي أنها تكون في الخير والشر ، لأنها من الطير ، تقول العرب : جرى له طائر بخير ، وجرى له بشر . وفي التنزيل وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه [الإسراء 13 ] وقوله في هذا الحديث : «إني أرى السيوف اليوم ستسل » يقوي ما قدمناه من التوسم والزجر المصيب ، وأنه غير المكروه ، ولكنه غير مقطوع به إلا أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم .

السادس : دل مروره صلى الله عليه وسلم في أرض ذلك المنافق أنه يجوز للإمام السلوك في بعض أملاك رعيته ، إذا صادف ذلك طريقه ، وإن لم يرض المالك .

السابع : مظاهرته صلى الله عليه وسلم بين درعين وقع مرتين في أحد ، وفي حنين ، لا غير فيما أعلم ، وفي ذلك إشارة إلى الأخذ بالحزم والاحتياط ، وأن ذلك لا ينافي التوكل .

الثامن : ليس تمني عبد الله بن جحش أن يقتل في سبيل الله من تمني الموت المنهي عنه .

التاسع : اختلف أهل العلم في الشهيد إذا قتل جنبا : هل يغسل كما غسلت الملائكة حمزة وحنظلة رضي الله عنهما .

العاشر : قول أبي دجانة : «أنا الذي عاهدني خليلي » وكذا قول أبي هريرة : «حدثني خليلي » لا يدفع بقوله صلى الله عليه وسلم : «لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر » ، لأن أبا دجانة وأبا هريرة يريدان به معنى الحبيب ، وإنما فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليقولها لأحد من أصحابه ، ولا خص بها أحدا ، دون أن يمنع أحدا من أصحابه أن يقولها ، وما كان في قلوبهم من المحبة يقتضي هذا أو أكثر منه ، ما لم يكن الغلو والقول المكروه ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : «لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ، وإنما أنا عبد الله ورسوله » .

[ ص: 245 ] الحادي عشر : قول علي رضي الله عنه : «ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد : فداك أبي وأمي إلا لسعد يوم أحد » . رواه البخاري وغيره ، وروي أيضا عنه : «ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبويه لأحد إلا لسعد » .

قال في الروض : والرواية الأولى أصح ، والله أعلم ، لأنه أخبر أنه لم يسمع ، وقد قال الزبير بن العوام : أنه صلى الله عليه وسلم جمع له أيضا أبويه ، كما رواه الزبير بن بكار في كتاب النسب .

قال السهيلي : وفقه هذا الحديث أن هذا الكلام جائز لمن كان أبواه غير مؤمنين ، وأما إذا كانا مؤمنين فلا ، لأنه كالعقوق لهما ، كذلك سمعت شيخنا أبا بكر بن العربي يقول في هذه المسألة . قلت : قال الإمام النووي في كتابه «حلية الأبرار » : المذهب الصحيح المختار أنه لا يكره قول الإنسان لغيره : فداك أبي وأمي ، أو جعلني الله فداك . وقد تظاهرت على جواز ذلك الأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما ، وسواء كان الأبوان مسلمين أو كافرين ، وكره ذلك بعض العلماء إذا كانا مسلمين .

قال النحاس : وكره مالك بن أنس : «جعلني الله فداك » ، وأجازه بعضهم . قال القاضي عياض رحمه الله : ذهب جمهور العلماء إلى جواز ذلك ، سواء كان المفدى به مسلما أو كافرا . قال النووي : قد جاء من الأحاديث الصحيحة في جواز ذلك ما لا يحصى . وقد نبهت على جمل منها في شرح صحيح مسلم ، والمراد بالتفدية التعظيم والإجلال ، لأن الإنسان لا يفدي إلا من يعظمه ، وكان مراده بذلك نفسي ، أو من يعز علي في مرضاتك وطاعتك .

الثاني عشر : يأتي الكلام على شرب أبي سعيد الخدري دم النبي صلى الله عليه وسلم في الخصائص .

التالي السابق


الخدمات العلمية