سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
ذكر ما كان المسلمون يرتجزون به من الشعر في عمل الخندق

قال ابن إسحاق وابن عمر : وارتجز المسلمون في الخندق برجل يقال له : جعيل- بضم الجيم- أو جعالة بن سراقة ، وكان رجلا دميما صالحا ، وكان يعمل في الخندق ، فغير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه يومئذ فسماه عمرا ، فجعل المسلمون يرتجزون ويقول :


سماه من بعد جعيل عمرا وكان للبائس يوما ظهرا

وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول شيئا من ذلك ، إلا إذا قالوا : عمرا ، وإذا قالوا : ظهرا ، قال : ظهرا
.

وروى الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد والبخاري عن أنس رضي الله عنهما قالا : جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نحفر في الخندق ، وننقل التراب على أكتادنا وفي لفظ :

أكتافنا ، وفي لفظ عن متوننا
.

وفي رواية : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون يحفرون في غداة باردة ، ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك ، فلما رأى ما هم فيه من النصب والجوع قال : «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ، فاغفر» ،

وفي لفظ : فأصلح ، وفي لفظ : فأكرم المهاجرين والأنصار ، وفي لفظ : فاغفر للأنصار والمهاجرة ، فقالوا مجيبين له :


نحن الذين بايعوا محمدا     على الجهاد ما بقينا أبدا

قال أنس : ويؤتونه بملء كفي شعير ، فيصنع لهم بإهالة سنخة ، توضع بين يدي القوم ، وهم جياع وهي بشعة في الحلق ولها ريح منتن
.

وروى الشيخان وأبو يعلى وابن أبي أسامة عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى وارى التراب بياض بطنه ، وفي لفظ : حتى أغمر بطنه ، أو قال اغبر بطنه ، وفي لفظ : حتى وارى الغبار جلده ، وكان كثيف الشعر ، فسمعته يرتجز بكلمات لابن رواحة :


والله لولاك ما اهتدينا     ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا     وثبت الأقدام إن لاقينا
والمشركون قد بغوا علينا     إذا أرادوا فتنة أبينا

ورفع بها صوته : أبينا أبينا ، وفي رواية يمد صوته بآخرها ، ولفظ أبي يعلى : «اللهم لولا أنت» ، وقد بدل بتصدقنا «صمنا»
.

وروى البيهقي عن سلمان رضي الله عنه ، وابن أبي أسامة عن أبي عثمان النهدي رحمه الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب في الخندق وقال : [ ص: 367 ]

باسم الإله وبه هدينا     ولو عبدنا غيره شقينا

يا حبذا ربا وحب دينا


قال محمد بن عمر : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة اجتهاده في العمل يضرب مرة بالمعول ومرة يغرف بالمسحاة التراب ، ومرة يحمل التراب في المكتل ، وبلغ منه التعب يوما مبلغا فجلس ، ثم اتكأ على حجر على شقه الأيسر فنام : فقام أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على رأسه ينحيان الناس عنه ، أن يمروا به ، فينبهوه ، ثم استيقظ ووثب فقال : أفلا أفزعتموني ! وأخذ الكرزن يضرب به ويقول :


اللهم إن العيش عيش الآخرة     فاغفر للأنصار والمهاجرة
اللهم العن عضلا والقارة     فهم كلفوني أنقل الحجارة

وعمل المسلمون في الخندق حتى أحكموه .

قال محمد بن عمر ، وابن سعد : في ستة أيام .

وكان الخندق بسطة أو نحوها .

وأعقب بين عائشة وأم سلمة وزينب بنت جحش ، فتكون عائشة عنده أياما ، ثم تكون أم سلمة عنده أياما ، ثم تكون زينب عنده أياما ، فهؤلاء الثلاث اللاتي يعقب بينهن في الخندق ، وسائر نسائه في أطم بني حارثة ، وكان حصينا ، ويقال : كن في النسر أطم في بني زريق ، ويقال : كان بعضهن في فارع .

التالي السابق


الخدمات العلمية