سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
ذكر الآيات التي وقعت لما أصابتهم المجاعة في حفر الخندق

روى الشيخان ، ومحمد بن عمر ، والحاكم ، والبيهقي عن جابر بن عبد الله ، والطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهم : [ ص: 369 ] أن جابرا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عاصبا بطنه بحجر من الجوع وأنهم لبثوا ثلاثة أيام لا يذوقون ذواقا . قال جابر : فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنزل فأذن لي ، فذهبت فقلت لامرأتي : أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خمصا شديدا ، ما في ذلك صبر ، فعندك شيء ؟

قالت : عندي صاع من شعير وعناق ، فأخرجت إناء فيه صاع من شعير ، وذبحت العناق ، وطحنت الشعير ، وجعلنا اللحم في البرمة ، فلما انكسر العجين وكادت البرمة أن تنضج وأمسينا ، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الانصراف- قال : وكنا نعمل نهارا ، فإذا أمسينا رجعنا إلى أهلنا- قالت لي : لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه . فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فساررته فقلت : طعيم لي ، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان . فشبك أصابعه في أصابعي وقال :

كم هو ؟ فذكرت له ، فقال : كثير طيب لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء ، وصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا أهل الخندق إن جابرا قد صنع لكم سورا فحي ، هلا بكم» ، وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس ، ولقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى ، وقلت :

جاء الخلق ، والله إنها للفضيحة على صاع من شعير وعناق ، فدخلت على امرأتي فقلت :

ويحك ! جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم ، فقالت : بك وبك ، وفي رواية : هل سألك ؟ قلت : نعم . وفي رواية : قالت : أنت دعوتهم أو هو ؟ قلت : بل هو دعاهم . قالت : دعهم ، الله ورسوله أعلم ، نحن قد أخبرناه بما عندنا . فكشفت عني . فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :

«ادخلوا عشرة عشرة ، ولا تضاغطوا» ، فأخرجت له عجينا فبصق فيه وبارك ، ثم عمد إلى برمتنا فبصق فيها وبارك ، فقال لنا : «اخبزوا واغرفوا وغطوا البرمة ، ثم أخرجوا الخبز من التنور ، وغطوا الخبز» ، ففعلنا ، فجعلنا نغرف ويغطي البرمة ، ثم يفتحها فما نراها نقصت شيئا ، ويخرج الخبز من التنور ، ثم يغطيه فما نراه نقص شيئا ، فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم ، ويقرب إلى أصحابه ويقول لهم : «كلوا» . فإذا شبع قوم قاموا ، ثم دعا غيرهم حتى أكلوا وهم ألف ، وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي ، وإن عجيننا ليخبز كما هو ، فقال : «كلوا واهدوا ، فإن الناس أصابتهم مجاعة شديدة» . فلم نزل نأكل ونهدي يومنا ذلك أجمع ، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب ذلك
.

وروى ابن إسحاق ، وأبو نعيم عن ابنة لبشير- بفتح الموحدة- ابن سعد أخت النعمان بن بشير رضي الله عنه ، قالت : بعثتني أمي بجفنة تمر في طرف ثوبي إلى أبي وخالي عبد الله بن رواحة ، وهم يحفرون في الخندق ، فناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته فأخذ التمر مني في كفه فما ملأها ، وبسط ثوبا فنثره عليه فتساقط- وفي لفظ فتبدد- في جوانبه ، ثم قال [ ص: 370 ] لإنسان عنده : اصرخ : يا أهل الخندق أن هلم إلى الغداء . فاجتمعوا وأكلوا منه ، وجعل يزيد حتى صدروا عنه ، وإنه ليسقط من أطراف الثوب .

وروى ابن عساكر عن عبيد الله بن أبي بردة قال : أرسلت أم عامر الأشهلية بقعبة فيها حيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في قبته عند أم سلمة ، فأكلت أم سلمة حاجتها ، ثم خرج بالقعبة ، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عشائه ، فأكل أهل الخندق حتى نهلوا منها ، وهي كما هي .

وروى أبو يعلى وابن عساكر ، عن عبد الله بن أبي رافع ، عن أبيه رضي الله عنه ، قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق بشاة في مكتل فقال : «يا أبا رافع ، ناولني الذراع» ، فناولته ، ثم قال : «ناولني الذراع» فناولته ثم قال : «ناولني الذراع» ، فناولته ، ثم قال : «ناولني الذراع» ، فناولته ، فقلت : يا رسول الله أللشاة إلا ذراعان ؟ ! قال : «لو سكت ساعة لناولتنيه ما سألتك» .

التالي السابق


الخدمات العلمية