سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
ذكر نقض بني قريظة العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم

لما نزل المشركون فيما ذكر ، خرج عدو الله حيي بن أخطب النضري حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم ، وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه ، وعاهده على ذلك ، فلما سمع كعب بحيي أغلق دونه باب حصنه ، فاستأذن عليه ، فأبى أن يفتح له ، فناداه حيي : ويحك يا كعب ! افتح ، قال : ويحك يا حيي ! إنك امرؤ مشؤوم ، وإني قد عاهدت محمدا ، فلست بناقض ما بيني وبينه ، ولم أر منه إلا صدقا ووفاء . قال : ويحك ! افتح لي أكلمك ، قال : والله ما أنا بفاعل ، قال : والله ، إن أغلقت دوني إلا خوفا على جشيشتك أن آكل معك منها . فأحفظ الرجل ، ففتح له ، فقال : ويحك يا كعب ! جئتك بعز الدهر ، وبحر طام ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة ، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى إلى جانب أحد ، قد عاقدوني وعاهدوني على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه . قال له كعب : جئتني والله بذل الدهر وبجهام قد أهرق ماؤه ، فهو يرعد ويبرق ، وليس فيه شيء ، ويحك يا حيي ! خلني وما أنا عليه ، فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء . فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب حتى سمح له على أن أعطاه عهدا وميثاقا : لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك ، فنقض كعب بن أسد عهده وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ووعظهم عمرو بن سعدى وخوفهم سوء فعالهم ، وذكرهم ميثاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده ، وقال لهم : إذا لم تنصروه فاتركوه وعدوه ، فأبوا .

وخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني قريظة بنو سعنة : أسد وأسيد وثعلبة فكانوا معه ، وأسلموا . [ ص: 374 ]

وأمر كعب بن أسد حيي بن أخطب أن يأخذ لهم من قريش وغطفان رهائن تكون عندهم . فبلغ عمر بن الخطاب خبر نقض بني قريظة العهد ، فأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرهم ، فبعث سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة وهما سيدا قومهما ، ومعهما عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير- زاد محمد بن عمر : وأسيد بن حضير- فقال : انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا ، فإن كان حقا فالحنوا إلي لحنا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس ، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس .

فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم قد نقضوا العهد ، فناشدوهم الله والعهد الذي كان بينهم أن يرجعوا إلى ما كانوا عليه قبل ذلك ، قبل أن يلتحم الأمر ، ولا يطيعوا حيي بن أخطب ، فقال كعب : لا نرده أبدا ، قد قطعته كما قطعت هذا القبال- لقبال نعله- وقال : من رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) ؟ لا عهد بيننا وبينه . فشاتمهم سعد بن عبادة ، كما قال ابن عقبة ومحمد بن عمر وابن عائذ وابن سعد - وقال ابن إسحاق : إنه سعد بن معاذ- وشاتموه وكان رجلا فيه حدة ، فقال له سعد بن معاذ- أو سعد بن عبادة إن كان الأول سعد بن معاذ- : دع عنك مشاتمتهم ، فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة . وقال أسيد بن حضير لكعب : أتسب سيدك يا عدو الله ما أنت له بكفء يا ابن اليهودية ، ولتولين قريش إن شاء الله منهزمين ، وتتركك في عقر دارك فنسير إليك ، فننزلك من جحرك هذا على حكمنا . ورجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال سعد بن عبادة : عضل والقارة ، يعني كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع . وسكت الباقون ، ثم جلسوا .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبشروا يا معشر المؤمنين بنصر الله تعالى وعونه ، إني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق وآخذ المفتاح ، وليهلكن كسرى وقيصر ولتنفقن أموالهم في سبيل الله .

يقول ذلك حين رأى ما بالمسلمين من الكرب . قال ابن عقبة :

ثم تقنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبه حين جاءه الخبر عن بني قريظة ، فاضطجع ومكث طويلا ، وانتهى الخبر إلى المسلمين بنقض بني قريظة العهد ، فاشتد الخوف وعظم البلاء ، وخيف على الذراري والنساء ، وكانوا كما قال الله تعالى : إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر [الأحزاب 10] .

ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قبالة عدوهم ، لا يستطيعون الزوال عن مكانهم ، يعتقبون خندقهم يحرسونه .

ونجم النفاق من بعض المنافقين ، فقال معتب بن قشير : كان محمد يعدنا أن نأخذ كنوز كسرى وقيصر وأن أموالهما تنفق في سبيل الله ، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا [الأحزاب 12] وقال رجال ممن معه :

[ ص: 375 ] يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا [الأحزاب 13] وهمت بنو قريظة بالإغارة على المدينة ليلا ، فبلغ ذلك المسلمين ، فعظم الخطب ، واشتد البلاء ، ثم كفهم الله تعالى عن ذلك لما بلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل سلمة بن أسلم بن حريش الأشهلي في مائتي رجل ، وزيد بن حارثة في ثلاثمائة يحرسون المدينة ، ويظهرون التكبير ، فإذا أصبحوا أمنوا .

واجتمعت جماعة من بني حارثة فبعثوا أوس بن قيظي- بالتحتية والظاء المعجمة المشالة- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله إن بيوتنا عورة ، وليس دار من دور الأنصار مثل دورنا ، ليس بيننا وبين غطفان أحد يردهم عنا ، فأذن لنا فلنرجع إلى دورنا ، فنمنع ذرارينا ونساءنا فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفرحوا بذلك وتهيئوا للانصراف .

قال محمد بن عمر : فبلغ سعد بن معاذ ، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله : لا تأذن لهم ، إنا والله ما أصابنا وإياهم شدة قط إلا صنعوا هكذا ، ثم أقبل عليهم فقال : يا بني حارثة ، هذا لنا منكم أبدا ، ما أصابنا وإياكم شدة إلا صنعتم هكذا . فردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وكان المسلمون يتناوبون حراسة نبيهم ، وكانوا في قر شديد وجوع ، وكان ليلهم نهارا .

روى محمد بن عمر عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يختلف إلى ثلمة في الخندق يحرسها ، حتى إذا آذاه البرد جاءني فأدفأته في حضني ، فإذا دفئ خرج إلى تلك الثلمة ، ويقول : «ما أخشى أن يؤتى الناس إلا منها» فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في حضني قد دفئ وهو يقول : ليت رجلا صالحا يحرس هذه الثلمة الليلة ، فسمع صوت السلاح ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من هذا ؟ » فقال سعد بن أبي وقاص : سعد يا رسول الله ، فقال : «عليك هذه الثلمة فاحرسها» .

قالت : فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى سمعت غطيطه
.

قال ابن سعد : وكان عباد بن بشر ، والزبير بن العوام ، على حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وروى محمد بن عمر عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في الخندق ، وكنا في قر شديد ، فإني لأنظر إليه ليلة قام فصلى ما شاء الله أن يصلي في قبته ، ثم خرج فنظر ساعة فأسمعه يقول : «هذه خيل المشركين تطيق بالخندق» ، ثم نادى عباد بن بشر ، فقال عباد : لبيك ! قال : «أمعك أحد ؟ » قال : نعم ، أنا في نفر من أصحابي حول قبتك .

قال : «انطلق في أصحابك فأطف بالخندق ، فهذه خيل المشركين تطيف بكم ، يطمعون أن يصيبوا منكم غرة ، اللهم فادفع عنا شرهم ، وانصرنا عليهم ، واغلبهم ، فلا يغلبهم أحد غيرك» .


فخرج عباد في أصحابه فإذا هو بأبي سفيان بن حرب في خيل المشركين يطوفون بمضيق من الخندق ، وقد نذر بهم المسلمون فرموهم بالحجارة والنبل ، حتى أذلقهم المسلمون بالرمي . [ ص: 376 ]

فانكشفوا منهزمين إلى منازلهم ، قال عباد : ورجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجدته يصلي فأخبرته . قالت أم سلمة : يرحم الله عباد بن بشر ، فإنه كان ألزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبته يحرسها أبدا . فلما أصبح المشركون ورأوا الخندق قالوا : إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تصنعها ، ولا تكيدها . وقال بعضهم : إن معه رجلا فارسيا فهو الذي أشار عليه به . قالوا : فمن هناك إذا ؟ ونادوا المسلمين ، وكان بينهم الرمي بالنبل والحجارة ، والخندق حاجز بين الفريقين .

وكان المشركون يتناوبون بينهم فيغدو أبو سفيان بن حرب في أصحابه يوما ، ويغدو خالد بن الوليد يوما ، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوما ، ويغدو ضرار بن الخطاب الفهري يوما ، فلا يزالون يجيلون خيلهم ، ويتفرقون مرة ، ويجتمعون أخرى ، ويناوشون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقدمون رماتهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية