سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
ذكر نزول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية وما وقع في ذلك من الآيات

قال مسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم سار فلما دنا من الحديبية وقعت يدا راحلته على ثنية تهبط في غائط القوم ، فبركت به راحلته ، فقال ، وفي رواية : فقال الناس «حل حل» فأبت أن تنبعث وألحت ، فقال المسلمون : خلأت القصواء ،

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : «ما خلأت القصواء وما ذاك لها بعادة ، وفي لفظ : بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة» ثم قال : «والذي نفس محمد بيده لا يسألوني اليوم خطة فيها تعظيم حرمات الله تعالى إلا أعطيتهم إياها»

ثم زجرها فقامت ، فولى راجعا عوده على بدئه .
وفي رواية فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد من ثماد الحديبية ظنون قليل الماء يتبرض الناس ماءه تبرضا ، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه ، فاشتكى الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلة الماء ، وفي لفظ «العطش» فانتزع سهما من كنانته فأمر به فغرز في الماء فجاشت بالرواء حتى صدروا عنها بعطن قال المسور : وإنهم ليغترفون بآنيتهم جلوسا على شفير البئر .

قال محمد بن عمر : والذي نزل بالسهم ناجية بن الأعجم - رجل من أسلم ، ويقال :

ناجية بن جندب وهو سائق بدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد روى أن جارية من الأنصار قالت لناجية وهو في القليب :


يا أيها الماتح دلوي دونكا إني رأيت الناس يحمدونكا

يثنون خيرا ويمجدونكا

فقال ناجية وهو في القليب :


قد علمت جارية يمانيه     أني أنا الماتح واسمي ناجيه
[ ص: 41 ] وطعنة ذات رشاش واهيه     طعنتها تحت صدور العادية

قال محمد بن عمر : حدثني الهيثم بن واقد عن عطاء بن مروان عن أبيه قال : حدثني أربعة عشر رجلا ممن أسلم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ناجية بن الأعجم ، يقول : دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين شكي إليه قلة الماء فأخرج سهما من كنانته ، ودفعه إلي ، ودعا بدلو من ماء البئر فجئته به ، فتوضأ فمضمض فاه ، ثم مج في الدلو - والناس في حر شديد - وإنما هي بئر واحدة قد سبق المشركون إلى بلدح فغلبوا على مياهه فقال : «انزل بالدلو فصبها في البئر وأثر ماءها بالسهم» ففعلت ،

فو الذي بعثه بالحق ما كدت أخرج حتى يغمرني وفارت كما تفور القدر ، حتى طمت واستوت بشفيرها ، يغترفون من جانبها حتى نهلوا من آخرهم . وعلى الماء يومئذ نفر من المنافقين ، منهم عبد الله بن أبي ، فقال أوس بن خولي : ويحك يا أبا الحباب!! أما إن لك أن تبصر ما أنت عليه ؟ أبعد هذا شيء ؟ فقال : إني قد رأيت مثل هذا . فقال أوس :

قبحك الله وقبح رأيك فأقبل ابن أبي يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم

فقال «يا أبا الحباب : إني رأيت مثلما رأيت اليوم» ؟ فقال : ما رأيت مثله قط . قال : «فلم قلته» ؟ فقال ابن أبي : يا رسول الله استغفر لي ،

فقال ابنه عبد الله بن عبد الله - رضي الله عنه - يا رسول الله استغفر له ، فاستغفر له
.

وروى ابن إسحاق ، ومحمد بن عمر ، عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال : أنا نزلت بالسهم . والله أعلم .

قصة أخرى : روى الإمام أحمد ، والبخاري ، والطبراني ، والحاكم في الإكليل ، وأبو نعيم عن البراء بن عازب ، ومسلم عن سلمة بن الأكوع ، وأبو نعيم عن ابن عباس ، والبيهقي عن عروة ، قال البراء : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية أربع عشرة مائة ، والحديبية : بئر فقدمناها وعليها خمسون شاة ما ترويها فتبرضها فلم نترك فيها قطرة ، قال ابن عباس : وكان الحر شديدا ، فشكا الناس العطش ، فبلغ ذلك النبي - عليه الصلاة والسلام - فأتاه فجلس على شفيرها ، ثم دعا «بإناء» وفي لفظ «بدلو» فتوضأ في الدلو ، ثم مضمض ودعا ، ثم صبه فيها ، فتركناها غير بعيد ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا . قال البراء : ولقد رأيت آخرنا أخرج بثوب خشية الغرق حتى جرت نهرا .

وقال ابن عباس وعروة ففارت بالماء حتى جعلوا يغترفون بأيديهم منها وهم جلوس على شفيرها . [ ص: 42 ]

قصة أخرى : روى البخاري في المغازي وفي الأشربة ، عن جابر بن عبد الله ، عن سلمة ابن الأكوع - رضي الله عنهما - قالا : عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين يديه ركوة ،

وقال جابر في رواية : وقد حضر العصر ، وليس معنا ماء غير فضلة ، فجعل في إناء فأتي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتوضأ منها ، ثم أقبل الناس نحوه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما لكم ؟ » قالوا : يا رسول الله ، ليس عندنا ماء نتوضأ به ، ولا نشرب إلا ما في ركوتك فأفرغتها في قدح ، ووضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده في القدح ،
فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون ، فشربنا وتوضأنا ،

فقال سالم بن أبي الجعد : فقلت لجابر : كم كنتم يومئذ ؟ قال : لو كنا مائة ألف لكفانا ، كنا خمس عشرة مائة .


التالي السابق


الخدمات العلمية