سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
ذكر قدوم بديل بن ورقاء الخزاعي ورسل قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم

لما اطمأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية : جاءه بديل بن ورقاء - وأسلم بعد ذلك - في رجال من خزاعة ، منهم : عمرو بن سالم ، وخراش بن أمية وخارجة بن كرز ، ويزيد بن أمية وكانوا عيبة نصح لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتهامة ، منهم المسلم ومنهم الموادع . لا يخفون عنه بتهامة شيئا . فلما قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلموا ، فقال بديل بن ورقاء : جئناك من عند قومك ، كعب بن لؤي ، وعامر بن لؤي ، قد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم ، قد نزلوا أعداد مياه الحديبية ، معهم العوذ المطافيل والنساء والصبيان ، يقسمون بالله لا يخلون بينك وبين البيت حتى تبيد خضراؤهم ،

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إنا لم نأت لقتال أحد ، إنما جئنا لنطوف بهذا البيت ، فمن صدنا عنه قاتلناه ، إن قريشا قد أضرت بهم الحرب ونهكتهم فإن شاءوا ماددتهم مدة يأمنون فيها ، ويخلون فيما بيننا وبين الناس ، - والناس أكثر منهم - فإن أصابوني فذلك الذي أرادوا وإن ظهر أمري على الناس كانوا بين أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس أو يقاتلوا وقد جموا ، وإن هم أبوا فو الله لأجهدن على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله تعالى أمره» .

فوعى بديل مقالة رسول الله وقال : سأبلغهم ما تقول ، وعاد وركبه إلى قريش ، فقال ناس منهم : هذا بديل وأصحابه ، وإنما يريدون أن يستخبروكم فلا تسألوهم عن حرف واحد ، فلما رأى بديل أنهم لا يستخبرونه قال : إنا جئنا من عند محمد ، أتحبون أن نخبركم عنه ؟ فقال عكرمة بن أبي جهل ، والحكم بن العاص - وأسلما بعد ذلك - ما لنا حاجة بأن تخبرونا عنه ، ولكن أخبروه عنا إنه لا يدخلها علينا عامه هذا أبدا حتى لا يبقى منا رجل ، فأشار عليهم عروة بن مسعود الثقفي - وأسلم بعد ذلك - بأن يسمعوا كلام بديل فإن أعجبهم قبلوه وإلا تركوه ، فقال صفوان ابن أمية والحارث بن هشام - وأسلما بعد ذلك - أخبرونا بالذي رأيتم وسمعتم ، فقال بديل لهم : إنكم تعجلون على محمد - صلى الله عليه وسلم - إنه لم يأت لقتال إنما جاء معتمرا وأخبرهم بمقالة النبي - عليه الصلاة والسلام - فقال عروة : يا معشر قريش أتتهمونني ؟ قالوا : لا .

قال : ألستم بالوالد! قالوا : بلى . قال : ألست بالولد ؟ قالوا : بلى وكان عروة لسبيعة بنت عبد شمس القرشية . قال : «ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ لنصركم فلما تبلحوا علي نفرت إليكم بنفسي وولدي ومن أطاعني ؟ قالوا : قد فعلت ، ما أنت عندنا بمتهم . قال : إني لكم ناصح ، وعليكم شفيق ، لا أدخر عنكم نصحا ، فإن بديلا قد جاءكم خطة رشد لا يردها أحد أبدا إلا أحد شر منها . فاقبلوها منه ، وابعثوني حتى آتيكم بمصداقها من عنده ، وأنظر إلى ما [ ص: 44 ]

معه ، وأكون لكم عينا آتيكم بخبره ، فبعثته قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا محمد ، تركت كعب ابن لؤي وعامر بن لؤي على أعداد مياه الحديبية ، معهم العوذ المطافيل قد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم ، قد لبسوا جلود النمور ، وهم يقسمون بالله لا يخلون بينك وبين البيت حتى تجتاحهم ، وإنما أنت ومن قاتلهم بين أحد أمرين أن تجتاح قومك ولم يسمع برجل اجتاح قومه وأهله قبلك . أو بين أن يخذلك من ترى معك ، وإني والله لا أرى معك وجوها وإني لا أرى إلا أوباشا ، وفي رواية : فإني لأرى أشوابا من الناس ، لا أعرف وجوههم ولا أنسابهم ، وخليقا أن يفروا ويدعوك . وفي رواية : وكأني بهم لو قد لقيت قريشا أسلموك فتؤخذ أسيرا ، فأي شيء أشد عليك من هذا ؟ فغضب أبو بكر - وكان قاعدا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : امصص بظر اللات ، أنحن نخذله أو نفر عنه ؟ ! فقال عروة : من ذا ؟ قالوا : أبا بكر . فقال عروة : أما والله لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجيبنك .

وكان عروة قد استعان في حمل دية فأعانه الرجل بالفريضتين والثلاث ، وأعانه أبو بكر بعشر فرائض فكانت هذه يد أبي بكر عند عروة ، وطفق عروة كلما كلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مس لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمغيرة ابن شعبة قائم على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسيف ، - على وجهه المغفر - لما قدم عروة لبسها ، فطفق المغيرة كلما أهوى عروة بيده ليمس لحية النبي - عليه الصلاة والسلام - يقرع يده بنعل السيف ويقول : اكفف يدك عن مس لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل ألا تصل إليك ، فإنه لا ينبغي لمشرك أن يمسه . فلما أكثر عليه غضب عروة وقال : ويحك!! ما أفظك وأغلظك! وقال : ليت شعري!! من هذا الذي آذاني من بين أصحابك ؟ والله لا أحسب فيكم ألأم منه ولا أشر منزلة .

فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : «هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة»

فقال عروة : وأنت بذلك يا غدر ، والله ما غسلت عنك غدرتك بعكاظ إلا أمس ، لقد أورثتنا العداوة من ثقيف إلى آخر الدهر - وسيأتي في ترجمة المغيرة بيان هذه الغدرة .

وجعل عروة يرمق أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعينه ، فو الله ما يتنخم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، ولا يسقط شيء من شعره إلا أخذوه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون النظر إليه ، تعظيما له .

فلما فرغ عروة من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما قال لبديل بن ورقاء وكما عرض عليهم من المدة . فأتى عروة قريشا ، فقال : يا قوم إني وفدت إلى [ ص: 45 ] الملوك : كسرى وقيصر والنجاشي وإني والله ما رأيت ملكا قط أطوع فيما بين ظهرانيه من محمد في أصحابه ، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا ، وليس بملك والله ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه أيهم يظفر منه بشيء ، ولا يسقط شيء من شعره إلا أخذوه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون النظر إليه تعظيما له ، ولا يتكلم رجل منهم حتى يستأذن ، فإن هو أذن له تكلم ، وإن لم يأذن له سكت ، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ، قد حرزت القوم ، واعلموا أنكم إن أردتم منهم السيف بذلوه لكم ، وقد رأيت قوما لا يبالون ما يصنع بهم إذا منعتم صاحبهم ، والله لقد رأيت معه نساء ما كن ليسلمنه أبدا على حال ، فروا رأيكم فأتوه يا قوم ، واقبلوا ما عرض عليكم ، فإني لكم ناصح ، مع إني أخاف أن لا تنصروا على رجل أتى زائرا لهذا البيت معظما له ، معه الهدي ينحره وينصرف ، فقالت قريش : لا تتكلم بهذا يا أبا يعفور ، أو غيرك تكلم بهذا ؟ ولكن نرده عامنا هذا ، ويرجع إلى قابل ، فقال : ما أراكم تصيبكم قارعة . فانصرف هو ومن تبعه إلى الطائف .

فقام الحليس وهو بمهملتين - مصغر - ابن علقمة الكناني وكان من رؤوس الأحابيش ولا أعلم له إسلاما فقال : دعوني آتيه . فقالوا : ائته . فلما أشرف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «هذا فلان من قوم يعظمون البدن وفي لفظ «الهدي ، ويتألهون ، فابعثوها له» فبعثت له ، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي عليها قلائدها ، قد أكلت أوبارها من طول الحبس ، ترجع الحنين ، واستقبله الناس يلبون قد أقاموا نصف شهر ، وقد تفلوا وشعثوا ، صاح وقال : سبحان الله «ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت أبى الله أن تحج لخم وجذام وكندة وحمير ويمنع ابن عبد المطلب ، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت هلكت قريش ورب الكعبة . إن القوم إنما أتوا عمارا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أجل يا أخا بني كنانة» .

وذكر ابن إسحاق ومحمد بن عمر ، وابن سعد : أنه لم يصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى ذلك إعظاما لما رأى فيحتمل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاطبه من بعد ، فرجع إلى قريش فقال : إني رأيت ما لا يحل منعه ، رأيت الهدي في قلائده قد أكل أوباره معكوفا عن محله والرجال قد تفلوا وقملوا أن يطوفوا بهذا البيت ، والله ما على هذا حالفناكم ، ولا عاقدناكم ، على أن تصدوا عن البيت من جاءه معظما لحرمته مؤديا لحقه . وساق الهدي معكوفا أن يبلغ محله . والذي نفسي بيده لتخلن بينه وبين ما جاء له ، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد .

فقالوا : كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به ، وفي لفظ اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك ، كل ما رأيت من محمد مكيدة . [ ص: 46 ]

فقام مكرز بكسر الميم ، وسكون الكاف ، وفتح الراء ، بعدها زاي ، ابن حفص . فقال :

دعوني آته .

فلما طلع ورآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : «هذا رجل غادر»

وفي لفظ «فاجر» فلما انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمه بنحو ما كلم به بديلا وعروة ، فرجع إلى أصحابه فأخبرهم بما رد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية