سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
ذكر إرساله - صلى الله عليه وسلم - خراش بن أمية وبعده عثمان بن عفان إلى قريش

قال محمد بن إسحاق ومحمد بن عمر وغيرهما : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قريش خراش بن أمية على جمل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال له الثعلب ، ليبلغ عنه أشرافهم بما جاء له ، فعقر عكرمة بن أبي جهل - وأسلم بعد ذلك - الجمل ، وأرادوا قتله فمنعه الأحابيش ، فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكد فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما لقي .

وروى البيهقي عن عروة قال : لما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديبية فزعت قريش لنزوله إليهم ، فأحب أن يبعث إليهم رجلا من أصحابه ، فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى قريش ، فقال : يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي وقد عرفت قريش عداوتي لها ، وليس بها من بني عدي من يمنعني ، وإن أحببت يا رسول الله دخلت عليهم . فلم يقل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا ، فقال عمر : يا رسول الله ولكني أدلك على رجل أعز بمكة مني ، وأكثر عشيرة وأمنع ، وأنه يبلغ لك ما أردت ، عثمان بن عفان .

فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان فقال : «اذهب إلى قريش وأخبرهم أنا لم نأت لقتال وإنما جئنا عمارا ، وادعهم إلى الإسلام» .

وأمره أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح ، ويخبرهم أن الله تعالى - وشيكا أن يظهر دينه بمكة حتى لا يستخفى فيها بالإيمان . فانطلق عثمان إلى قريش فمر عليهم ببلدح فقالوا : أين تريد ؟ فقال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليكم لأدعوكم إلى الإسلام ، وإلى الله جل ثناؤه ، وتدخلون في الدين كافة ، فإن الله - تعالى - مظهر دينه ومعز نبيه ، وأخرى : تكفون ويكون الذي يلي هذا الأمر منه غيركم ، فإن ظفر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذلك ما أردتم ، وإن ظفر كنتم بالخيار بين أن تدخلوا فيما دخل فيه الناس ، أو تقاتلوا وأنتم وافرون جامون . إن الحرب قد نهكتكم وأذهبت الأماثل منكم . وأخرى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبركم إنه لم يأت لقتال أحد ، إنما جاء معتمرا ، معه الهدي ، عليه القلائد ينحره وينصرف .

فقالوا : قد سمعنا ما تقول ، ولا كان هذا أبدا ، ولا دخلها علينا عنوة ، فارجع إلى صاحبك فأخبره أنه لا يصل إلينا . [ ص: 47 ]

ولقيه أبان بن سعيد - وأسلم بعد ذلك ، فرحب به أبان وأجاره ، وقال : لا تقصر عن حاجتك ، ثم نزل عن فرس كان عليه فحمل عثمان على السرج وردف وراءه وقال :


أقبل وأدبر لا تخف أحدا بنو سعيد أعزة الحرم

فدخل به مكة ، فأتى عثمان أشراف قريش - رجلا رجلا - فجعلوا يردون عليه : إن محمدا لا يدخلها علينا أبدا ، ودخل على قوم مؤمنين من رجال ونساء مستضعفين بمكة فقال :

إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : قد أظلكم حتى لا يستخفى بمكة اليوم بالإيمان ،

ففرحوا بذلك ، وقالوا : اقرأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السلام .

ولما فرغ عثمان من رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قريش قالوا له : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف ، فقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقام عثمان بمكة ثلاثا يدعو قريشا .

وقال المسلمون - وهم بالحديبية ، قبل أن يرجع عثمان - : خلص عثمان من بيننا إلى البيت فطاف به ،

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون» ،

وقالوا :

وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص إليه قال : «ذلك ظني به ألا يطوف بالكعبة حتى نطوف» ، وعند ابن جرير وابن أبي حاتم عن سلمة بن الأكوع - مرفوعا - «لو مكث كذا كذا سنة ما طاف حتى أطوف» فلما رجع عثمان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال المسلمون له : اشتفيت من البيت يا أبا عبد الله!! فقال عثمان : بئس ما ظننتم بي! فو الذي نفسي بيده لو مكثت مقيما بها سنة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقيم بالحديبية ما طفت حتى يطوف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولقد دعتني قريش إلى أن أطوف بالبيت فأبيت . فقالوا : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمنا وأحسننا ظنا .

وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر أصحابه بالحراسة بالليل ، فكانوا ثلاثة يتناوبون الحراسة :

أوس بن خولي - بفتح الخاء المعجمة والواو - وعباد بن بشر ، ومحمد بن مسلمة - رضي الله عنهم - وكان محمد بن مسلمة على حرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة من الليالي ، وعثمان بن عفان بمكة . وقد كانت قريش بعثت ليلا خمسين رجلا ، عليهم مكرز بن حفص ، وأمروهم أن يطوفوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - رجاء أن يصيبوا منهم أحدا ، أو يصيبوا منهم غرة ، فأخذهم محمد بن [ ص: 48 ] مسلمة ، فجاء بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفلت مكرز فخبر أصحابه وظهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم أنه رجل غادر ، وكان رجال من المسلمين قد دخلوا مكة بإذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم : كرز بن جابر الفهري ، وعبد الله بن سهيل بن عمرو بن عبد شمس ، وعبد الله بن حذافة السهمي ، وأبو الروم بن عمير العبدري ، وعياش بن أبي ربيعة ، وهشام بن العاص بن وائل ، وأبو حاطب بن عمرو من عبد شمس وعمير بن وهب الجمحي وحاطب بن أبي بلتعة ، وعبد الله بن أبي أمية . قد دخلوا مكة في أمان عثمان ، وقيل : سرا ، فعلم بهم فأخذوا ، وبلغ قريشا حبس أصحابهم الذين مسكهم محمد بن مسلمة ، فجاء جمع من قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حتى تراموا بالنبل والحجارة ، وأسر المسلمون من المشركين - أيضا - اثني عشر فارسا ، وقتل من المسلمين ابن زنيم - وقد أطلع الثنية من الحديبية - فرماه المشركون فقتلوه ، وبعثت قريش سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى - وأسلما بعد ذلك ، ومكرز بن حفص ،

فلما جاء سهيل ورآه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه : سهل أمركم

فقال سهيل : يا محمد إن الذي كان من حبس أصحابك وما كان من قتال من قاتلك لم يكن من رأي ذوي رأينا بل كنا له كارهين حين بلغنا ، ولم نعلم به ، وكان من سفهائنا ، فابعث إلينا بأصحابنا الذين أسرت أول مرة ، والذين أسرت آخر مرة .

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إني غير مرسلهم حتى ترسلوا أصحابي» ،

فقالوا : أنصفتنا ، فبعث سهيل ومن معه إلى قريش بالشييم - بشين معجمة مصغر - بن عبد مناف التيمي ، فبعثوا بمن كان عندهم : وهم عثمان والعشرة السابق ذكرهم - رضي الله عنهم - وأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابهم الذين أسرهم ، وقبل وصول عثمان ومن معه بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن عثمان ومن معه قد قتلوا ، فكان ذلك حين دعا إلى البيعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية