صفحة جزء
باب ذكر خلافة سليمان بن عبد الملك

ويكنى أبا أيوب ، بويع يوم موت أخيه الوليد ، وكان بالرملة ، فوصل الخبر إليه بعد سبعة أيام ، [فبويع] ، وسار إلى دمشق ، فورد على فاقة من الناس إليه لما كانوا فيه من جور الوليد وعسفه ، فأحسن السيرة ، ورد المظالم ، وفك الأسرى ، وأطلق أهل السجون ، واتخذ عمر بن عبد العزيز وزيرا ، ثم عهد إليه .

وكان طويلا أسمرا أعرج أكولا ، نشأ بالبادية عند أخواله ، فلما قدم صعد المنبر ، فخنقته العبرة ، ثم قال:


ركب تخب به المطي فغافل عن سيره ومشمر لم يغفل     لا بد أن يرد المقصر والذي
حب النجاء محله لم تحلل

يا أيها الناس ، رحم الله من ذكر فاذكر ، فإن العظة تجلو العمى ، إنكم أوطنتم أنفسكم دار الرحلة ، واطمأننتم إلى دار الغرور فألهاكم الأمل وغرتكم الأماني ، فأنتم سفر وإن أقمتم ، ومرتحلون وإن وطنتم ، لا تشتكي مطاياكم ألم الكلال ، ولا يتعبها دأب السير ، ليل يدلج بكم وأنتم نائمون ، ونهار يجد بكم وأنتم غافلون ، لكم في كل يوم مشيع لا يستقبل ، ومودع لا يؤوب . أولا ترون - رحمكم الله - إلى ما أنتم فيه منافسون ، وعليه مواظبون ، وله مؤثرون ، من كثير يفنى ، وجديد يبلى ، كيف أخذ به المخلفون له ، وحوسبوا عليه دون المتنعم به ، فأصبح كل منهم رهنا بما كسبت يداه . وما الله بظلام للعبيد . [ ص: 14 ]

فيا أيها اللبيب المستبصر فيهم تذهب أيامك ضياعا؟ وعما قليل يقع محذورك ، وينزل بك ما اطرحته وراء ظهرك ، فأسلمك عشيرك ، وفر منك قريبك ، فنبذت بالعراء ، وانفضت عنك الدنيا .

فامهد لنفسك أيها المغرور ، واعمل قبل ركوب المضيق وسد الطريق ، فكأني بك قد أدرجت في أطمارك ، وأودعت ملحدك ، وتصدع عنك أقربوك ، واقتسم مالك بنوك ، ورجع القوم يرعون في زهرات موبق دنياك التي كدحت لها وارتحلت عنها ، فأنت كما قال الشاعر:


سترحل عن دنيا قليل بقاؤها     عليك ، وإن تبقى فإنك فان

إن لله عبادا فروا منه إليه فجالت فكرتهم في ملكوت العظمة ، فعزفت عن الدنيا نفوسهم .

أيها الناس ، أين الوليد وأبو الوليد وجد الوليد خلفاء الله ، وأمراء المؤمنين ، وساسة الرعية؟ أسمعهم الداعي ، وقبض العارية معيرها ، فاضمحل ما كان كأن لم يكن ، وأتى ما كأنه لم يزل ، وبلغوا الأمد ، وانقضت بهم المدة ، ورفضتهم الأيام وشمرتهم الحادثات ، فسلبوا عن السلطنة ، ونفضوا لدة الملك ، وذهب عنهم طيب الحياة ، فارقوا والله القصور وسكنوا القبور ، واستبدلوا بلينة الوطاء خشونة الثرى ، فهم رهائن التراب إلى يوم الحساب . فرحم الله عبدا مهد لنفسه ، واجتهد لدينه ، وأخذ بحظه ، وعمل في حياته ، وسعى لصلاحه ، وعمل ليوم ( تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه أيها الناس ، إن الله عز وجل جعل الموت حتما سبق به حكمه ، ونفذ به قدره ، لئلا يطمع أحد في الخلود ، ولا يطغي المعمر عمره ، وليعلم المخلف بعد المقدم أنه غير مخلد . وقد جعل الله الدنيا دارا لا تقوم إلا بأئمة العدل ، ودعاة الحق ، وإن لله عبادا [ ص: 15 ] يملكهم أرضه ، ويسوس بهم عباده ، ويقيم بهم حدوده ، ويجعلهم رعاة عباده ، وقد أصبحت في هذا المقام الذي أنا به غير راغب فيه ، ولا منافس عليه ، ولكنها إحدى الربق أعلقها الواهق مساغ المزدرد ومخرج النفس ، ولولا أن الخلافة تحفة من الله كفر بالله [خلفها] لتمنيت أني كأحد المسلمين يضرب لي بسهمي .

فعلى رسلكم بني الوليد ، فإني شبل عبد الملك ، وناب مروان ، لا تظلعني حمل النائبة ، ولا يفزعني صريف الأجفر . وقد وليت من أمركم ما كنت له مكفيا ، وأصبحت خليفة وأميرا ، وما هو إلا العدل أو النار ، وليجدني الممارس لي أخشن من مضرس الكذاب ، فمن سلك المحجة حذى نعل السلامة ، ومن عدل عن الطريق وقع في وادي الهلكة والضلالة . ألا فإن الله سائل كلا عن كل ، فمن صحت نيته ولزم طاعته كان الله له بصراط التوفيق ، وبرصد المعونة ، وكتب له بسبيل الشكر والمكافأة ، فاقبلوا العافية فقد رزقتموها ، والزموا السلامة فقد وجدتموها ، فمن سلمنا منه سلم منا ، ومن تاركنا تاركناه ، ومن نازعنا نازعناه .

فارغبوا إلى الله في صلاح نياتكم وقبول أعمالكم ، وطاعة سلطانكم ، فإني والله غير مبطل حدا ، ولا تارك له حقا حتى أنكثها عثمانية عمرية ، وقد عزلت كل أمير كرهته رعيته ، ووليت أهل كل بلد من أجمع عليه خيارهم واتفقت عليه كلمتهم ، وقد جعلت الغزو أربعة أشهر ، وفرضت لذرية الغازين سهم المقيمين ، وأمرت بقسمة صدقة كل مصر في أهله إلا سهم العامل عليها ، وفي سبيل الله ، وابن السبيل ، فإن ذلك لي وأنا أولى بالنظر فيه ، فرحم الله امرأ عرف منا سهو المغفل عن مفروض حق أو واجب فأعان برأي ، وأنا أسأل الله العون على صلاحكم فإنه مجيب السائلين ، جعلنا الله وإياكم ممن ينتفع بموعظته ، ويوفي بعهده فإنه سميع الدعاء ، وأستغفر الله لي ولكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية