صفحة جزء
560 - غيلان بن عقبة بن بهيس بن مسعود بن حارثة بن عمرو بن ربيعة بن ساعدة بن كعب بن عوف ، من بني صعب بن ملكان بن عدي ، ويقال لغيلان: ذو الرمة ، ويكنى أبا الحارث :

سمع بشعره الفرزدق فقال: ما أحسن ما تقول ، فقال: فما لي لا أذكر في الفحول؟ قال: قصر بك عن غاياتهم بكاؤك في الدمن ، ووصفك للأبعار والعطن .

وكان يتشبب بمي بنت طلحة بن عاصم المنقري ، وكانت تسمع شعره ولا تراه ، فجعلت لله أن تنحر بدنة إذا رأته ، فلما رأته رأت رجلا أسود دميما ، فقالت: وا سوءتاه ، كأنها لم ترضه .

قال أبو سوار الغنوي : رأيت ميا ، وكانت مسنونة الوجه ، طويلة الخدين ، شماء الأنف ، عليها وسم جمال . [ ص: 73 ]

قال محمد بن سلام : كانت مولدة لابن قيس بن عاصم تسمى كثيرة قالت بيتين: نحلتهما ذا الرمة ، وهما:


على وجه مي مسحة من ملاحة وتحت الثياب الخزي لو كان باديا     ألم تر أن الماء يخبث طعمه
ولو كان لون الماء في العين صافيا

فامتعض من ذلك ذو الرمة ، وحلف جهد يمينه أنه ما قالهما ، وقال: كيف أقوله وقد أفنيت شبابي أشبب بها وأمدحها .

وكانت مية عند ابن عم لها يقال له عاصم ، فقال ذو الرمة فيها:


ألا ليت شعري هل يموتن عاصم     ولم يشتعبني للمنايا شعوبها
رمى الله من حتف المنية عاصما     بقاصمة يدعى لها فيجيبها

وقد كان ذو الرمة يشبب أيضا بخرقاء إحدى نساء بني عامر بن ربيعة .

وقال أبو زياد الكلابي : خرقاء من بني عامر بن صعصعة .

قال الأصمعي : كان سبب تشبيبه بخرقاء أنه مر في بعض أسفاره فإذا خرقاء خارجة من خباء ، فنظر إليها فوقعت في قلبه فخرق أداوته ليستطعم كلامها ، ثم قال لها: إني رجل على ظهر سفر وقد تخرقت أدواتي فأصلحيها ، فقالت: لا والله لا أحسن العمل ، وإني لخرقاء ، والخرقاء لا تحسن العمل لكرامتها على أهلها .

وروى عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي ، عن منهال السدوسي قال: حدثني رجل من قريش: أنه سلك طريق مكة للحج فعدل عن الطريق فرأى امرأة ، فقال لها: من أنت؟ فقالت: أو ما تعرفني وأنا أحد مناسكك؟ قال: ومن أنت؟ قالت: خرقاء صاحبة ذي الرمة الذي يقول فيها:


تمام الحج أن تقف المطايا     على خرقاء واضعة اللثام

إلا أن جمهور شعره في مي ، وحب خرقاء حدث بعد مي ، وفي هذا دليل على سلو ، ويدل عليه قوله:


أخرقاء للبين استقلت حمولها     نعم غربة فالعين يجري مسيلها

[ ص: 74 ] معنى غربة: أي استقلت لأرض بعيدة .

كأن لم يرعك الدهر بالبين قبلها     لمي ولم يشهد فراقا نزيلها

أي قد راعك الدهر غير مرة .

أنبأنا علي بن عبيد الله بن نصر ، عن أبي جعفر بن المسلمة ، عن أبي عبيد الله محمد بن عمران المرزباني ، قال: حدثني أبو صالح الفزاري ، قال: ذكر ذو الرمة في مجلس فيه عدة من الأعراب ، فقال عصمة بن مالك الفزاري شيخ منهم بلغ مائة وعشرين سنة: إياي فاسألوا عنه ، كان حلو العينين ، حسن المضحك ، براق الثنايا ، خفيف العارضين ، إذا نازعك الكلام لا تسأم حديثه ، باد بزته ، [إذا أنشد بربر] وحسن صوته ، جمعني وإياه مربع مرة ، فأتاني فقال: يا عصمة إن ميا منقرية ، ومنقر أخبث حي ، وأقفاه لأثر وأثبته في نظر ، وأعلمه بشر ، وقد عرفوا آثار إبلي ، فهل من ناقة نزدار عليها ميا ، قلت: أي والله [عندي] الجؤذر ، قال: فعلينا بها ، فجئت بها فركب وردفته ثم انطلقنا حتى نهبط حي مي ، فإذا الحي خلوف ، فلما رآنا النسوة عرفن ذا الرمة ، فتقوضن من بيوتهن حتى اجتمعن إلى مي ، وأنخنا قريبا وجئناهن فجلسنا ، فقالت ظريفة منهن: أنشدنا يا ذا الرمة ، فقال لي:

أنشدهن ، فأنشدت قوله:


وقفت على ربع لمية ناقتي     فما زلت أبكي عنده وأخاطبه

فلما انتهيت إلى قوله:


نظرت إلى أظعان مي كأنها     ذرا النخل أو أثل تميل ذوائبه
فأسبلت العينان والقلب كاتم     بمغرورق نمت عليه سواكبه
[ ص: 75 ] بكى وامق حال الفراق ولم تجل     جوائلها أسراره ومعاتبه

قالت الظريفة: لكن اليوم فلتجل . ثم مضيت إلى قوله:


وقد حلفت بالله مية ما الذي     أحادثها إلا الذي أنا كاذبه
إذا فرماني الله من حيث لا أرى     ولا زال في أرضي عدو أجاذبه

قالت مية: ويحك يا ذا الرمة ، خف عواقب الله عز وجل ، ثم مضيت حتى انتهيت إلى قوله:


إذا سرحت من حب مي سوارح     على القلب آبته جميعا عوازبه

فقالت الظريفة: قتلتيه قتلك الله ، فقالت: ما أصحه وهنيئا له ، قال: فتنفس ذو الرمة تنفسة كاد حرها يطير بلحيته ، ثم مضيت حتى انتهيت إلى قوله:


إذا نازعتك القول مية أو بدا     لك الوجه منها أو نضا الدرع سالبه
فيا لك من خد أسيل ومنطق     رخيم ومن خلق تعلل جادبه

فقالت الظريفة: هذا الوجه قد بدا ، وهذا القول قد تنوزع فيه ، فمن لنا بأن ينضو الدرع سالبه ، فالتفتت إليها مي فقالت: مالك قاتلك الله ماذا تجيئين به ، فتضاحكن النسوة ، فقالت الظريفة: إن لهذين شأنا ، فقمت وقمن ثم صرت إلى بيت قريب منهما أراهما ولا أسمع كلامهما إلا الحرف بعد الحرف ، فو الله ما رأيته برح مكانه ولا تحرك ، وسمعتها تقول: كذبت والله ، فو الله ما أدري ما الذي كذبته فيه ، فتحدثا ساعة ثم جاءني معه قويريرة فيها دهن طيب ، فقال: هذه دهنة أتحفتني بها مي فشأنك بها ، وهذه قلائد در [زودتنا] للجؤذر ، فلا والله لا قلدتهن بعيرا أبدا ، ثم عقدهن في ذؤابة سيفه ، قال:

فانصرفنا ، فلم يزل يختلف إليها مربعنا حتى انقضى ، ثم جاءني يوما ، فقال: يا عصمة قد ظعنت مي فلم يبق إلا الديار ، [والنظر في الآثار ، فانهض بنا إلى ديارها ، فخرجنا حتى وقف على ديارها] فجعل ينظر ثم قال:


ألا فاسلمي يا دار مي على البلى     ولا زال منهلا بجرعائك القطر
[ ص: 76 ] وإن لم تكن في غير شام بقفرة     تمر بها الأذيال صيفية كدر

ثم انفضخت عيناه بالعبرة ، فقلت: مه ، فقال: إني لجلد وإن كان مني ما ترى ، فما رأيت صبابة قط ولا تجلدا أحسن من تجلده وصبابته يومئذ ، ثم انصرفنا فكان آخر العهد به .

قوله: "غير شام" [الشام] لون يخالف معظم لون الأرضين ، وهو جمع شامة ، أي: آثار ، كأنها شام في جيد ، وهي بقاع مختلفة الألوان مثل لون الشامة ، وإنما يريد أثر الرماد بأرض خالية . و "الصيفية" : الرياح الكدر فيها غبرة .

أخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة ، قالت: أخبرنا أحمد بن جعفر السراج ، قال:

أخبرنا القاضيان أبو الحسن الثوري ، وأبو القاسم التنوخي ، قالا: أخبرنا أبو عمرو بن حيويه ، قال: أخبرنا محمد بن خلف ، قال: أخبرنا محمد بن الفضل ، [قال: أخبرني أبي] ، قال: أخبرنا القحذمي ، قال:

دخل ذو الرمة الكوفة فبينا هو يسير في بعض شوارعها على نجيب له رأى جارية سوداء واقفة على باب دار فاستحسنها ووقعت بقلبه فأومأ إليها وقال: يا جارية اسقيني ماء ، فأخرجت له كوزا فشرب وأراد أن يمازحها ويستدعي كلامها ، فقال: يا جارية ، ما أحر ماءك؟ فقالت: لو شئت لأقبلت على عيوب شعرك وترك حر مائي وبرده ، فقال لها:

وأي شعري له عيب؟ فقالت: ألست ذا الرمة؟ قال: بلى ، قالت:


فأنت الذي شبهت عنزا بقفرة     لها ذنب فوق استها أم سالم
جعلت لها قرنين فوق جبينها     وطبين مسودين مثل المحاجم
وساقين إن يستمكنا منك يتركا     بجلدك يا غيلان مثل المناسم
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل     وبين النقا أأنت أم أم سالم

فقال لها: نشدتك بالله إلا أخذت راحلتي هذه وما عليها ولم تظهري هذا ، ونزل [ ص: 77 ] عن راحلته فدفعها إليها . وذهب ليمضي ، فدعتها إليه وضمنت له ألا تذكر لأحد ما جرى .

قال أبو معاوية : كان ذو الرمة حسن الصلاة ، فقيل له: ما أحسن صلاتك ، فقال:

إن العبد إذا قام بين يدي الله لحقيق أن يتخشع .

وقال عيسى بن عمر : كان ذو الرمة ينشد فإذا فرغ قال: والله لأسجنك بشيء ليس في حسابك ، سبحان الله ، والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر .

روى الأصمعي ، عن أبي الوجيه ، قال: كان آخر ما قال ذو الرمة من الشعر:


يا رب قد أسرفت نفسي وقد علمت     علما يقينا لقد أحصيت آثاري
يا مخرج الروح من جسمي إذا احتضرت     وفارج الكرب زحزحني عن النار

وروى ابن دريد ، عن أبي حاتم السجستاني ، عن أبي عبيدة معمر بن المثنى ، قال: حدثني المنتجع بن نبهان ، قال :

كنت مع ذي الرمة حين حضرته الوفاة ، فلما أحس بالموت قال لي: يا منتجع إن مثلي لا يدفن في غموض من الأرض ولا في بطون الأودية ، فإذا أنا مت فادفني برأس فريدادين ، فلما مات جئنا بماء [وسدر وتوقلنا الرملة فحفرنا له حفرة] ودفناه فهناك قبره إذا ظعنت في الدهناء برأس فريدادين .

أخبرنا ابن ناصر ، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار ، قال: أخبرنا إبراهيم بن عمر ، قال: أخبرنا أبو الحسن الزيني ، قال: حدثنا ابن المرزبان ، قال: حدثني أحمد ابن زهير ، قال: حدثني هرقل بن مسلم ، قال: حدثني أبو هلال الأزدي ، قال: حدثني عمارة قال: سمعت ذا الرمة لما حضرته الوفاة ، [يقول: لقد مكثت مهيما بمي عشرين سنة في غير ريبة ولا فساد . [ ص: 78 ]

قال ابن قتيبة : لما حضرت ذا الرمة الوفاة] قال: أنا ابن نصف الهرم ، أنا ابن أربعين سنة .

561 - همام بن منبه ، أخو وهب بن منبه ، يكنى أبا عقبة :

توفي بصنعاء في هذه السنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية