صفحة جزء
وفي هذه السنة: قتل أبو مسلم .

وكان سبب ذلك أن أبا مسلم كان قد كتب إلى أبي العباس يستأذنه في الحج في سنة ست وثلاثين ، وإنما أراد أن يصلي بالناس فأذن له ، وكتب أبو العباس إلى أبي جعفر وهو على الجزيرة: أن أبا مسلم سألني الحج فاكتب إلي تستأذنني في ذلك ، فإنك إذا كنت بمكة لم يطمع أن يتقدمك ، فكتب إليه ، فأذن له . فقال أبو مسلم: أما وجد أبو جعفر عاما يحج فيه غير هذا!! واضطغنها عليه ، فخرجا فكان أبو مسلم يصلح العقاب ، ويكسو الأعراب في كل منزل ، ويصل كل من سأله ، وحفر الآبار ، وسهل الطريق ، وكان الصيت له . [ ص: 5 ]

فلما صدر الناس عن الموسم نفر أبو مسلم قبل أبي جعفر فتقدمه ، فأتاه كتاب بوفاة أبي العباس واستخلاف أبي جعفر ، فكتب إلى أبي جعفر يعزيه ولم يهنئه بالخلافة ، ولم يقم له حتى يلحقه ، فغضب أبو جعفر فقال لأبي أيوب: اكتب إليه كتابا غليظا . فلما أتاه كتاب أبي جعفر كتب إليه يهنئه بالخلافة . فقال يزيد بن أبي أسيد السلمي لأبي جعفر: إني أكره أن تجامعه في الطريق والناس له أطوع ، وليس معك أحد فأخذ برأيه ، فكان يتأخر ويتقدم أبو مسلم ، وما كان في عسكر أبي جعفر غير ستة أدرع ، فمضى أبو مسلم إلى الأنبار ، ودعا عيسى بن موسى أن يبايع له ، فأبى عيسى ، فقدم أبو جعفر فنزل الكوفة ، فأتاه خروج عبد الله بن علي إلى الأنبار ، وعقده لأبي مسلم وقال: سر إليه . فقال أبو مسلم: إن عبد الجبار بن عبد الرحمن ، وصالح بن الهيثم يعيبانني فاحبسهما . فقال أبو جعفر : إن عبد الجبار على شرطي . وكان على شرط أبي العباس وصالح بن الهيثم أخو أمير المؤمنين من الرضاعة ، فلم أكن لأحبسهما لظنك بهما . فقال: أراهما آثر عندك مني . فغضب أبو جعفر . فقال أبو مسلم: لم أرد كل هذا .

وقال رجل لأبي أيوب: إني قد ارتبت بأبي مسلم ، يأتيه الكتاب من أمير المؤمنين فيقرأه ، ثم يلوي شدقه ، ويرمي بالكتاب إلى أبي نصر مالك بن الهيثم فيقرأه ويضحك استهزاء!؟ فقال أبو أيوب: نحن لأبي مسلم أشد تهمة منا لعبد الله بن علي ، إلا أنا نعلم أن أهل خراسان لا يحبون عبد الله بن علي ، وقد قتل منهم من قتل .

وكان أبو مسلم قد أصاب من عسكر عبد الله بن علي متاعا كثيرا وجوهرا كثيرا ، فبعث أبو جعفر مولاه أبا الخصيب ليحصي ذلك ، فغضب وافترى عليه ، وهم بقتله ، فقيل له: إنما هو رسول . فلما قدم به أبو الخصيب على أبي جعفر أخبره .

وقيل: إنما بعث إليه يقطين بن موسى بذلك ، فقال أبو مسلم: يا يقطين ، أمين على الدماء جائر في الأموال . وشتم أبا جعفر ، فأبلغه يقطين ، فكتب إلى أبي مسلم مع يقطين: إني قد وليتك مصر والشام ، وهي خير من خراسان ، فوجه إلى مصر من أحببت ، [ ص: 6 ] وأقم بالشام فتكون بقرب أمير المؤمنين ، فإن أحب لقاءك أتيته من قرب . فلما أتاه الكتاب غضب وقال: هو يوليني الشام ومصر ، وخراسان لي! وعزم على المضي إلى خراسان مجمعا على ذلك ، فكتب بذلك يقطين إلى أبي جعفر .

وخرج أبو جعفر من الأنبار إلى المدائن ، وكتب إلى أبي مسلم في المصير إليه ، فكتب أبو مسلم ، وقد نزل الزاب وهو على الرواح إلى طريق حلوان: قد كنا نروي عن ملك آل ساسان أن أخوف ما يكون من الوزراء إذا سكنت الدهماء ، فنحن نافرون من قربك ، حريصون على الوفاء بعهدك ، حريون بالسمع والطاعة ، غير أنها من بعيد حيث تقارنها السلامة ، فإن أرضاك ذلك فأنا كأحسن عبد لك ، وإن أبيت إلا أن تعطي نفسك إرادتها نقضت ما أبرمت من عهدك ، ضنا بنفسي .

فلما وصل الكتاب إلى المنصور كتب [إلى أبي مسلم: قد فهمت كتابك وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة ملوكهم] الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم ، وإنما راحتهم في انتشار نظام الجماعة ، فلم سويت نفسك بهم ، وأنت [في] طاعتك ومنا صحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر على ما أنت به! وقد حمل إليك أمير المؤمنين عيسى بن موسى رسالة لتسكن إليها إن أصغيت إليها ، وأسأل الله أن يحول بين السلطان ونزغاته وبينك ، فإنه لم يجد بابا يفسد به نيتك أوكد عنده وأقرب من طبه من الباب الذي فتحه عليك .

ثم إن أبا جعفر وجه إلى أبي مسلم جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله البجلي ، وكان واحد أهل زمانه ، فخدعه ورده .

قال جرير: نزلت معه جسر النهروان فتغدينا ، فقال: أين أمير المؤمنين؟ قلت: بالمدائن . قال: في أي المواضع؟ قلت: في صحراء . قال: فما اسم الموضع؟ قلت: رومية . فأطرق طويلا ثم قال: سر ولا حول ولا قوة إلا بالله . [ ص: 7 ]

قال جرير: وقد كان قيل له إنك تقتل أو تموت برومية . فظنها بلاد الروم . ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون ذهبت والله نفسي بيدي . ثم جعل يخاطب نفسه ويقول: يا أبا مسلم ، فتح لك من باب المكايد في عدوك وصديقك ما لم يفتح لأحد حتى إذا دان لك من بالمشرق والمغرب ، خدعك عن نفسك من كان يهاب بالأمس من ينظر إليك إنا لله وإنا إليه راجعون .

ثم تمثل:


فهل من خالد إما هلكنا وهل بالموت عند الناس عار

فأقبل وتلقاه الناس وأنزله وأكرمه ، وكان فيمن بعث إليه عيسى بن موسى ، فحلف له بعتق كل مملوك له ، وصدقة كل ما يملك ، وطلاق نسائه ، وقال: لو خير المنصور بين موت أبيه وموتك لاختار موت أبيه ، فإنه لا يجد منك خلفا .

فأقبل معه ، فلما دخل أبو مسلم المدائن قال لعيسى بن موسى: تدري ما مثلي ومثلك ومثل عمك؟ مثل ثلاثة نفر كانوا في سفر فأتوا على عظام نخرة ، فقال أحدهم:

عندي طب إذا رأيت عظاما متفرقة ألفتها . فقال الثاني: وأنا إذا رأيت عظاما موصولة كسوتها لحما . فقال الثالث: وأنا إذا رأيت عظاما مكسوة لحما أجريت فيها الروح .

ففعلوا ذلك ، فإذا الذي أحيوه أسد ، فقال الأسد في نفسه: ما أحياني هؤلاء إلا وهم على أن يميتوني أقدر . فوثب عليهم فأكلهم ، والله ليقتلني وليقتلن عمك ، وليخلعنك أو ليقتلنك .

وفي رواية: أن أبا مسلم كتب إلى أبي جعفر: أما بعد ، فإني اتخذت رجلا إماما ، فحرف القرآن عن مواضعه طمعا في قليل قد بغاه الله عز وجل إلى خلقه ، فكان كالذي ولي بغرور ، فأمرني أن أجرد السيف ، وأن أرفع الرحمة ولا أقيل العثرة ، ففعلت توطئة لسلطانك حتى عرفكم من كان يجهلكم ، ثم استنقذني الله بالتوبة ، فإن يعف عني فقديما عرف به ونسب إليه ، وإن يعاقبني فبما قدمت يداي ، وما الله بظلام للعبيد . [ ص: 8 ]

أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا أبو الطيب الطبري قال: حدثنا المعافى بن زكريا قال: حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال: حدثنا المغيرة بن محمد قال: حدثنا محمد بن عبد الوهاب قال: حدثنا علي بن المعافى قال: كتب أبو مسلم إلى المنصور حين استوحش منه:

أما بعد ، فقد كنت اتخذت أخاك إماما وجعلته على الدين دليلا وللوصية التي زعم أنها صارت إليه ، فأوطأني عشوة الضلالة ، وأوثقني موثقة الفتنة ، وأمرني أن آخذ بالظنة ، وأقتل على التهمة ، ولا أقبل المعذرة ، فهتكت بأمره حرمات حتم الله صونها ، وسفكت دماء فرض الله حقنها ، وزويت الأمر عن أهله ، ووضعته منه في غير محله ، فإن يعف الله عني فبفضل منه ، وإن يعاقب فبما كسبت يداي ، وما الله بظلام للعبيد . ثم أنساه الله هذا - يعني أبا مسلم - حتى جاءه فقتله .

وفي رواية: أن أبا مسلم خرج يريد خراسان ، مراغما مشاقا ، فلما دخل أرض العراق وارتحل المنصور من الأنبار ، فأقبل حتى نزل المدائن ، وأخذ أبو مسلم طريق حلوان ، فقيل لأبي جعفر أخذ طريق حلوان ، فقال: رب أمر لله دون حلوان .

وقال أبو جعفر لعيسى بن علي وعيسى بن موسى ومن حضره من بني هاشم :

اكتبوا إلى أبي مسلم . فكتبوا إليه يعظمون أمره ويشكرونه على ما كان منه من الطاعة ، ويحذرونه عاقبة الأمر ، ويأمرونه بالرجوع إلى أمير المؤمنين ، وأن يلتمس رضاه ، وبعث أبو جعفر بذلك مع أبي حميد المروزي وقال له: كلم أبا مسلم بألين ما يكلم به أحد ، ومنه ، وأعلمه أني رافعه وصانع به ما لم يصنعه به أحد إن هو صلح وراجع ما [ ص: 9 ] أحب ، فإن أبى أن يرجع فقل له: يقول لك أمير المؤمنين لست للعباس ، وأنا بريء من محمد ، إن مضيت مشاقا ولم تأتني ، إن وكلت أمرك إلى أحد سواي ، وإن لم أل طلبك وقتالك بنفسي ، ولو خضت البحر لخضته ، ولو اقتحمت النار لاقتحمتها حتى أقتلك أو أموت قبل ذلك ، ولا تقولن له هذا الكلام حتى تيأس من رجوعه ، ولا تطمع منه في خير .

فسار أبو حميد في مأمن من أصحابه ممن يثق بهم ، حتى قدموا على أبي مسلم بحلوان ، فدخل عليه أبو حميد ، فدفع إليه الكتاب وقال له: إن الناس يبلغونك عن أمير المؤمنين ما لم يقله ، وخلاف ما عليه رأيه فيك ، حسدا وبغيا ، يريدون إزالة هذه النعمة وتغييرها ، فلا تفسد ما كان منك ، وإنك لم تزل أمين آل محمد ، يعرفك بذلك الناس ، وما ذخر الله لك من الأجر عنده أعظم مما أنت فيه من دنياك ، فلا تحبط أجرك ، ولا يستهوينك الشيطان .

فقال له أبو مسلم: متى كنت تكلمني بهذا؟ فقال: لأنك دعوتنا إلى هذا وإلى طاعة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمرتنا بقتال من خالف ذلك ، وقلت: إن خالفتكم فاقتلوني .

فعند ذلك أقبل أبو مسلم على أبي نصر فقال: يا مالك ، أما تسمع ما يقول لي هذا ، ما هذا بكلامه . فقال: لا تسمع قوله ، فما هذا بكلامه ، وما بعد هذا أشد منه ، فامض لأمرك ولا ترجع ، فوالله لئن أتيته ليقتلنك ، ولقد وقع في نفسه منك شيء لا يأمنك أبدا . فقال أبو مسلم: قوموا . وأرسل إلى نيزك فقال: ما ترى؟ فقال: ما أرى أن تأتيه ، وأرى أن تأتي الري ، فتقيم بها ، فيصير ما بين خراسان والري لك ، وهم جندك لا يخالفك أحد ، فإن استقام لك استقمت له ، وإن أبى كنت في جندك ، وكانت خراسان من ورائك ، فرأيت رأيك .

فدعا أبا حميد فقال: ارجع إلى صاحبك ، فليس من رأيي أن آتيه . فقال: قد اعتزمت على خلافه . قال: لا تفعل . قال: ما أريد أن ألقاه . فلما آيسه من الرجوع قال له: ما أمره أبو جعفر أن يقوله . فوجم طويلا ثم قال: قم . فكسره ذلك القول وأرعبه .

وكان أبو جعفر قد كتب إلى أبي داود وهو خليفة أبي مسلم بخراسان حين اتهم أبا مسلم: إن لك إمرة خراسان ما بقيت . فكتب أبو داود إلى أبي مسلم: إنا لم نخرج [ ص: 10 ] بمعصية خلفاء الله وأهل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم ، فلا تخالفن إمامك ولا ترجعن إلا بإذنه . فوافاه كتابه على تلك الحال فزاده رعبا وهما ، فأرسل إلى أبي حميد وإلى مالك فقال لهما: إني قد كنت عازما على المضي إلى خراسان ، ثم رأيت أن أوجه أبا إسحاق إلى أمير المؤمنين ، فيأتيني برأيه ، فإنه ممن أثق به ، وكان صاحب حرس أبي مسلم ، فوجهه ، فلما قدم تلقاه بنو هاشم بكل ما يحب ، وقال له أبو جعفر : اصرفه عن وجهه ، ولك ولاية خراسان ، وأجازه .

فرجع أبو إسحاق إلى أبي مسلم فقال له: ما أنكرت شيئا ، رأيتهم معظمين لحقك ، يرون لك ما يرون لأنفسهم ، وأشار عليه أن يرجع إلى أمير المؤمنين فيعتذر إليه مما كان منه ، فاجمع على ذلك ، فقال له نيزك: قد أجمعت على الرجوع؟ قال: نعم .

وتمثل:


ما للرجال مع القضاء محالة     ذهب القضاء بحيلة الأقوام

فقال: أما إذا اعتزمت على هذا فخار الله لك ، احفظ عني واحدة: إذا دخلت عليه فأقتله ثم بايع لمن شئت ، فإن الناس لا يخالفونك .

فكتب أبو مسلم إلى أبي جعفر يخبره أنه منصرف إليه ، فبينا كتاب أبي مسلم بين يدي أبي جعفر إذ دخل عليه أبو أيوب ، فرمى أبو جعفر إليه بالكتاب ، فقرأه فقال والله لئن ملأت عيني منه لأقتلنه . فاغتم أبو أيوب وقال في نفسه: لئن قتله لا يترك أصحابه أحدا ممن يتعلق بأبي جعفر حيا .

وقال إسحاق الموصلي: لما عزم المنصور على الفتك بأبي مسلم هاب ذلك عمه عيسى بن علي ، فكتب إليه يقول:


إذا كنت ذا رأي فكن ذا تدبر     فإن فساد الرأي أن تتعجلا

فوقع المنصور في كتابه:


إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة     فإن فساد الرأي أن تترددا
ولا تهمل الأعداء يوما بقدرة     وبادرهم أن يملكوا مثلها غدا

قال أبو إسحاق : والشعر للمنصور .

ثم سار أبو مسلم ، فلما دنا من المدائن أمر أمير المؤمنين الناس فتلقوه ، فدخل أبو [ ص: 11 ] أيوب على أبي جعفر فقال: هذا الرجل يدخل العشية ، فما تريد أن تصنع؟ قال: أريد أن أقتله حين أنظر إليه . فقال: إن دخل عليك ولم تخرج لم آمن البلاء ، ولكن إذا دخل عليك فأذن له أن ينصرف ، فإذا غدا عليك رأيت رأيك .

فلما دخل عليه سلم وقام قائما على قدميه بين يديه . فقال: انصرف يا عبد الرحمن فأرح نفسك ، وادخل الحمام ، فإن للسفر قشفا ، ثم اغد علي . فانصرف ، ثم ندم أبو جعفر ، وافترى على أبي أيوب وقال: متى أقدر على هذه الحال ولا أدري ما يحدث في ليلتي! .

فلما أصبحوا جاء أبو أيوب فقال له أبو جعفر : يا ابن اللخناء ، لا مرحبا بك ، أنت منعتني منه أمس ، والله ما غمضت عيني الليلة . ثم شتمه حتى خاف أن يأمر بقتله . ثم قال: ادع لي عثمان بن نهيك . فدعاه فقال: يا عثمان ، كيف بلاء أمير المؤمنين عندك؟

فقال: يا أمير المؤمنين ، إنما أنا عبدك ، والله لو أمرتني أن أتكئ على سيفي حتى يخرج من ظهري لفعلت . قال: كيف أنت إن أمرتك بقتل أبي مسلم - فوجم ساعة لا يتكلم . فقال له أبو أيوب: ما لك لا تتكلم؟ فقال بصوت ضعيف: أقتله . قال: انطلق فجئ بأربعة من وجوه الحرس أقوياء ، فمضى ، فلما كان عند الرواق ناداه: يا عثمان يا عثمان ، ارجع واجلس وأرسل من تثق به من الحرس فليحضر منهم أربعة . فلما حضروا قال لهم أبو جعفر نحوا مما قال لعثمان ، فقالوا: نقتله . قال: كونوا خلف الرواق . فإذا صفقت فاخرجوا فاقتلوه .

فأرسل إلى أبي مسلم رسلا بعضهم على أثر بعض ، فقالوا: قد ركب إلى عيسى بن موسى . فدعا له عيسى بالغداء ، ثم خرج إلى أبي جعفر وأبو نصر حاجبه بين يديه وحربته معه ، فلما قربا من الباب خرج سلام الحاجب فقال: انزل . فنزل فدخل الدهليز وأغلق الباب دونه ، فقال أبو مسلم: يدخل خاصة أصحابي ، فقال له الربيع: لم نؤمر بذلك . فنزع سيفه من وسطه وقال: الآن عرف الرامي موضع سهمه - وهو مثل يضرب لمن أمكن عدوه من نفسه - فلما بصر بالمنصور انحرف إلى القبلة ، فخر ساجدا ، ثم دنا ليقبل أطرافه ، فقال له: وراءك يا ابن اللخناء . فنصب له كرسي فقعد فقال له أبو [ ص: 12 ] جعفر: أخبرني عن نصلين أصبتهما في متاع عبد الله بن علي . فقال: هذا أحدهما الذي علي . قال: أرنيه . فانتضاه وناوله إياه ، فهزه أبو جعفر ثم وضعه تحت فراشه وأقبل عليه يعاتبه . فقال له: اخترناك وأنت لا تدري أية بيضة انفقأت عن رأسك ، ولا من أي وكر نهضت ، خامل ابن خامل ، فل ابن فل ، ذل ابن ذل ، عشت أيام حداثتك ، وخير يوميك ، يوم تشتري فيه لعاصم بن يونس إزار قدره . ومكشحة داره ، فرقأنا بك المنابر ، ووطئنا أعناق العرب والعجم عقبيك ، أخبرني عن كتابك إلى أبي العباس تنهاه عن الموات ، أردت أن تعلمنا الدين . قال: ظننت أخذه لا يحل ، فكتب إلي ، فلما أتاني كتابه علمت أن أمير المؤمنين وأهل بيته معدن العلم . قال: فأخبرني عن تقدمك إياي في الطريق؟ قال: كرهت اجتماعنا على الماء ، فيضر ذلك بالناس ، فتقدمت التماس الرفق . قال: فقولك حين أتاك الخبر بموت أبي العباس لمن أشار عليك أن تنصرف إلي: نقدم فنرى رأينا ، ومضيت ، فلا أنت أقمت حتى ألحقك ولا أنت رجعت إلي؟

قال: منعني ما أخبرتك من طلب الرفق بالناس ، وقلت: نقدم الكوفة . قال: فجارية عبد الله بن علي ، أردت أن تتخذها؟ قال: لا ، ولكن خفت أن تضيع فحملتها في قبة ووكلت بها من يحفظها . قال: فمراغمتك وخروجك إلى خراسان؟ قال: خفت أن يكون قد دخلك مني [شيء] ، فقلت: آتي خراسان ، فأكتب إليك بعذري ، ولو رأينا ذهب ما في نفسك علي؟ قال: تالله ما رأيت كاليوم قط ، والله ما زدتني إلا غضبا . قال: ليس يقال لي هذا بعد بلائي ، وما كان مني؟ قال: يا ابن الخبيثة ، والله لو كانت أمة مكانك لأجزأت ، إنما عملت ما عملت في دولتنا وبريحنا ، ولو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلا ، ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك!؟ ألست تخطب أمينة بنت علي ، وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس ، لقد ارتقيت - لا أم لك - مرتقى صعبا .

وأخذ يعتذر وأبو جعفر يعاتبه ، إلى أن قال أبو مسلم: دع هذا ، فما أصبحت أخاف أحدا إلا الله . فغضب وشتمه وضربه بعمود ، وصفق بيديه ، فخرجوا عليه ، فضربهعثمان فلم يصنع شيئا ، لم يزد على قطع حمائل سيفه ، وضربه آخر فقطع رجله ، فصاح المنصور : اضربوا قطع الله أيديكم . فقال أبو مسلم في أول ضربة: استبقني لعدوك .

فقال: وأي عدو أعدى إلي منك!؟ فصاح: العفو . فقال المنصور : يا ابن اللخناء ، [ ص: 13 ] العفو والسيوف قد اعتورتك؟ ! ثم قال: اذبحوه ، فذبحوه ، وجاء عيسى بن موسى فقال: أين أبو مسلم؟ فقال: مدرج في الكساء . فقال: إنا لله ، وجعل يلطم ويقول: أحنثتني في أيماني ، وأهلكتني . فقال له: علي لكل شيء تخرجه ضعفاه ، ويحك اسكت ، فما تم سلطانك ولا أمرك إلا اليوم . ثم رمى به في دجلة . وذلك لخمس بقين من شعبان سنة سبع وثلاثين ومائة .

وقال المنصور :


زعمت أن الذي لا يقتضي     فاستوف بالكيل أبا مجرم
سقيت كأسا كنت تسقي بها     أمر في الحلق من العلقم

وكان أبو مسلم قد قتل في دولته ستمائة ألف صبرا .

أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا أبو الطيب الطبري قال: حدثنا المعافى قال: حدثنا الصولي قال: حدثنا الغلابي قال: حدثنا يعقوب ، عن أبيه قال: خطب المنصور بالناس بعد قتل أبي مسلم فقال: أيها الناس ، لا تنفروا أطراف النعم بقلة الشكر فتحل بكم النقم ، ولا تسروا غش الأئمة ، فإن أحدا لا يسر منكرا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه ، [وطوالع نظره] وإنا لن نجهل حقوقكم ما عرفتم حقنا ، ولا ننسى الإحسان إليكم ما ذكرتم فضلنا ، ومن نازعنا هذا القميص أوطأنا أم رأسه خبئ هذا الغمد ، وإن أبا مسلم بايع لنا على أنه من نكث بيعتنا ، أو أضمر غشا لنا فقد أبحنا دمه ، ومكث وغدر وفجر ، فحكمنا عليه لأنفسنا حكمه على غيره لنا .

قال علماء السير: ثم إن أبا جعفر هم بقتل أبي إسحاق صاحب حرس أبي مسلم ، وبقتل نصر بن مالك - وكان على شرط أبي مسلم - فكلمه أبو الجهم وقال: يا أمير

[ ص: 14 ]

المؤمنين ، جنده جندك ، أمرتهم بطاعته فأطاعوه . فدعا أبا إسحاق وقال: أنت المبايع لعدو الله أبي مسلم على ما كان يفعل . فجعل يلتفت يمينا وشمالا تخوفا من أبي مسلم .

فقال له المنصور : تكلم بما أردت ، فقد قتل الله الفاسق . وأمر بإخراجه إليه مقطعا ، فخر أبو إسحاق ساجدا ، فأطال السجود وقال: الحمد لله ، والله ما أمنته يوما واحدا ، وما جئته يوما إلا وقد أوصيت وتكفنت وتحنطت . فقال: استقبل طاعة خليفتك ، وأحمد الله الذي أراحك من الفاسق ، ثم دعا مالك بن الهيثم فكلمه بمثل ذلك ، فاعتذر إليه بأنه أمره بطاعته ، ثم أمرهم بتفريق جند أبي مسلم .

وبعث إلى عدة من قواد أبي مسلم بجوائز سنية ، وأعطى جميع جنوده حتى رضوا .

وكان أبو مسلم قد خلف أصحابه بحلوان وقدم المدائن في ثلاثة آلاف ، وخلف أبا نصر على ثقله وقال: أقم حتى يأتيك كتابي ، قال: فاجعل بيني وبينك آية أعرف بها كتابك . قال: إن أتاك كتابي مختوما بنصف خاتم فأنا كتبته ، وإن أتاك بخاتم كله فلم أكتبه .

فلما قتل أبو مسلم كتب أبو جعفر إلى أبي نصر كتابا عن لسان أبي مسلم يأمره بحمل ثقله وما خلف عنده ، وأن يقدم . وختم الكتاب بخاتم أبي مسلم ، فلما رأى أبو نصر نقش الخاتم تاما علم أن أبا مسلم لم يكتبه ، فقال: أفعلتموها ، وانحدر إلى همدان وهو يريد خراسان ، فكتب أبو جعفر إلى أبي نصر بعهده على شهرزور ، فلما مضى العهد جاءه الخبر أنه قد توجه إلى خراسان ، فكتب أبو جعفر إلى عامله بهمدان: إن مر بك أبو نصر فاحبسه . فأخذه فحبسه ، فقدم صاحب [الكتاب] بالعهد لأبي نصر فخلى سبيله ، ثم قدم كتاب آخر بعده بيومين يقول فيه: إن كنت أخذت أبا نصر فاقتله .

فقال: جاءني كتاب عهده فخليت سبيله .

وقدم أبو نصر على أبي جعفر فقال له: أشرت على أبي مسلم بالمضي إلى [ ص: 15 ] خراسان فقال: نعم يا أمير المؤمنين ، كانت له عندي أياد وصنائع ، فاستشارني فنصحته ، وأنت يا أمير المؤمنين إن اصطنعتني نصحت لك وشكرت . فعفا عنه .

وفي رواية: أن المنصور كتب إلى عامل أصبهان: لله دمك إن فاتك - يعني أبا نصر فأخذه وأوثقه وبعثه إليه فصفح عنه .

وقد كان أبو الجهم بن عطية أحد النقباء ، وكان عينا لأبي مسلم على المنصور ، فلما اتهمه المنصور طاوله يوما بالحديث حتى عطش ، فاستسقى ماء فدعي له بسويق لوز ممزوج بالسكر ، وفيه سم ، فشربه ، فلما استقر في جوفه أحس بالموت ، فوثب مسرعا فقال له: إلى أين؟ قال: إلى حيث أرسلتني . فرجع إلى رحله فمات . فقال الشاعر:


تجنب سويق اللوز لا تقربنه     فشرب سويق اللوز أودى أبا الجهم

وذهبت "شربة أبي الجهم" مثلا للشيء الطيب الطعم الخبيث العاقبة .

قال أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الحافظ: إن المنصور كان يقول: ثلاث كن في صدري شفى الله منها: كتاب أبي مسلم إلي وأنا خليفة: عافانا الله وإياك من السوء ، ودخول رسوله علينا وقوله: أيكم ابن الحارثية؟ وضرب سليمان بن حبيب ظهري بالسياط .

قال أبو محمد: كان سليمان قد استعمل المنصور على بعض كور فارس قبل أن تصير الخلافة إلى بني العباس ، فاحتجز المال لنفسه ، فضربه سليمان بالسياط ضربا شديدا وأغرمه المال ، فلما ولي الخلافة ضرب عنقه .

التالي السابق


الخدمات العلمية