صفحة جزء
ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائة

فمن الحوادث فيها:

خروج محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالمدينة وخروج أخيه إبراهيم بن عبد الله بعده بالبصرة ومقتلهما رضي الله عنهما: فأما خبر محمد: فإن أبا جعفر لما انحدر ببني حسن رد رياحا إلى المدينة ، فألح في الطلب وأحرج محمدا حتى عزم على الظهور ، فخرج قبل وقته الذي فارق عليه أخاه إبراهيم .

وقيل: إن إبراهيم هو الذي تأخر عن وقته لجدري أصابه .

وخرج محمد في مائتين وخمسين فارسا ، فأتى السجن فأخرج من فيه ، وتناوش الناس . وذلك في أول يوم من رجب هذه السنة . وقيل: لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة .

فأمر برياح وابن مسلم فحبسا ، وجعل يقول لأصحابه: لا تقتلوا . وصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال: أما بعد ، أيها الناس ، فإنه كان من أمر هذه الطاغية عدو الله أبي جعفر ما لم يخف عليكم من بناية القبة الخضراء التي بناها معاندة لله في ملكه ، وتصغيرا لكعبة الله الحرام ، وإنما أخذ الله فرعون حين قال: أنا ربكم الأعلى فإن أحق الناس بالقيام في هذا الدين أبناء المهاجرين الأولين والأنصار ، اللهم إنهم قد أحلوا حرامك ، وحرموا حلالك ، وأمنوا من خوفت وأخافوا من أمنت ، اللهم فاحصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تغادر منهم أحدا ، يا أيها الناس ، إني والله ما خرجت بين [ ص: 64 ] أظهركم وأنتم عندي أهل قوة ولا شدة ، ولكني اخترتكم لنفسي ، والله ما جئت وفي الأرض مصر يعبد الله فيه إلا وقد أخذ لي .

وكان المنصور يكتب على ألسن قواده يدعونه إلى الظهور ، ويخبرونه أنهم معه ، فكان محمد يقول: لو التقينا مال إلي القواد كلهم .

ولما أخذ محمد المدينة استعمل عليها عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير ، وعلى قضائها عبد العزيز بن عبد المطلب بن عبد الله المخزومي ، وعلى الشرط أبا القاسم عثمان بن عبيد الله ، وعلى ديوان العطاء عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن ، واستعمل القاسم بن إسحاق على اليمن ، وموسى بن عبد الله على الشام يدعوان إليه ، فقتلا قبل أن يصلا .

واستفتي مالك بن أنس في الخروج مع محمد ، وقيل له: إن في أعناقنا لأبي جعفر بيعة . فقال: إنما بايعتم مكرهين ، وليس على مكره يمين ، فأسرع الناس إلى محمد ، ولزم مالك بيته ، وأرسل محمد إلى إسماعيل بن عبد الله بن جعفر ، فدعاه فقال: يا ابن أخي ، أنت والله مقتول ، فكيف أبايعك؟ فارتدع الناس عنه قليلا ، وخرج محمد وأبو جعفر قد خط مدينة بغداد بالقصب . فلما خرج مضى رجل من بني عامر ، فسار من المدينة تسع ليال ، فقدم على أبي جعفر ، فقال الربيع: ما حاجتك؟ فقال: لا بد لي من أمير المؤمنين فأعلمه . فقال: سله عن حاجته وأعلمني . قال: قد أبى إلا مشافهتك . فأذن له ، فدخل فقال: يا أمير المؤمنين ، خرج محمد بن عبد الله بالمدينة

فقال: قتلته والله ، أخبرني من معه ، فسمى له . فقال: أنت رأيته . قال: أنا رأيته وكلمته على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأدخله أبو جعفر بيتا ، فلما أصبح جاءه الخبر ، فأمر للرجل بتسعة آلاف ، لكل ليلة سارها ألفا .

وكتب أبو جعفر إلى محمد بن عبد الله: بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا إلى قوله: غفور رحيم ولك عهد الله [ ص: 65 ] وميثاقه وذمته وذمة رسوله إن تبت ورجعت من قبل أن أقدر عليك أن أؤمنك وجميع إخوتك وأهل بيتك ومن اتبعكم على دمائكم وأموالكم ، وأسوغك ما أصبت من دم أو مال ، وأعطيك ألف ألف درهم ، وما سألت من الكراع ، وأنزلك من البلاد حيث شئت ، وأن أطلق من في حبسي من أهل بيتك ، وأن أؤمن كل من جاءك أو بايعك أو دخل في شيء من أمرك ، فإن أردت أن تتوثق لنفسك فوجه إلي من أحببت يأخذ لك مني من الأمان والميثاق ما تثق به .

فكتب إليه محمد بن عبد الله: من عبد الله المهدي محمد بن عبد الله إلى محمد بن عبد الله: طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق إلى قوله تعالى: ما كانوا يحذرون وأنا أعرض عليك من الأمان مثل ما عرضت علي ، فإن الحق حقنا ، وإنما ادعيتم هذا الأمر بنا ، وخرجتم له بشيعتنا ، وإن أبانا عليا كان الإمام ، فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء؟ فوالدنا من النبيين محمد صلى الله عليه وسلم ومن السلف أولهم إسلاما: علي بن أبي طالب ، ومن الأزواج أفضلهم خديجة ، وأول من صلى للقبلة ، ومن البنات خيرهن فاطمة ، ومن المولودين حسن وحسين سيدا شباب أهل الجنة ، وإن هاشما ولد عليا مرتين ، وإن عبد المطلب ولد حسنا مرتين ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدني مرتين من قبل حسن وحسين ، وإني أوسط بني هاشم نسبا ، وأصرحهم أبا ، إنما لم نعرف في العجم ، ولم ننازع في أمهات الأولاد ، ولك عهد الله إن دخلت في طاعتي ، أن أؤمنك على نفسك ومالك وعلى كل أمر أحدثته ، إلا حدا من حدود الله ، أو حقا لمسلم أو معاهد ، وأنا أولى بالأمر منك ، وأوفى بالعهد ، لأنك أعطيتني من العهد والأمان ما أعطيته رجالا قبلي ، فأي الأمانات تعطيني!؟ أمان ابن هبيرة ، أم أمان عمك عبد الله بن علي ، أم أمان أبي مسلم .

فكتب إليه أبو جعفر : أما بعد ، فإني قد فهمت كتابك ، فإذا جل فخرك بقرابة النساء لتضل به الغوغاء ، ولم يجعل الله النساء كالعمومة ، ولا الآباء كالعصبة ، والأولياء ، ولقد بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم وله عمومة أربعة ، فأجاب اثنان أحدهما أبي ، وأبى اثنان أحدهما أبوك ، فقطع الله ولايتهما منه ، وأما ما فخرت به من علي ، فقد [ ص: 66 ] حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم الوفاة ، فأمر غيره فصلى بالناس ، وكان في الستة فدفعوه ، وقتل عثمان وهو له متهم ، وقاتله طلحة والزبير ، ثم كان حسن فباعها من معاوية بخرق ودراهم ، فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه وأخذتم ثمنه ، ثم خرجتم على بني أمية فقتلوكم وصلبوكم ونفوكم ، فطلبنا بثأركم ، وأورثناكم أرضهم ، ولقد علمت أن مكرمتنا في الجاهلية سقاية الحاج وزمزم ، ولقد قحط أهل المدينة فلم يتوسل عمر إلا بأبينا .

ولما ظهر محمد شخص إليه الحسن بن معاوية فرده إلى مكة ، فغلب عليها ودخل مكة فخطب بالناس ونعى إليهم أبا جعفر ، ودعا لمحمد بن عبد الله فدعا أبو جعفر جعفر بن حنظلة النهراني ، وكان أعلم الناس بالحرب ، وقد شهد مع مروان حروبه ، فقال له: يا جعفر ، قد ظهر محمد ، فما عندك؟ فقال: وأين ظهر؟ قال: بالمدينة قال:

فاحمد الله ، ظهر حيث لا مال ولا سلاح ولا كراع ، ابعث مولى لك تثق به الآن ينزل بوادي القرى ، فيمنعه ميرة الشام ، فيموت مكانه جوعا . ففعل وندب أبو جعفر عيسى بن موسى لقتال محمد وقال: لا أبالي أيهما قتل صاحبه وضم إليه أربعة آلاف من الجند ، وبعث معه محمد بن أبي العباس أمير المؤمنين ، وقدم كثير بن أبي حصين العبدي فعسكر بفيد ، وخندق عليه خندقا حتى قدم عليه عيسى بن موسى ، فخرج به إلى المدينة ، وقال أبو جعفر لعيسى حين ودعه: يا عيسى ، إني أبعثك إلى ما بين هذين - وأشار إلى جنبيه - فإن ظفرت بالرجل فشم سيفك وابذل الأمان ، وإن تغيب فضمنهم إياه حتى يأتوك به ، فإنهم يعرفون مذهبه . ففعل ذلك .

ولما وصل عيسى إلى فيد كتب إلى رجال من أهل المدينة ، فتفرقوا عن محمد وخرجوا إلى عيسى ، وقد كان مع محمد نحو من مائة ألف ، فلما دنا عيسى إلى المدينة قال محمد لأصحابه: أشيروا علي في الخروج والمقام . فاختلفوا ، فقال بعضهم: إنك بأقل بلاد الله فرسا وطعاما ، وأضعفها رجلا وسلاحا ، والرأي بأن تسير بمن معك حتى تأتي مصر ، فوالله لا يردك راد ، فتقابل الرجل بمثل سلاحه ورجاله .

وقال بعضهم: أعوذ بالله أن تخرج من المدينة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيتني في درع حصينة فأولتها المدينة" فحفر خندق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حفره يوم الأحزاب ، وخطب الناس وقال: "إن هذا الرجل قرب منكم في عدد وعدة ، وقد أحللتكم من بيعتي ، فمن أحب فليقم ، ومن أحب فلينصرف . فتسللوا وخرج قوم منهم إلى الجبال حتى بقي في شرذمة ، حتى قال بعضهم: نحن اليوم في عدة أصحاب بدر ثلاثمائة وثلاثة [ ص: 67 ] عشر رجلا ونزل عيسى بالحرف صبيحة اثنتي عشرة من رمضان من هذه السنة يوم السبت ، فأقام يوم السبت ويوم الأحد وغداة الاثنين ، حتى استولى على سلع ، وشحن وجوه المدينة بالخيل ، وأقبل على دابته يمشي وحوله نحو من خمسمائة وبين يديه راية ، فوقف على الثنية ثم نادى: يا أهل المدينة ، إن الله قد حرم دماء بعضنا على بعض ، فهلم إلى الأمان ، فمن قام تحت رايتنا فهو آمن ، ومن دخل داره فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن خرج من المدينة فهو آمن ، خلوا بيننا وبين صاحبنا ، فإما لنا وإما له .

فشتمه أهل المدينة ، فانصرف يومه ذاك ، وعاد من الغد ، ففعل مثل ذلك فشتموه ، فلما كان في اليوم الثالث أقبل بالخيل والرجال والسلاح ، ونادى بنفسه: يا محمد ، إن أمير المؤمنين أمرني أن لا أقاتل حتى أعرض عليك الأمان ، فلك الأمان على نفسك وأهلك وولدك وأصحابك ، وتعطى من المال كذا وكذا ، ويقضى عنك دينك . فصاح محمد إله عن هذا ، فوالله لقد علمت إنه لا يثنيني عنكم فزع ، ولا يقربني منكم طمع ، ولحج القتال وترجل ، فقتل يومئذ نحوا من سبعين بيده ، وكانت الهزيمة قد بلغت الخندق ، فأرسل عيسى بأبواب بقدر الخندق ، فعبروا عليها حتى كانوا من ورائه ، ثم اقتتلوا أشد القتال من بكرة حتى العصر .

وفي رواية: أمرهم عيسى فطرحوا حقائب الإبل في الخندق ، وأمر ببابي دار سعد بن مسعود التي في الثنية ، فطرحا على الخندق ، فجازت الخيل ، فالتقوا ، فانصرف محمد قبل الظهر ، فاغتسل وتحنط ، فقيل له: الحق بمكة . فقال: لو خرجت لقتل أهل المدينة ، والله لا أرجع حتى أقتل أو أقتل . فعرقب دابته ، وعرقب أصحابه دوابهم ، فلم يبق أحد إلا كسر غمد سيفه ، فجاز رجل فضرب محمدا بالسيف دون شحمة أذنه اليمنى ، فبرك لركبتيه ، وتعاونوا عليه . وصاح حميد بن قحطبة: لا تقتلوه ، فكفوا ، فجاء حميد فاجتز رأسه ، وكان مع محمد سيف ، فأعطاه - قبل أن يقتل - رجلا من التجار له عليه دين أربعمائة دينار . فقال خذ هذا السيف ، فإنك لا تلقى أحدا من آل أبي طالب إلا أخذه وأعطاك حقك ، فكان السيف عنده حتى ولي جعفر بن سليمان المدينة ، فأخبر عنه ، فدعا الرجل وأخذ السيف منه وأعطاه أربعمائة دينار وقتل محمد [ ص: 68 ] رضي الله عنه بعد العصر يوم الاثنين لأربع عشرة خلت من رمضان ، فلما أصبحوا أرسلت أخته زينب وابنته فاطمة إلى عيسى: إنكم قد قتلتم هذا الرجل وقضيتم منه حاجتكم ، فلو أذنتم لنا فواريناه . فأذن في ذلك ، فدفنوه بالبقيع ، وأمر عيسى بصلب أصحابه ، وبعث عيسى بألوية فوضعها في أماكن ونادى مناديه: من دخل تحت لواء منها فهو آمن ، أو دخل دارا من هذه الدور فهو آمن . وجعل عيسى يختلف إلى المسجد ، فأقام بالمدينة أياما ، ثم شخص [صبح] تاسع عشر رمضان يريد مكة ، وحمل رأس محمد إلى أبي جعفر وهو بالكوفة ، فأمر به فطيف به في طبق أبيض ، فلما أمسى بعث به في الآفاق ، وتتبع من هرب من الخارجين معه فقتل أكثرهم .

ولما خرج عيسى من المدينة استخلف عليها كثير بن حصين ، فمكث واليا عليها شهرا ، ثم قدم عبد الله بن الربيع الحارثي واليا عليها من قبل أبي جعفر .

وفيها: ثارت السودان بالمدينة وواليها عبد الله بن الربيع ، فهرب منهم .

وكان السبب الذي هيج ذلك أن رياح بن عثمان استعمل أبا بكر بن عبد الله بن سبرة على صدقة أسد وطيئ ، فلما خرج محمد أقبل إليه أبو بكر بما كان جبى ، وشمر معه ، فلما استخلف عيسى كثير بن حصين أخذ أبا بكر فضربه سبعين سوطا وحبسه ، ثم قدم عبد الله بن الربيع واليا يوم السبت لخمس بقين من شوال سنة خمس وأربعين ، فنازع بعض جنده بعض التجار في بعض ما يشترون منهم ، فخرجت طائفة منهم - يعني التجار - فشكوا ذلك إلى ابن الربيع فنهرهم وشتمهم ، فطمع فيهم الجند ، فانتهبوا شيئا من طعام السوق ، وعدوا على رجل من الصرافين فغالبوه على كيسه ، فاجتمع أهل المدينة فشكوا ذلك إلى ابن الربيع فلم ينكر ذلك ، وجاء رجل من الجند فاشترى من جزار لحما ولم يعطه ثمنه وشهر عليه السيف ، فطعنه الجزار بشفرة فخر عن دابته ، واعتوره الجزارون فقتلوه ، وتنادى السودان على الجند وهم يروحون إلى الجمعة فقتلوهم بالعمد في كل ناحية ، حتى أمسوا ، فلما كان الغد هرب ابن الربيع ، ونفخ [ ص: 69 ] السودان في بوق لهم ، فكان كل أسود يسمعه فيؤم الصوت ، وذلك في يوم الجمعة لسبع بقين من ذي الحجة ، وعدوا على ابن الربيع والناس في الجمعة ، فأعجلوه عن الصلاة ، وخرج حتى أتى السوق ، فمر بمساكين خمسة وهم يسألون الناس ، فحمل عليهم بمن معه فقتلوهم ، وحمل عليه السودان ، فهرب ابن الربيع إلى البقيع فرهقوه ، فنثر لهم دراهم فأشغلوا بها ، ومضى لوجهه حتى نزل بطن نخلة ، ووقع السودان في طعام لأبي جعفر من سويق ودقيق وزيت ، فانتهبوه .

فخرج ابن أبي سبرة من السجن في حديده ، فخطب الناس وصلى بهم ، ودعاهم إلى الطاعة ، وقال ابن أبي سبرة لجماعة من سادات العبيد: والله لئن ثبتت علينا هذه الثلاثة عند أمير المؤمنين بعد الفعلة الأولى إنه لاصطلام البلد وأهله ، فاذهبوا إلى العبيد فكلموهم . فذهبوا إليهم فقالوا: مرحبا بكم يا موالينا ، والله ما قمنا إلا إبقاء لكم .

وأقبلوا بهم إلى المسجد ، فردوا ما انتهبوه ، فرجع ابن الربيع ، فقطع أيدي جماعة من السودان .

التالي السابق


الخدمات العلمية