صفحة جزء
أما جسور بغداد فإن المنصور أمر أن تعقد ثلاثة جسور ، أحدها للنساء ، ثم عقد لنفسه وحشمه جسرين بباب البستان ، فكان بالزندورد جسران قد عقدهما المهدي ، وكان الرشيد قد عقد عند باب الشماسية جسرين ، وكان للمنصور جسر عند سويقة قطوطا ، فلم تزل هذه الجسور إلى أن قتل الأمين فعطلت ، وبقي منها ثلاثة إلى أيام المأمون ثم عطل واحد .

أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: سمعت أبا علي بن شاذان يقول: أدركت ببغداد ثلاثة جسور أحدها محاذي سوق الثلاثاء ، وآخر بباب الطاق ، والثالث في أعلى البلد عند الدار المعزية . وذكر لي غير ابن شاذان: أن الجسر الذي كان عند الدار المعزية نقل إلى باب الطاق فصار هناك جسران يمضي الناس على أحدهما ويرجعون على الآخر .

قال الخطيب: ولم يبق ببغداد غير جسر واحد بباب الطاق إلى دخول سنة ثمان وأربعين .

قال عبد الرحمن: وأخبرنا أحمد قال: حدثني هلال بن المحسن قال: ذكر أنه أحصيت السميرات المعبرات بدجلة أيام الموفق أبي أحمد فكملت ثلاثين ألفا ، فقدر من كسب ملاحتها كل يوم تسعين ألف درهم . [ ص: 81 ]

وأما الأنهار ، فإن نهري بغداد دجلة والفرات ، وكانت الأنهار التي تجري بمدينة المنصور والكرخ ، وتخترق بين المحال تأخذ من نهر عيسى بن علي ، وكان عند فوهته [قنطرة] دمما ، وكان على الياسرية قنطرة ، وعلى الرومية قنطرة ، وعلى الزياتين قنطرة ، وبعدها قنطرة عند باعة الأشنان ، ثم قنطرة الشوك ، ثم قنطرة عند باعة الرمان ، ثم قنطرة عند الأرحاء] ، ثم قنطرة البستان ، ثم قنطرة المعبدي ، ثم قنطرة بني زريق ، ثم يصب في دجلة .

والأنهار التي تجري في المحال كالكرخ وغيرها من نهر عيسى ، وكان على الصراة قناطر يتفرع منها أنهار ، وفي الجانب الشرقي نهر موسى يأخذ من نهر بين ينقسم ثلاثة: نهر يمضي إلى الزاهر ، والثاني باب بييرز ، ويدخل البلد من هناك ويسمى نهر المعلى ، ويمر بين الدور إلى سوق الثلاثاء ، ثم يدخل دار الخلافة ، ويجري إلى دجلة . والثالث يمر [إلى] دار الخلافة أيضا ، ونهر من الخالص يقال له: نهر الفضل ، إلى أن ينتهي إلى باب الشماسية ، فيأخذ منه نهر يقال له: نهر المهدي ويدخل المدينة في شارع المهدي ، ثم يجيء إلى قنطرة البردان ، ويخرج إلى سويقة نصر بن مالك ، ثم يدخل الرصافة ، ويمر في الجامع أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا محمد بن علي الوراق قال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عمران قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن يحيى النديم قال: ذكر أحمد بن أبي طاهر أن ذرع بغداد الجانبين ثلاثة وخمسون ألف جريب وسبعمائة وخمسون جريبا ، منها الجانب الشرقي ستة وعشرون ألف جريب وسبعمائة وخمسون جريبا . والغربي سبعة وعشرون ألف جريب . وأن عدد [ ص: 82 ] الحمامات كانت في ذلك الوقت ببغداد ستين ألف حمام . قال: أقل ما يكون في كل حمام خمسة نفر: حمامي ، وقيم ، وزبال ، ووقاد ، وسقاء ، يكون ذلك ثلاثمائة ألف رجل . وذكر أنه يكون بإزاء كل حمام خمسة مساجد يكون ذلك ثلاثمائة ألف مسجد ، وتقدير ذلك أن أقل ما يكون في كل مسجد خمسة أنفس ، يكون ذلك ألف ألف وخمسمائة ألف إنسان ، يحتاج كل إنسان في ليلة العيد إلى رطل صابون ، فيكون ذلك ألف ألف وخمسمائة ألف رطل صابون ، يكون [ذلك] - حساب الجرة مائة وثلاثين رطلا -: ألف جرة ومائة جرة وخمسين جرة وثمانية جرار ونصفا ، يكون ذلك زيتا - حساب الجرة ستين رطلا - ستمائة ألف رطل وتسعة آلاف رطل وخمسمائة وعشرة أرطال .

وقد روي أن الحمامات كانت في عهد معز الدولة بضعة عشر ألف حمام ، وفي زمان عضد الدولة خمسة آلاف وكسر .

وقد اتفق الناس أن بغداد لا نظير لها ، وأحسن ما كانت في أيام الرشيد ، فحدثت بها الفتن ، وتتابعت المحن ، وانتقل قطانها .

أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: حدثني أبو القاسم التنوخي قال: أخبرني أبي قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن صالح الهاشمي في سنة ستين وثلاثمائة قال: أخبرني رجل يبيع سويق الحمص - منفردا به -: أنه حصر ما يعمل في سوقه من هذا السويق كل سنة ، فكان مائة وأربعين كرا ، يكون حمصا مائتين وثمانين كرا ، يخرج كل سنة حتى لا يبقى منه شيء ، ويستأنف عمل ذلك للسنة الأخرى .

قال هلال بن المحسن: عبرت إلى الجانب الشرقي من مدينة السلام بعد الأحداث الطارئة فرأيت ما بين سوق السلاح والرصافة وسوق العطش ومربعة الحرسي [ ص: 83 ] والزاهر ، وما في دواخل ذلك ورواضعه قد خرب خرابا فاحشا ، ولم يترك النقض فيه جدارا قائما - ولا مسجدا باقيا ، وأما ما بين باب البصرة والعتابين والخلد وشارع الرقيق من الجانب الغربي فقد اندرس اندراسا كليا ، وصار الجامعان بالمدينة والرصافة متوسطين الصحراء بعد أن كانا في وسط العمارة .

وعرفني بعض العارفين بأمر الحمامات في جانبي البلد عدد ما بقي منها في هذا الوقت وهي سنة عشرين وأربعمائة نحو مائة وسبعين حماما .

وأنني لأذكر وقد حضر عند جدي إبراهيم بن هلال في سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة أحد ممن كان يغشاه ، وجرى ذكر مدينة السلام في كبرها ، فقال الرجل: لعل هذه الحال كانت قديما ، فأما الآن فحدثني فلان - وله - معرفة بالحمامات - أن جميع ما بقي منها نحو ثلاثة آلاف ، فقال جدي: لا إله إلا الله ، كذا يكون الانقراض!؟ فإنها أحصيت في زمان المقتدر ، وقد فشا الخراب ، فكانت تسعا وعشرين ألف حمام .

ولقد ورد كتاب ركن الدولة على أبي محمد المهلبي يقول فيه: بلغنا كثرة المساجد والحمامات ببغداد ، فيذكر لنا الموجود اليوم فكانت المساجد تتجاوز حد الإحصاء ، وأما الحمامات سبعة عشر ألفا .

وقال ابن هلال: كنت أركب من داري في باب المراتب إلى دار معز الدولة بالشماسية في الأسواق وتحت الظلال والمحال والدروب . وكذلك الجانب الغربي والدور على دجلة وبساتينها متناهية وأقطارها متباعدة وما فيها دار يخلو من الأغاني والدعوات ، وجميع ما بقي من الحمامات في بغداد نيف وتسعون حماما .

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا محمد بن العباس الخراز قال: حدثنا أبو بكر الصولي قال: حدثنا أبو خليفة قال: حدثنا محمد بن سلام قال: سمعت أبا الوليد يقول: قال لي شعبة: أدخلت بغداد؟ قلت: لا . قال: فكأنك لم تر الدنيا .

أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: حدثنا عبد العزيز بن علي [ ص: 84 ] الوراق قال: سمعت محمد بن أحمد بن يعقوب الجرجاني يقول: سمعت أحمد بن يوسف بن موسى يقول: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: قال لي محمد بن إدريس: دخلت بغداد؟ قلت: لا . قال: يا يونس ما رأيت الدنيا ، ولا رأيت الناس .

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: حدثنا أحمد قال: حدثنا الجوهري قال: حدثنا محمد بن العباس قال: حدثنا الصولي قال: حدثنا القاسم بن إسماعيل قال: حدثنا أبو محلم قال: سمعت أبا بكر بن عياش يقول: الإسلام ببغداد وإنها لصيادة تصيد الرجال ، ومن لم يرها فلم ير الدنيا .

أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد قال: حدثني عبد العزيز بن علي قال: سمعت علي بن عبد الله الهمداني يقول: حدثنا علي بن محمد القاضي قال: حدثني أبو الحسين المالكي قال: حدثني عبد الله بن محمد التميمي قال: سمعت ذا النون يقول: من أراد أن يتعلم المروءة والظرف فعليه بسقاة الماء ببغداد . قيل: وكيف؟

قال: لما حملت إلى بغداد رمي بي على باب السلطان مقيدا ، فمر بي رجل مؤتزر بمنديل مصري ، معتم بمنديل ديبقي ، بيده كيزان وخزف رقاق ، وزجاج مخروط ، فسألت: هذا ساقي السلطان؟ فقيل لي: هذا ساقي العامة . فأومأت إليه: اسقني .

فسقاني ، فشممت من الكوز رائحة مسك ، فقلت لمن معي: ادفع إليه دينارا . فأعطاه الدينار . فأبى . وقال: ليس آخذ شيئا . فقلت له: ولم؟ فقال: أنت أسير ، وليس من المروءة أن آخذ منك شيئا . فقلت: كمل الظرف في هذا .

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي الحافظ قال:

أخبرني أبو القاسم القاضي قال: حدثني علي بن المحسن التنوخي قال: قال لي أبو القاسم بزياش بن الحسن الديلمي - وهو شيخ يتعلق بعلوم فصيح العربية - قال: سافرت الآفاق ، ودخلت البلدان من حد سمرقند إلى القيروان ، ومن سرنديب إلى بلد الروم ، فما وجدت بلدا أفضل ولا أطيب من بغداد . قال: وكان سبكتكين حاجب معز [ ص: 85 ] الدولة من جملة أنسائي . فقال لي يوما: قد سافرت الأسفار الطويلة ، فأي بلد وجدت أفضل وأطيب؟ فقلت له: أيها الحاجب ، إذا خرجت من العراق فالدنيا كلها رستاق .

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: حدثني أبو القاسم عبد الله بن علي الرقي قال: أخذ أبو العلاء المعري يوما يدي فغمزها - وهو ببغداد - ثم قال لي: يا أبا القاسم ، هذا بلد عظيم لا يأتي زمان عليك وأنت به إلا رأيت فيه من أهل الفضل من لم تره فيمن تقدم .

أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أنشدني التنوخي قال: أنشدنا أبو سعيد محمد بن علي بن محمد بن خلف الهمذاني لنفسه يقول:


فدى لك يا بغداد كل قبيلة من الأرض حتى خطتي وبلاديا     فقد طفت في شرق البلاد وغربها
وسيرت رحلي بينها وركابيا     فلم أر فيها مثل بغداد منزلا
ولم أر فيها مثل دجلة واديا     ولا مثل أهليها أرق شمائلا
وأعذب ألفاظا وأحلى معانيا     وكم قائل لو كان ودك صادقا
ل بغداد لم ترحل فكان جوابيا     يقيم الرجال الأغنياء بأرضهم
وترمي النوى بالمقترين المراميا

أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: حدثنا علي بن محمد بن عبيد قال: كتب إلي أخي من البصرة وأنا ببغداد يقول:


طيب الهواء ببغداد يصرفني     قدما إليها وإن عاقت معاذير
فكيف صبري عنها الآن إذ جمعت     طيب الهواءين ممدود ومقصور

[قال المصنف]: وقد كان أبو الوفاء بن عقيل يصف ما شاهد من بغداد ، وهذا عند خرابها وذهاب أهلها ، فيذكر العجائب ، وقد ذكرت ذلك في "مناقب بغداد" . [ ص: 86 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية