صفحة جزء
ومن كلام المأمون :

أخبرنا محمد بن ناصر قال : أخبرنا أبو المعالي أحمد بن محمد البخاري قال :

أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال : أخبرنا أبو الحسن بن رزقويه قال : أخبرنا أبو جعفر عبد الله بن إسماعيل بن توتة قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن خلف قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا علي بن محمد القرشي قال : حدثني ابن هشام قال : قال لي المأمون : يا علي ، الملوك تحتمل لأصحابها كل شيء خلا ثلاث خصال . قلت : وما هن يا أمير المؤمنين ؟ قال : القدح في الملك ، وإفشاء السر ، والتعرض للحرمة .

وبلغنا أن المأمون جمع ولده يوما فقال : يا بني ، ليعلم الكبير منكم إنما عظم قدره بصغار عظموه ، وقويت قوته بضعاف أطاعوه ، وشرفت منزلته بعوام اتضعوا له ، فلا يدعونه تفخيم المفخم منهم إياه إلى تصغيره ، وتعزيز أمره إلى تذليله ، ولا تستأثرن بعائده ورفق دونه ، ولا يولعن بتسميته عمدا كما سمت الأعاجم وليا وأخا ، فإن الشيء الذي قوامه من أجزاء خسيسة ، ومعان مذمومة ، فهو أيضا خسيس مذموم ، وكل أمر من أولئك جزء من عدده ، وعماد من عماد أمره ، فإذا انحلت أجزاؤه ، وزالت دعائمه مال العماد ، وتهدم الكل ، وقد قيل إن من ملك أحرارا كان أشرف ممن ملك عبيدا مستكرهين ، يا بني ، ارجعوا فيما اشتبه عليكم من التدبير إلى آراء الحزمة المجربين ، فإنهم مرآتكم يرونكم ما لا ترون ، قد صحبوا الدهور ، وكفوكم الأمور بالتجارب ، وقد [ ص: 60 ] قيل : إن من جرعك مر التبري أشفق عليك ممن أوجرك حلق النقم ، ومن خوفك لتأمن أبر ممن أمنك لتخاف .

وقال : الإخوان ثلاث طبقات ، فأخ كالغذاء الذي تحتاج إليه في كل يوم وفي كل وقت ، وهو الأخ العاقل الأديب ، وأخ كالدواء تحتاج إليه عند الداء ، وهو الأخ الأريب الذي يصادق المودة ، وأخ كالداء الذي لا يحتاج إليه ، وهو الأحمق .

وكان المأمون يقول : أعظم الناس سلطانا من تسلط على نفسه فوليها بمحكم التدبير وملك هواه فحمله على محاسن الأمور ، وأشرب معرفة الحق فانقاد للواجب ، فوقف عند الشبهة حتى استوضح مقر الصواب فتوخاه ورزق عظيم الصبر فهان عليه هجوم النوائب تأميلا لما بعدها من عواقب الرغائب ، وأعطي فضيلة التثبت ، فحبس عزب لسانه ، ومما ينبغي الاحتياط فيه اختيار الكفاة من الأعوان ، وإنزالهم منازلهم ، والانتصار بهم على ما يطيقونه . وأنشد :


من كان راعيه دينا في حلوبته فهو الذي نفسه في أمره ظلما     ترجو كفايته والغدر عادته
ومن ولايته يستجني الندما

وقيل للمأمون : أي المجالس أحسن ؟ قال : ما نظر فيه إلى الناس .

وبعث المأمون رجلا ليسبق الحاج ، فجاء بعد جماعة وكتب إلى المأمون رقعة ليسأله فيها شيئا ، وكتب عليها : سابق الحاج . فنقط المأمون تحت الباء نقطة أخرى وردها إليه .

ورفع [رجل ] صوته في مجلسه اسمه عبد الصمد ، فقال :


لا ترفعن الصوت يا عبد الصمد     إن الصواب في الأسد الأشد

أخبرنا زاهر بن طاهر قال : أنبأنا أبو عثمان الصابوني وأبو بكر البيهقي قالا :

أنبأنا أبو عبد الله الحاكم قال : حدثني عبيد الله بن محمد بن عبد الرحمن الضبي قال : [ ص: 61 ]

حدثنا الحسن بن محمد الكاتب قال : ذكر بشر بن الوليد القاضي المأمون فقال : كان والله الملك حقا ، ما رأيت خليفة كان الكذب عليه أشد منه على المأمون ، وكان يحتمل كل آفة تكون في الإنسان ولا يحتمل الكذب . قال لي يوما : صف لي أبا يوسف القاضي ، فإني لم أره ولم أستكثر منه . فوصفته له ، فاستحسن صفته وقال : وددت أن مثل هذا يحضرنا فنتجمل به . ثم قال : ما شيء من الخلافة إلا وأنا أحسن [أن ] أدبره ، وأبلغ منه حيث أريد ، وأقوى عليه ، إلا أمر أصحابك - يعني القضاة - فو الله لقد اجتهدت وما ظنك بشيء يتحرج منه علي بن هشام ، ويتوقى سوء عاقبته ، ويتكالب عليه الفقهاء وأهل التصنع والرياء . فقلت : يا أمير المؤمنين ، والله ما أدري ما أقصد فأجيب بحبسه . فقال : لكني أدريه ، ولا والله ما تجيبني فيه بجواب مقنع أبدا . ثم ابتدأ فقال :

ولينا رجلا - أشرت به علينا - قضاء الأبلة ، وأجرينا عليه ألف درهم ، ولا له ضيعة ولا عقار ولا مال ، فرجع صاحب الخبر بالناحية أن نفقته في الشهر أربعة آلاف درهم ، فمن أين هذه الثلاثة آلاف درهم ! ؟

وولينا رجلا - أشار به محمد بن سماعة - دمشق ، وأجرينا عليه ألفي درهم في الشهر ، فأقام بها أربعة عشر شهرا ، ووجهنا من يتتبع أمواله ويرجع إلينا بخبره ، فصح عنه أنه يملك قيمة ثلاثة عشر ألف دينار من دابة وبغل وخادم وجارية وغير ذلك .

وولينا رجلا - أشار به غيركما - نهاوند ، فأقام بعد عشرين شهرا من دخول يده في العمل سبعين بحينا وعشرين بحينا ، وفي منزله أربعة خدم خصيان قيمتهم ألف وخمسمائة دينار ، وذلك سوى نتاج فكر اتخذه . هات ما عندك من الجواب .

قلت : والله يا أمير المؤمنين ما عندي جواب . فقال : ألم أعلمك أنه لا جواب عندك ! ؟ وأكثر من هذا أنه ترغب لي علي بن هشام في رجل أوليته القضاء ، فأعلمني [ ص: 62 ] أنه وجده ، فسرني والله ، وسري عني ، ورجوت أن يكون بحيث أحب ، فأمرته بإحضاره ، فغدا علي فسألته عن الرجل ، فذكر أنه لم يجده على الصفة التي يحب ، فسألته عن السبب في ذلك بعد وصفه الأول ، فوصف أن الذي وصفه لي علي بن مقاتل ، وأنه كان عنده من أهل العفاف والستر ، فانصرف علي ، ولم يحضره ، ووجه إليه وهو لا يشك أنه يظهر كراهة لما أردناه عليه ، ويستعفي تصنعا ، فخبره بما أردناه له ، فوثب إلى رأسه فقبله ، فقضى أنه لا خير عنده ، لأنه لو كان من أهل الخير لعد الذي دعا إليه إحدى المصائب والرزايا ، فقلت له : جزاك الله عن إمامك ونفسك خير ما جزى امرأ عن إمامه ونفسه ودينه .

قال بشر : فبهت ولم أجر بكلمة ، فقال لي : ولكن إذا أردت العفيف النظيف التقي النقي الطاهر الزكي - يعني الحسين - وهو بحالته التي فارقنا عليها ، والله ما غير ولا بدل .

أما يحيى بن أكثم فما ندري ما عيبه ! ؟ أما ظاهره فأعف خلق الله . فقلت : والله يا أمير المؤمنين ما لك في الخلفاء شبيه إلا عمر بن الخطاب ، فإنه كان يفحص عن عماله وعن دقيق أسرار حكامه فحصا شافيا ، وكان لا يخفى عليه ما يفيده كل امرئ منهم وما ينفق ، وكل من نأى عنه كمن دنا منه في بحثه وتنقيره . فقال : يا بشر ، إن أهم الأمور كلها إلي أمور الحكام ، إذ كنا قد ألزمناهم النظر في الدماء والأموال والفروج والأحكام ، ووددت أن يتأتى مائة قاض مرضيين ، وأني أجوع يوما وأشبع يوما .

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال : أخبرنا أحمد بن علي قال : أخبرنا أبو عمر الحسن بن عثمان الواعظ قال : حدثنا جعفر بن محمد بن الحكم قال : حدثني أحمد بن الحسن الكسائي قال : حدثنا سليمان بن الفضل النهرواني قال : حدثني يحيى بن أكثم قال : بت ليلة عند المأمون فعطشت في جوف الليل ، فقمت لأشرب ماء ، فرآني المأمون فقال : ما لك ليس تنام يا يحيى ؟ قلت : يا أمير المؤمنين ، أنا والله عطشان . فقال : ارجع إلى موضعك . فقام والله إلى البرادة فجاءني بكوز ، فقام على رأسي فقال : اشرب يا يحيى . فقلت : يا أمير المؤمنين ، فهلا وصيف أو وصيفة ! فقال :

إنهم نيام . قلت : فأنا كنت أقوم أشرب ! فقال لي : لؤم بالرجل أن يستخدم ضيفه . ثم [ ص: 63 ] قال : يا يحيى قلت : لبيك يا أمير المؤمنين . قال : ألا أحدثك . قلت : بلى يا أمير المؤمنين . فقال : حدثني الرشيد قال : حدثني المهدي قال : حدثني المنصور ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : حدثني جرير بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "سيد القوم خادمهم" .

حدثنا عبد الرحمن بن محمد قال : أخبرنا أحمد بن علي قال : أخبرنا الجوهري قال :

أخبرنا محمد بن عمران المرزباني قال : حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى المكي قال : حدثنا محمد بن القاسم بن خلاد ، عن يحيى بن أكثم قال : ما رأيت أكرم من المأمون ، بت عنده ليلة فعطش ، فكره أن يصيح بالغلمان ، فرأيته قد [قام ] قليلا قليلا إلى البرادة وبينه وبينها بعد ، فشرب ورجع .

قال يحيى بن أكثم : ثم بت عنده ونحن بالشام ، فأخذ المأمون سعال ، فرأيته يسد فاه بكم قميصه حتى لا أنتبه . ثم حملني آخر الليل النوم ، فكان له وقت يستاك فيه ، فكره أن ينبهني ، فلما ضاق الوقت عليه تحركت . فقال : الله أكبر يا غلمان ، نعل أبي محمد .

قال يحيى : وكنت أمشي معه يوما في ميدان البستان والشمس علي وهو في الظل ، فلما رجعنا قال لي : كن الآن في الظل . فأبيت عليه ، فقال : أول العدل أن يعدل الملك في بطانته ثم الذين يلونهم ، حتى يبلغ الطبقة السفلى .

أخبرنا أبو منصور القزاز قال : أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال : أخبرنا محمد بن علي المقرئ قال : أخبرنا محمد بن عبد الله النيسابوري قال : سمعت أبا بكر بن داود بن سليمان الزاهد يقول : سمعت محمد بن عبد الرحمن الشامي يقول : سمعت أبا الصلت عبد السلام يقول : حبسني المأمون ليلة ، فكنا نتحدث حتى ذهب من الليل ما ذهب ، وطفئ السراج ونام القيم الذي كان يصلح السراج ، فدعاه فلم يجبه - وكان نائما - فقلت : يا أمير المؤمنين أصلحه . فقال : لا ، فأصلحه هو . ثم انتبه الغلام ، فظننت أنه [ ص: 64 ] يعاقبه ، فسمعته يقول : ربما أكون في المتوضأ فيشتموني ولا يدرون أني أسمع فاعف عنهم .

أخبرنا أبو منصور القزاز قال : أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال : أخبرنا الجوهري قال :

أخبرنا محمد بن العباس قال : حدثنا الصولي قال : حدثنا عون بن محمد قال : حدثنا عبد الله بن البواب قال : كان المأمون يحلم حتى يغيظنا ، وأنه في بعض الأوقات جلس يستاك على دجلة من وراء ستر ونحن قيام بين يديه ، فمر ملاح وهو يقول بأعلى صوته :

أتظنون أن هذا المأمون ينبل في عيني وقد قتل أخاه ! ؟ قال : فو الله ما زاد على أن تبسم وقال : ما الحيلة عندكم حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل ! ؟ .

[أخبرنا ] أبو منصور عبد الرحمن بن محمد قال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن ثابت قال : أخبرنا علي بن أبي علي المعدل قال : حدثنا أبو بكر بن عبد الرحيم المازني قال :

حدثنا الحسين بن القيم الكوكبي قال : حدثنا أبو الفضل الربعي قال : لما ولد أبو جعفر بن المأمون دخل المهنئون على المأمون فهنأوه بصنوف التهاني ، وكان فيمن دخل عليه العباس بن الأحنف ، فمثل قائما بين يديه ، ثم أنشأ يقول :


مد لك الله الحياة مدا     حتى يريك ابنك هذا جدا
ثم يفدى مثل ما تفدى     كأنه أنت إذا تبدا
أشبه منك قامة وقدا     مؤزرا بمجده مردى

فأمر له بعشرة آلاف درهم .

أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك قال : أخبرنا جعفر بن أحمد قال : أخبرنا عبد العزيز بن الحسن الضراب قال : حدثنا أبي قال : حدثنا أحمد بن مروان قال : حدثنا الحسن بن علي الربعي قال : حدثني قحطبة بن حميد بن الحسن بن قحطبة قال : كنت [ ص: 65 ] واقفا على رأس المأمون يوما وقد قعد للمظالم ، فأطال الجلوس حتى زالت الشمس ، وإذا امرأة قد أقبلت تعثر في ذيلها حتى وقفت على طرف البساط ، فقالت : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته . فنظر المأمون إلى يحيى بن أكثم ، فأقبل يحيى عليها فقال : تكلمي . فقالت : يا أمير المؤمنين ، قد حيل بيني وبين ضيعتي ، وليس لي ناصر إلا الله . فقال لها يحيى بن أكثم : إن الوقت قد فات ، ولكن عودي يوم الخميس . قال : فرجعت ، فلما كان يوم الخميس قال المأمون : أول من يدعى المرأة المظلومة . فدعا بها . فقال : أين خصمك ؟ قالت : واقف على رأسك يا أمير المؤمنين ، قد حيل بيني وبينه . وأومأت إلى العباس ابنه . فقال لأحمد بن أبي خالد : خذ بيده وأقعده معها . ففعل ، فتناظرا ساعة حتى علا صوتهما عليه فقال لها أحمد بن أبي خالد : إنك تناظرين الأمير أعزه الله بحضرة أمير المؤمنين أطال الله بقاءه ، فأخفضي عليك . فقال له المأمون : دعها يا أحمد ، فإن الحق أنطقها ، والباطل أخرسه . فلم تزل تناظره حتى حكم لها المأمون عليه ، وأمر برد ضيعتها ، وأمر ابن أبي خالد أن يدفع لها عشرة آلاف درهم .

وروى الصولي : أنه رفع إلى المأمون أن خادمه رشد الأسود يسرق طساسه وأباريقه ، وكان على وضوئه ، فعاتبه في ذلك فقال : رزقي يقصر عني ، فأضعفه له . ثم فقد بعد ذلك طستا وإبريقا ، فقال : بعني ويحك الشيء إذا أخذته . قال : فاشتر مني هذا الطست وهذا الإبريق . قال : بكم ؟ قال : بخمسة دنانير . فقال : ادفعوا له خمسة دنانير .

فقال له رشد : بقي والله هذان ما بقي الزمان ، فقال له المأمون : قد رأيت المعاملة ، فكل من تعلم أنه يسرق مني شيئا فقل له يبيعنيه .

وقال المأمون : أنا والله أستلذ العفو حتى أخاف أن لا أؤجر عليه ، ولو علم الناس مقدار محبتي للعفو لتقربوا إلي بالذنوب .

وقال المأمون : أنا والله أستلذ العفو حتى أخاف أن لا أؤجر عليه ، ولو علم الناس مقدار محبتي للعفو لتقربوا إلي بالذنوب .

وفي هذه السنة : كتب المأمون إلى هرثمة يأمره بالشخوص إلى خراسان . [ ص: 66 ]

وفيها : خرج خارجي يقال له الهرش في ذي الحجة يدعو بزعمه إلى الرضا من آل محمد ، ومعه جماعة من سفلة الناس ، وجمع كثيرا من الأعراب فأتى النيل ، فجبى الأموال ، وأغار على التجار ، وانتهب القرى ، وساق المواشي .

وحج بالناس في هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى بن محمد بن علي .

التالي السابق


الخدمات العلمية