صفحة جزء
[إيقاع توفيل بن ميخائيل صاحب الروم بأهل زبطرة]

وفي هذه السنة: أوقع توفيل بن ميخائيل صاحب الروم بأهل زبطرة ، فأسرهم وخرب بلدهم ، ومضى من فوره إلى ملطية ، فأغار على أهلها وعلى حصون من حصون المسلمين ، وسبى من المسلمات أكثر من ألف امرأة ومثل بمن صار في يده من المسلمين ، وسمل أعينهم ، وقطع آذانهم وآنافهم .

وكان السبب في ذلك تضييق الأفشين على بابك ، فلما أشرف على الهلاك ، وأيقن بالعجز عن الحرب ، كتب إلى توفيل ملك الروم يعلمه أن ملك العرب قد وجه عساكره إليه حتى وجه خياطه - يعني جعفر بن دينار - وطباخه - يعني إيتاخ - ولم يبق على بابه أحد ، فإن أردت الخروج إليه فاعلم أنه ليس في وجهك أحد يمنعك ، وإنما كتب هذا ليتجرد ملك الروم لذلك فينكشف عنه بعض ما هو فيه برجوع العسكر أو بعضهم ، فخرج توفيل في مائة ألف ، ومعه من المحمرة الذين كانوا بالجبال ، فلحقوا بالروم ، ففرض لهم ملك الروم وزودهم وصيرهم مقاتلة يستعين بهم ، فدخل ملك الروم زبطرة وقتل الرجال وسبى الذراري والنساء ، فبلغ النفير إلى سامراء ، وخرج أهل ثغور الشام والجزيرة واستعظم المعتصم ذلك ، فصاح في قصره: النفير ، ثم ركب دابته وعسكر بغربي دجلة يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادى الأولى ، ووجه عجيف بن عنبسة في جماعة من القواد إلى زبطرة ، إعانة لأهلها ، فوجدوا ملك الروم قد انصرف إلى بلاده بعد ما فعل ما فعل ، فوقفوا قليلا ، حتى تراجع الناس إلى قراهم ، واطمأنوا .

وقال المعتصم:


شفيت ببابك غل النفوس وأثلجت بالزط حر الصدور

[ ص: 79 ] وأحضر القضاة والشهود ، وأشهدهم على نفسه أنه [قد] وقف جميع أمواله فجعل ثلثها لمواليه وثلثها لولده ، وثلثها للمساكين ، ثم قال: أي بلاد الروم أمنع وأحصن؟ فقيل: عمورية ، لم يعرض لها أحد من المسلمين منذ كان الإسلام ، وهي عين النصرانية ، وهي أشرف عندهم من القسطنطينية .

فخرج إلى بلاد الروم ، وقيل: كان ذلك في سنة اثنتين وعشرين . وقيل: سنة أربع وعشرين ، وتجهز جهازا لم يتجهز مثله خليفة قبله من السلاح والعدد والآلة وحياض الأدم [والحمير] والبغال والروايا والقرب وآلة الحديد والنفط ، وجعل على مقدمته أشناس ، ويتلوه محمد بن إبراهيم ، وعلى ميمنته إيتاخ ، وعلى ميسرته جعفر بن دينار ، وعلى القلب عجيف ، فدخل بلاد الروم ، فأقام على سلوقية قريبا من البحر ، وبعث الأفشين إلى سروج ، فأمره بالدخول من درب الحدث ، سمى له يوما [أمره أن] يكون دخوله فيه ، وقدر لعسكره وعسكر أشناس اليوم الذي يدخل فيه الأفشين ، ودبر النزول على أنقرة ، فإذا فتحها الله تعالى صار إلى عمورية إذ لم يكن شيء مما يقصد له من بلاد الروم أعظم من هاتين [المدينتين] ولا أحرى أن تجعل غايته التي يؤمها .

وأمر المعتصم أشناس أن يدخل من درب طرسوس ، وأمره بانتظاره بالصفصاف ، فكان شخوص أشناس يوم الأربعاء لثمان بقيت من رجب ، وقدم المعتصم وصيفا في أثر [ ص: 80 ] أشناس على مقدمات [المعتصم] ورحل المعتصم يوم الجمعة لست بقين من رجب .

فتقدم أشناس والمعتصم من ورائه ، بينهم مرحلة ، ينزل هذا ويرحل هذا ، ولم يرد عليهم من الأفشين خبر ، حتى صاروا من أنقرة على مسيرة ثلاث مراحل ، وضاق عسكر المعتصم ضيقا شديدا من الماء والعلف ، وكان أشناس قد أسر عدة أسرى في طريقه ، فأمر بهم ، فضربت أعناقهم ، وهرب أهل أنقرة وعظماؤها ، ونزل بها المعتصم وأشناس والأفشين ، فأقاموا بها أياما .

ثم صير العسكر ثلاثة عساكر: عسكر فيه أشناس في الميسرة ، والأفشين في الميمنة ، والمعتصم في القلب ، وبين كل عسكر وعسكر فرسخان ، وأمر كل عسكر منهم أن يكون له ميمنة وميسرة ، وأن يحرقوا القرى ويخربوها ، ويأخذوا من لحقوا فيها من السبي ، وإذا كان وقت النزول توافى [كل] أهل عسكر إلى صاحبهم ورئيسهم ، يفعلون ذلك فيما بين أنقرة إلى عمورية ، وبينهم سبع مراحل ، حتى توافت العساكر بعمورية .

وكان أول من وردها أشناس ، وردها يوم الخميس ضحوة ، فدار حولها دورة ، ثم نزل بموضع فيه ماء وحشيش ، فلما طلعت الشمس ركب المعتصم فدار حولها دورة ، ثم جاء الأفشين في اليوم الثالث ، فقسمها أمير المؤمنين بين القواد ، فصير لكل واحد منهم أبراجا منها على قدر كثرة أصحابه وقلتهم ، فصار لكل قائد ما بين البرجين إلى عشرين برجا ، وتحصن أهل عمورية ، وكان أهل عمورية قد أسروا رجلا فتنصر وتزوج فيهم ، وحبس نفسه ، فلما رأى أمير المؤمنين ظهر ، وجاء إلى المعتصم وأعلمه أن موضعا من المدينة حمل الوادي عليه من مطر شديد جاءهم ، فوقع السور من ذلك [ ص: 81 ] الموضع ، وكتب ملك الروم إلى [عامل] عمورية أن يبني ذلك الموضع ، فوقع التواني حتى خرج الملك من القسطنطينية إلى بعض المواضع ، فتخوف الوالي أن يمر الملك على تلك الناحية فلا يراها بنيت ، فبنى وجه السور بالحجارة حجرا حجرا ، وصيروا له من جانب المدينة حشوا ، ثم عقد فوقه الشرف كما كان ، فوقف ذلك الرجل المعتصم على هذه الناحية التي وصف ، فأمر المعتصم فضرب مضربه في ذلك الموضع ، ونصب المجانيق على ذلك البناء ، فانفرج السور من ذلك الموضع وسقط .

وكان المعتصم قد ساق غنما كثيرة ، فدبر أن يدفع إلى كل رجل من العسكر شاة ، فإذا أكلها حشى جلدها ترابا ، ثم جاء به فطرحه في الخندق ، وعمل دبابات تسع كل واحدة عشرة من الرجال ، فطرحت الجلود وطرح فوقها التراب ، وكان أول من بدأ بالحرب أشناس ، وكانت الحرب في اليوم الثاني على الأفشين وأصحابه ، فأجادوا الحرب ، وكان المعتصم واقفا على دابته بإزاء الثلمة ، وأشناس وأفشين وخواص القواد معه ، وكان باقي القواد الذين دون الخاصة وقوفا رجالة ، فلما انتصف النهار انصرف المعتصم إلى مضربه فتغدى ، وانصرف القواد إلى مضاربهم يتغدون ، فلما كان في اليوم الثالث كانت الحرب على أصحاب أمير المؤمنين خاصة ، والقيم بذلك إيتاخ ، فقاتلوا فأحسنوا ، وكثرت في الروم الجراحات ، فلما كان الليل مشى القائد الموكل بالثلمة إلى الروم ، فقال لهم: إن الحرب علي وعلى أصحابي ، ولم يبق معي [ ص: 82 ] أحد إلا قد خرج ، فصيروا أصحابكم على الثلمة يرمون قليلا ، وإلا افتضحتم وذهبت المدينة؛ فأبوا أن يمدوه بأحد ، فقالوا: سلم السور من ناحيتنا ، ونحن ما نسألك أن تمدنا ، فشأنك بناحيتك . فعزم هو وأصحابه أن يخرجوا إلى أمير المؤمنين ، فيسألونه الأمان ، ويسلموا إليه الحصن .

فلما أصبح وكل أصحابه بجنبي الثلمة ، وخرج فقال: [إني] أريد أمير المؤمنين ، وأمر أصحابه أن لا يحاربوا حتى يعود إليهم ، فخرج حتى وقف بين يدي المعتصم ، والناس يتقدمون إلى الثلمة ، وقد أمسك الروم عن الحرب حتى وصلوا إلى السور ، والروم يقولون بأيديهم: لا تحيوا وهم يتقدمون ، فدخل الناس المدينة ، وأخذت الروم السيوف ، وأقبل الناس بالأسرى والسبي من كل وجه حتى امتلأ العسكر ، فقتل ثلاثين ألفا وسبى مثلهم ، وكان في سبيه ستون بطريقا ، وطرح النار في عمورية من جميع نواحيها فأحرقها ، وجاء ببابها إلى العراق ، وهو الباب المنصوب اليوم على دار الخليفة المجاور لباب الجامع ، ويسمى "باب العامة" .

وروى أبو بكر الصولي قال: حدثنا الغلابي قال: حدثني يعقوب بن جعفر بن سليمان قال: غزوت مع المعتصم عمورية فاحتاج الناس إلى ماء ، فمد لهم المعتصم حياضا من أدم عشرة أميال ، وساق الماء فيها إلى سور عمورية ، فقام يوما على السور رجل منهم فصيح بالعربية ، فشتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم باسمه ونسبه ، فاشتد ذلك على المسلمين ، ولم تبلغه النشابة ، قال يعقوب: وكنت أرمي ، فاعتمدته فأصبت نحره فهوى وكبر المسلمون ، وسر المعتصم ، وقال: جيئوني بمن رمى هذا العلج . فأدخلوني عليه ، فقال: من أنت؟ فانتسبت له ، فقال: الحمد لله الذي جعل ثواب هذا السهم لرجل من أهل بيتي ، ثم قال: بعني هذا الثواب ، فقلت: يا أمير المؤمنين ليس الثواب مما يباع ، فقال: إني أرغبك ، فأعطاني مائة ألف درهم إلى أن بلغ خمسمائة [ ص: 83 ] ألف درهم ، قلت: ما أبيعه بالدينار ، لكن أشهد الله أني [قد] جعلت نصف ثوابه لك ، فقال: قد رضيت بهذا ، أحسن الله جزاك ، في أي موضع تعلمت الرمي؟ فقلت: [بالبصرة] في دار لي ، فقال: بعنيها ، فقلت: هي وقف على من يتعلم الرمي ، وإن أحب أمير المؤمنين فهي له وكل ما أملك . فجزاني خيرا ووصلني بمائة ألف درهم ، وارتحل المعتصم [منصرفا] إلى [أرض] طرسوس ، وكانت إناخة المعتصم على عمورية لست خلون من رمضان ، وقيل : بعد خمسة وخمسين يوما .

التالي السابق


الخدمات العلمية