صفحة جزء
ذكر طرف من سيرته وأخباره [ المعتضد ]

أنبأنا محمد بن أبي طاهر البزاز قال : أنبأنا علي بن المحسن التنوخي ، عن أبيه قال : حدثني عبد الله بن عمر الحارثي قال : حدثني أبي قال : حدثني أبو محمد عبد الله بن حمدون قال : كان المعتضد في بعض متصيداته فجاز بعسكره ، وأنا معه ، فصاح ناطور في قراح قثاء ، فاستدعاه وسأله عن سبب صياحه ، فقال : أخذ بعض الجيش من القثاء شيئا . فقال : اطلبوهم فجاءوا بثلاثة أنفس ، فقال : هؤلاء الذين أخذوا القثاء؟ فقال الناطور : نعم ، فقيدهم في الحال ، وأمر بحبسهم ، فلما كان من الغد أنفذهم إلى القراح ، فضرب أعناقهم فيه ، وسار ، فأنكر الناس ذلك وتحدثوا به ، ومضت على ذلك مدة طويلة .

فجلست أحادثه ليلة فقال لي : يا أبا عبد الله ، هل يعيب الناس شيئا عرفني حتى أزيله؟ قلت : كلا يا أمير المؤمنين ! فقال : أقسمت عليك بحياتي إلا [ ما ] صدقتني . قلت : يا أمير المؤمنين ، وأنا آمن؟ قال : نعم . قلت : إسراعك إلى سفك الدماء قال : والله ما هرقت دما منذ وليت [ الخلافة ] إلا بحقه قال : فأمسكت إمساك من ينكر عليه . فقال : بحياتي ما يقولون؟ قلت : يقولون إنك قتلت أحمد بن الطيب ، وكان خادمك ، ولم يكن له جناية ظاهرة . قال : دعاني إلى الإلحاد فقلت [ له ] يا هذا ، أنا ابن عم صاحب الشريعة صلوات الله عليه وسلامه ، وأنا [ ص: 308 ] [ الآن ] منتصب منصبه ، فألحد حتى أكون من؟ .

فسكت سكوت من يريد الكلام فقال [ لي ] في وجهك كلام ! فقلت : الناس ينقمون عليك أمر الثلاثة [ الأنفس ] الذين قتلتهم في القراح . [ فقال : والله ما كان أولئك الذين أخذوا القثاء ] وإنما كانوا لصوصا حملوا من موضع كذا وكذا ، ووافق ذلك أمر القثاء فأردت أن أصول على الجيش بأن من عاث من عسكري وأفسد في هذا القدر كانت هذه عقوبتي له ، ليكفوا عما فوقه ، ولو أردت قتلهم لقتلتهم في الحال ، وإنما حبستهم وأمرت بإخراج اللصوص من غد مغطين الوجوه ليقال إنهم أصحاب القثاء فقلت : كيف تعلم العامة هذا؟ قال : بإخراج القوم الذين أخذوا القثاء وإطلاقي لهم في هذه الساعة ، ثم قال : هاتوا القوم ! فجاءوا بهم وقد تغيرت حالهم من الحبس والضرب ، فقال : ما قصتكم؟ فقصوا عليه قصتهم ، فقال : أتتوبون من مثل هذا الفعل حتى أطلقكم؟ قالوا : نعم ! فأخذ عليهم التوبة ، وخلع عليهم ، وأمر بإطلاقهم ، ورد أرزاقهم [ عليهم ] فانتشرت الحكاية وزالت عنه التهمة .

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد ، أخبرنا أحمد [بن علي] بن ثابت ، أخبرنا محمد بن أحمد بن يعقوب ، حدثنا محمد بن نعيم الضبي قال : سمعت أبا الوليد حسان بن محمد الفقيه يقول : سمعت أبا العباس بن سريج يقول : سمعت إسماعيل بن إسحاق القاضي يقول : دخلت على المعتضد وعلى رأسه أحداث روم صباح الوجوه ، فنظرت إليهم ، فرآني المعتضد وأنا أتأملهم ، فلما أردت القيام أشار إلي فمكثت ساعة [ ص: 309 ] فلما خلا قال لي : أيها القاضي ، والله ما حللت سراويلي على حرام قط .

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد ، أخبرنا أحمد بن علي ، [عن] علي بن المحسن قال : حدثني أبي ، عن أبي محمد عبد الله بن حمدون قال : قال لي المعتضد ليلة وقد قدم إليه العشاء : لقمني ، وكان الذي قدم دراريج وفراريج ، فلقمته من صدر فروج ، فقال : لا لقمني من فخذه ، فلقمته لقما ، ثم قال : هات من الدراريج فلقمته من أفخاذها . فقال : ويلك ، هو ذا تتنادر علي هات من صدورهن ! فقلت : يا مولاي ركبت القياس ، فضحك . فقلت : [ أنا ] إلى كم أضحكك ولا تضحكني؟ قال : شل المطرح وخذ ما تحته ، فأشلته فإذا دينار واحد ! فقلت : آخذ هذا؟ قال : نعم ، فقلت : بالله هو ذا تتنادر علي أنت الساعة علي ! خليفة يجيز نديمه بدينار . قال : ويلك لا أجد لك في بيت المال حقا أكثر من هذا ، ولا تسمح نفسي أن أعطيك شيئا من مالي ، ولكن هو ذا أحتال لك بحيلة تأخذ فيها خمسة آلاف دينار ! فقبلت يده ، فقال : إذا [ كان ] غدا وجاء القاسم [ يعني ] ابن عبيد الله ، فهو ذا أسارك حين تقع عيني عليه سرارا طويلا ألتفت فيه [ إليه كالمغضب ، وانظر أنت ] إليه في خلال ذلك كالمخالس لي نظر الترثي له ، فإذا انقطع السرار ، فاخرج ولا تبرح من الدهليز أو [ ص: 310 ] يخرج ، فإذا خرج خاطبك بجميل ، وأخذك إلى دعوته ، وسألك عن حالك فاشك الفقر والخلة ، وقلة حظك مني ، وثقل ظهرك بالدين والعيال ، وخذ ما يعطيك ، واطلب كل ما تقع عليه عينك ، فإنه لا يمنعك حتى تستوفي الخمسة آلاف دينار ، فإذا أخذتها فسيسألك عما جرى لنا فأصدقه ، وإياك أن تكذبه ، وعرفه أن ذلك حيلة مني عليه حتى وصل إليك هذا ، وحدثه بالحديث [ كله ] على شرحه ، وليكن إخبارك إياه [ بذلك ] بعد امتناع شديد وإحلاف منه لك بالطلاق والعتاق أن تصدقه ، وبعد أن تخرج من داره [ تأخذ ] كل ما يعطيك إياه ، وتجعله في بيتك ، فلما كان من غد حضر القاسم فحين رآه بدأ يسارني وجرت القصة على ما وضعني عليه .

فخرجت ، فإذا القاسم في الدهليز ينتظرني فقال [ لي ] : يا أبا محمد ، ما هذا الجفاء ما تجيئني ولا تزورني ولا تسألني حاجة؟ فاعتذرت إليه باتصال الخدمة [ علي ] فقال : ما تقنعني هذا إلا أن تزورني اليوم وتتفرج ، فقلت : أنا خادم الوزير ، فأخذني إلى طياره ، وجعل يسألني عن حالي وأخباري ، وأشكو إليه الخلة ، والإضافة ، والدين ، [ والبنات ] وجفاء الخليفة ، وإمساك يده ، فيتوجع ويقول : يا هذا ، ما لي لك ولن يضيق عليك ما يتوسع علي أو تتجاوزك نعمة تحصلت لي أو يتخطاك حظ نازل في [ ص: 311 ] فنائي ، ولو عرفتني لعاونتك على إزالة هذا كله عنك ، فشكرته وبلغنا داره ، فصعد ولم ينظر في شيء ، وقال : هذا يوم أحتاج أن أختص فيه بالسرور بأبي محمد فلا يقطعني أحد عنه .

فأمر كتابه بالتشاغل بالأعمال ، وخلا بي في داره الخلوة ، وجعل يحادثني ويبسطني ، وقدمت الفاكهة ، فجعل يلقمني بيده ، وجاء الطعام ، وكانت هذه سبيله [ وهو يستزيدني فلما جلس للشرب ] وقع لي بثلاثة آلاف دينار ، فأخذتها في الوقت ، وأحضرني ثيابا وطيبا ومركبا ، فأخذت ذلك ، وكانت بين يدي صينية فضة فيها مغسل فضة ، وخردا ذي بلور وكوز وقدح بلور ، فأمر بحمله إلى الطيارة ، وأقبلت كل ما رأيت شيئا حسنا له قيمة وافرة طلبته ، وحمل إلي فرشا نفيسا أو قال : هذا للبنات ! فلما تقوض أهل المجلس خلا بي ، وقال : يا أبا محمد ! أنت عالم بحقوق أبي عليك ، ومودتي لك ! فقلت : أنا خادم الوزير فقال : أريد أن أسألك عن شيء ، وتحلف أنك تصدقني عنه ! فقلت : السمع والطاعة ! فحلفني بالله وبالطلاق والعتاق على الصدق ، ثم قال لي : بأي شيء سارك الخليفة اليوم في أمري؟ فصدقته عن كل ما جرى حرفا بحرف فقال : فرجت عني ، وأن يكون هذا هكذا مع سلامة نيته لي أسهل [ عنه كل ما جرى ] علي . فشكرته وودعته ، وانصرفت إلى بيتي فلما كان بالغد باكرت المعتضد فقال : هات حديثك ! فنسقته عليه ، فقال : احفظ الدنانير ، ولا يقع لك أني أعمل مثلها معك بسرعة .

أنبأنا أبو بكر بن عبد الباقي قال : أنبأنا علي بن المحسن ، عن أبيه ، [ عن [ ص: 312 ] جده ] قال : حدثني أبو محمد الحسن بن محمد الطلحي قال : حدثني أحد خدم المعتضد المختصين بخدمته قال : كنا حول سرير المعتضد ذات يوم نصف النهار ، وقد نام بعد أن أكل ، وكان رسمنا أن نكون حول سريره إذا نام [ منامه ] من ليل أو نهار ، فانتبه منزعجا قال : يا خدم يا خدم ، فأسرعنا الجواب . فقال : ويلكم أغيثوني ، والحقوا الشط فأول ملاح ترونه منحدرا في سفينة فارغة ، فاقبضوا عليه ، وجيئوني به ، ووكلوا بسفينته .

فأسرعنا فوجدنا ملاحا في سميرية منحدرا وهي فارغة فقبضنا عليه ووكلنا بالسميرية فأصعدناه إليه فحين رآه الملاح كاد يتلف ، فصاح عليه صيحة واحدة عظيمة كادت روحه تخرج معها ، فقال : أصدقني يا ملعون عن قصتك مع المرأة التي قتلتها وسلبتها اليوم وإلا ضربت عنقك . قال : فتلعثم ، وقال : نعم كنت اليوم سحرا في مشرعتي الفلانية ، فنزلت امرأة لم أر مثلها ، وعليها ثياب فاخرة ، وحلي كثير وجوهر ، فطمعت فيها ، واحتلت عليها حتى سددت فاها وغرقتها ، وأخذت جميع ما كان عليها ، ولم أجترئ على حمل سلبها إلى بيتي لئلا يفشو الخبر علي ، فعملت على الهرب ، وانحدرت الساعة لأمضي إلى واسط ، فعوقني هؤلاء الخدم وحملوني . فقال : وأين الحلي والسلب . فقال : في صدر السفينة تحت البواري .

فقال المعتضد للخدم جيئوني به ، فمضوا وأحضروه وقال : خذوا الملاح فغرقوه ! ففعلوا ثم أمر أن ينادى ببغداد كلها على امرأة خرجت إلى المشرعة الفلانية سحرا وعليها ثياب وحلي يحضر من يعرفها ، ويعطي صفة ما كان عليها ويأخذه ، فقد تلفت المرأة ، فحضر في اليوم الثاني أو الثالث أهل المرأة فأعطوه صفة ما كان عليها ، فسلم ذلك إليهم [ ص: 313 ] قال : فقلنا : يا مولاي ، أوحي إليك؟ فقال : رأيت في منامي كأن شيخا أبيض الرأس واللحية والثياب ، وهو ينادي : يا أحمد ! خذ أول ملاح ينحدر الساعة فاقبض عليه ، وقرره خبر المرأة التي قتلها اليوم وسلبها ، وأقم عليه الحد فكان ما شهدتم .

أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزاز [قال : ] أنبأنا علي بن المحسن ، عن أبيه قال : حدثني محمد بن أحمد بن عثمان الزيات قال : حدثني أبو بكر بن حوري وكان يصحب أبا عبد الله بن أبي عوف [ قال : كنت ألزم ابن أبي عوف ] سنين لجوار بيننا ومودة ، وكان رسمي أن أجيء كل ليلة بعد العتمة ، فحين يراني يمد رجله في حجري فأغمزها وأحادثه ، ويسألني عن الحوادث ببغداد ، فكنت أستقرئها له ، فإذا أراد أن ينام قبض رجله ، فقمت إلى بيتي وقد مضى ثلث الليل أو نصفه أو أقل [ أو أكثر ] ، على هذا سنين .

فلما كان ذات يوم جاءني رجل كان يعاملني ، فقال : قد دفعت إلى أمر إن تم علي افتقرت . قلت : ما هو؟ قال رجل : كنت أعامله فاجتمع لي عليه ألف دينار ، فطالبته ، فوهبني عقد جوهر قوم بألف دينار إلى أن يفتكه بعد الشهور أو أبيعه ، فأذن لي في ذلك ، فلما كان أمس وجه مؤنس صاحب الشرطة من كبس دكاني ، وفتح صندوقي ، وأخذ العقد ، فقلت : أنا أخاطب ابن أبي عوف ، فيلزمه برده ، فقال : وأنا مدل بابن أبي عوف لمكاني منه ، ومكانه من المعتضد .

فلما كان تلك الليلة جئت وحادثته على رسمي ، وذكرت له في جملة حديثي العقد ، فلما سمع نحى رجله من حجري ، وقال : ما أنا وهذا؟ أعادي صاحب شرطة خليفة ! فورد علي أمر عظيم ، فخرجت [ من بيته ] بنية أن لا أعود ، فلما صليت العتمة من الليلة المقبلة جاءني خادم لابن أبي عوف وقال : لم تأخرت الليلة ؟ إن كنت متشكيا جئناك . فاستحييت وقلت : أمضي الليلة ، فلما رآني مد رجله ، وأقبلت أحدثه بحديث متكلف ، فصبر على ذلك ساعة ، ثم قبض [ ص: 314 ] رجله ، فقمت ، فقال : يا أبا بكر ، انظر إيش تحت المصلى فخذه ، فرفعت المصلى فإذا برقعة ، فأخذتها وتقدمت إلى الشمعة ، فإذا فيها يا مؤنس ! جسرت على قصد دكان رجل تاجر ، وفتحت صندوقه ، وأخذت منه عقد جواهر ، وأنا في الدنيا ! والله لولا أنها أول غلطة غلطتها ما جرى في ذلك مناظرة ! اركب بنفسك إلى دكان الرجل حتى ترد العقد بيدك في الصندوق ظاهرا . فقلت لأبي عبد الله : ما هذا ! فقال : هذا خط المعتضد ، مثلت بين وجدك وبين مؤنس ، فاخترتك عليه ، فأخذت خط أمير المؤمنين بما تراه ، فامض وأوصله إليه فقبلت رأسه .

وجئت إلى الرجل ، فأخذت بيده ومضينا إلى مؤنس ، فسلمت التوقيع إليه ، فلما رآه اسود وجهه ، وارتعد حتى سقطت الرقعة من يده ، ثم قال : يا هذا [ الله ] بيني وبينك ! هذا شيء ما علمت به فألا تظلمته إلي وإن لم أنصفكم فإلى الوزير ، بلغتم الأمر إلى أمير المؤمنين من أول وهلة ! قال : فقلت بعلمك جرى والعقد معك فأحضره ، فقال : خذ الألف دينار التي عليه الساعة ، واكتبوا على الرجل ببطلان ما ادعاه فقلت : لا نفعل ! فقال : ألف وخمسمائة دينار قلت : والله لا نرضى حتى تركب بنفسك إلى الدكان ، فترد العقد ، فركب ورد العقد إلى مكانه .

قال المحسن : وبه حدثنا أبو أحمد الحسين بن محمد المدلجي قال : بلغني عن خفيف السمرقندي قال : كنت مع مولاي المعتضد في بعض متصيداته ، وقد انقطع عن العسكر ، وليس معه [ أحد ] غيري ، فخرج علينا أسد ، فقصدنا فقال لي المعتضد : [ ص: 315 ] يا خفيف ، أفيك خير؟ قلت : لا يا مولاي ! فقال : ولا حتى تمسك فرسي وأنزل أنا إلى الأسد؟ فقلت : بلى ! فنزل وأعطاني فرسه ، وشد أطراف ثيابه في منطقته ، واستل سيفه ، ورمى القراب إلي فأخذته ، وأقبل يمشي إلى الأسد ، فطلبه الأسد ، فحين قرب منه وثب الأسد عليه ، فتلقاه المعتضد بضربة ، فإذا يده قد طارت فتشاغل الأسد بالضربة ، فثناه بأخرى ، ففلق هامته فخر صريعا ، ودنا منه وقد تلف ، فمسح السيف في صوفة ورجع إلي ، وغمد السيف ، وركب ، ثم عدنا إلى العسكر وصحبته إلى أن مات ما سمعته يحدث بحديث الأسد ، ولا علمت أنه لفظ فيه بلفظة ، فلم أدر من أي شيء أعجب من شجاعته وشدته ! أم قلة احتفاله بما صنع حتى كتمه ! أو من عفوه عني ، فما عاتبني على ضني بنفسي .

قال المحسن : وحدثني أبو الحسين محمد بن عبد الواحد الهاشمي قال : حدثني القاضي أبو علي الحسن بن إسماعيل بن إسحاق - وكان ينادم المعتضد بالله - قال : بينا المعتضد في مجلس سرور ، إذ دخل بدر فقال : يا مولاي ، قد أحضرنا القطان الذي من بركة زلزل ، فنهض من مجلسه ولبس قباء ، وأخذ بيده حربة ، وقعد في مجلس قريب منا ، وقد مدت بيننا وبينه ستارة ، نشاهد من ورائها ، فأدخل عليه شيخ ضعيف ، فقال له بصوت شديد ووجه مقطب ونظر مغضب : أنت القطان الذي قلت أمس ما قلت ؟ فأغمي عليه لما تداخله من الخوف والروع ونحي [ عنه ] ساعة حتى سكن ، ثم أعيد إلى حضرته ، فقال له : ويلك ، تقول في سوقك ليس للمسلمين من ينظر في أمورهم فأين أنا وما شغلي غير ذلك .

قال : يا أمير المؤمنين ! أنا رجل عامي ، [ ص: 316 ] ومعيشتي من القطن الذي أعامل فيه النساء وأهل الجهل ولا تمييز عند مثلي فيما يلفظ به ، وإنما اجتاز بي رجل ابتعت منه ، وكان ميزانه ووزنه تطفيفا ، فقلت ما قلت ، وإنما أعني به المحتسب علينا . فقال له المعتضد بالله إنك أردت [ به ] المحتسب؟ قال : أي والله ، وأنا تائب [ من ] أن أقول مثل ما قلته أبدا ، فأمر بأن يحضر المحتسب وينكر عليه [ في ] ترك النظر في هذه الأمور ، ورسم له اعتبار الصنج والموازين على السوقة والطوافين ، ومراعاتهم حتى لا يبخسوا ، ثم قال للشيخ : انصرف فلا بأس عليك ! وعاد إلينا فضحك وانبسط ، ورجع إلى ما كان عليه من قبل .

فقلت له : يا مولاي ! أنت تعرف فضولي فتأذن لي أن أورد ما في نفسي؟ فقال : قل ! قلت : مولانا كان على أكمل مسرة ، فترك ذاك وتشاغل بخطاب كلب من السوقة ، قد كان يكفيه أن يصيح عليه رجل من رجال المعونة ، ثم لم تقنع بإيصاله إلى مجلسه حتى غير لباسه ، وأخذت سلاحه ، واستقبحت مناظرته بنفسه لأجل كلمة تقولها العامة دائما ولا يميزون ما فيها ، فقال : يا حسن ! أنت تعلم ما يجره هذا القول إذا تداولته الألسن ، ووعته الأسماع ، وحصل في القلوب ، لأنه متى ألف ولقنه هذا عن هذا لم يؤمن [ ص: 317 ] أن يولد لهم في نفوسهم امتعاضا للدين أو السياسة ، يخرجون فيه إلى إثارة الفتن ، وإفساد النظام ، وليس شيء أبلغ في [ هذا من ] قطع هذه الأسباب ، وحسم موادها من إزالة دواعيها وموجباتها ، وقد طارت روح هذا القطان بما شاهد وسمعه ، وسيحدث به ، ويزيد فيه ، ويعظم الأمر ويفخمه ، وسمع ما تقدمنا به في أمر المحتسب ، وما نحن عليه من مراعاة الكبير والصغير ، وينشر بين العامة بما يكف ألسنتها ، ويقيم الهيبة في نفوسها ، وليكون ما تكلفت من هذا [ التعب ] القليل قد كفاني التعب الكثير ، فأقبلنا ندعو له .

قال المحسن : وحدثنا القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي أن شيخا من التجار كان له على أحد القواد في أيام المعتضد بالله مال ، قال التاجر : فماطلني به وسلك معي سبيل الألطاط فيه ، وكان يحجبني إذا حضرت بابه ، ويضع غلمانه على الاستخفاف بي ، والاستطالة على إذا رمت لقاءه وخطابه ، وتظلمت إلى عبيد الله بن سليمان منه ، فما نفعني ذلك ، وعملت على الظلامة إلى المعتضد بالله ، وبينا أنا مرو في أمري قال لي بعض أصدقائي : على أن آخذ لك مالك من غير حاجة إلى ظلامة ، فاستبعدت هذا وقمت معه .

فجئنا إلى خياط شيخ في سوق الثلاثاء يقرئ القرآن في مسجد هناك ، ويخيط بأجرة فقص عليه قصتي ، وشرح له صورتي ، وسأله أن يقصد القائد ويخاطبه في الخروج إلي من حقي ، وكانت دار القائد قريبة من مسجد الخياط ، فنهض معنا ومشينا فخفت بادرة القائد وسطوته ، وتصورت أن قول الخياط لا ينفع مع مثله مع محله وبسطته ، وقلت لصديقي : قد عرضنا هذا [ ص: 318 ] الشيخ ونفوسنا لمكروه عظيم ، وما هو إلا أن يراه غلمانه ، وقد أوقعوا به ، وإذا كان لا يقبل قول الوزير عبيد الله بن سليمان فبالأولى أن لا يقبل منه ولا يفكر فيه ، فضحك وقال : لا عليك! .

وجئنا إلى باب القائد ، فحين رأى غلمانه الخياط تلقوه وأعظموه ، وأهووا ليقبلوا يده فمنعهم منها وقالوا : ما جاء بك أيها الشيخ؟ فإن قاعدنا راكب ، فإن كان لك أمر نقوم بذكره له ، وتنتجزه إياه فعلنا ، وإن أردت الجلوس والانتظار فالدار بين يديك ! فلما سمعت ذلك قويت نفسي ، ودخلنا وجلست ، ورآني القائد ، فلما رآه أكرمه إكراما شديدا وقال له : لست أنزع ثيابي حتى تأمر بأمرك ، فخاطبه في شأني ، فقال : والله ما معي إلا خمسة آلاف درهم ، فتسأله أن يأخذها ويأخذ رهونا من مراكبي الذهب والفضة بقيمة ما يبقى من ماله لأعطيه إياه بعد شهر ، فبادرت أنا إلى إجابته وأحضرت الدراهم والمراكب بقيمة الباقي ، فقبضتها وأشهدت الخياط وصديقي عليه بأن الرهن عندي إلى مدة شهر ، فإن جاز كنت وكيله في بيعه ، وآخذ مالي من ثمنه .

وخرجنا فلما بلغنا مسجد الخياط ودخلنا طرحت الدراهم بين يديه وقلت [ له ] : قد رد الله مالي بك وعلى يديك ، فخذ ما تريد منه على طيب قلب مني ! فقال : يا هذا ، ما أسرع ما قابلتني بالقبيح على الجميل ، انصرف بمالك بارك الله لك فيه . قلت : قد بقيت لي حاجة ، قال : قل ! قلت : أحب أن تخبرني عن سبب طاعة هذا القائد لك مع إقلاله الفكر بأكابر الدولة . فقال : قد بلغت غرضك ، فلا تقطعني عن شغلي بحديث لا فائدة [ لك ] فيه . فألححت عليه .

فقال : أنا رجل أقرئ [ وأؤم بالناس ] في هذا المسجد منذ أربعين سنة ، لا أعرف كسبا إلا من الخياطة ، وكنت صليت المغرب منذ مدة ، وخرجت أريد منزلي ، [ ص: 319 ] فاجتزت على تركي كان في هذه الدار ، وأومأ إلى دار بالقرب منه ، وإذا امرأة جميلة الوجه قد اجتازت عليه ، فعلق بها وهو سكران ، فطالبها بالدخول إلى داره ، وهي تمتنع وتستغيث وتقول في كلامها : إن زوجي قد حلف بطلاقي أن لا أبيت عنه وإن أخذني هذا وغصبني نفسي وبيتني عنده خرب بيتي ، ولحقني من العار ما لا تدحضه الأيام عني ! وما أحد يعينها ولا يمنعه منها .

، فجئت إلى التركي ، ورفقت به في أن يخلي عنها ، فلم يفعل وضرب رأسي بدبوس كان في يده فشجه ، وأدخل المرأة فصرت إلى منزلي وغسلت الدم عن وجهي ، وشددت رأسي وخرجت لصلاة العشاء الآخرة ، فلما فرغنا من الصلاة قلت لمن حضر قوموا معي إلى هذا التركي عدو الله لننكر عليه ، ونخرج المرأة من عنده ، فقاموا ، وجئنا فضججنا على بابه ، فخرج إلينا في عدة من غلمانه ، فأوقع بنا وقصدني من بين الجماعة بالضرب الشديد الذي يكاد يتلفني .

فحملت إلى منزلي وأنا لا أعقل أمري ، ونمت قليلا للوجع ، فطار النوم من عيني ، وسهرت مستلقيا على فراشي مفكرا في أمر المرأة وأنها متى أصبحت طلقت ، ثم قلت : هذا رجل قد شرب طول ليلته ولا يعرف الأوقات ، فلو أذنت لوقع له أن الفجر قد طلع ، فربما أخرج المرأة ، فمضت إلى بيتها و [ تبيت ] ، وبقيت في حبال زوجها ، فتكون قد خلصت من أحد المكروهين ، فخرجت متحاملا إلى المسجد ، وصعدت المنارة وأذنت ، وجلست أطلع إلى الطريق أرتقب خروج المرأة من الدار ، واعتقدت أن أقيم إن تراخي الأمر في ذلك لئلا يشك في الصباح ، فما مضت ساعة حتى امتلأ الشارع [ ص: 320 ] خيلا ورجالا ومشاعل ، وهم يقولون : من الذي أذن الساعة ، ففزعت وسكت ، ثم قلت أخاطبهم وأصدقهم عن أمري لعلهم يعينونني على خروج المرأة ، فصحت من المنارة : أنا أذنت ! قالوا : انزل وأجب أمير المؤمنين ! فنزلت ومضيت معهم ، فإذا [ هم ] غلمان بدر ، فأدخلني إلى المعتضد بالله ، فلما رأيته هبته وأخذتني رعدة شديدة ، فقال لي : اسكن ، ما حملك على الآذان في غير وقته وأن تغر الناس فيخرج ذو الحاجة في غير حينه ، ويمسك المريد الصوم في وقت قد أبيح له فيه الأكل والشرب؟

فقلت : يؤمنني أمير المؤمنين لأصدقه ، قال : أنت آمن ! فقصصت عليه قصة التركي ، وأريته الآثار [ التي ] في رأسي ووجهي ، فقال : يا بدر ! علي بالغلام والمرأة [ فأحضرا ] فسألها المعتضد عن أمرها ، فذكرت له مثل ما ذكرته ، فأمر بإنفاذها إلى زوجها مع ثقة يدخلها دارها ، ويشرح لزوجها خبرها ، ويأمره عنه بالتمسك بها ، والإحسان إليها .

ثم استدعاني ، ووقفت فجعل يخاطب الغلام ويسمعني ، ويقول : كم رزقك؟ فيقول : كذا وكذا . وكم عطاؤك؟ فيقول : كذا . وكم وظيفتك؟ فيقول : كذا . وكم كسوتك؟ فيقول : كذا . إلى أن عدد شيئا كثيرا ، ثم قال : كم لك؟ جارية . قال : كذا فقال : فما كان لك في هذه النعمة ، وفي هؤلاء الجواري ما يكفيك ويكفك عن محارم الله تعالى ، وخرق سياسة السلطان ، والجراءة عليه؟ وما كان عذرك في الوثوب على من أمرك بالمعروف ونهاك عن المنكر؟ فأسقط في يد الغلام ولم يكن له جواب [ ص: 321 ] يورده .

ثم قال : يحضر جوالق ومداق الجص ، وقيود وغل . فأحضر جميع ذلك فقيده وغله وأدخله الجوالق ، وأمر الفراشين فدقوه بمداق الجص وهو يصيح ، إلى أن خفت صوته وانقطع حسه ، وأمر به وطرح إلى دجلة . وتقدم إلى بدر [ بتحويل ] ما في داره ، ثم قال لي : قد شاهدت ذلك كله ! متى رأيت [ يا شيخ ] منكرا كبيرا أو صغيرا ، فأنكره ولو على هذا - وأومأ إلى بدر - ومن تقاعس عن القبول منك فالعلامة بيننا أن تؤذن في مثل هذا الوقت لأسمع صوتك فأستدعيك ، قال الشيخ : فدعوت له وانصرفت ، وشاع الخبر في [ الجند و ] الغلمان ، فما سألت أحدا منهم بعدها إنصافا أو كفا عن قبيح إلا أطاعني كما رأيت ، خوفا من المعتضد بالله ، وما احتجت أن أؤذن في مثل ذلك الوقت إلى الآن .

أنبأنا محمد بن أبي طاهر قال : أنبأنا علي بن المحسن ، عن أبيه قال : حدثنا القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي قال : سمعت العباس بن عمرو الغنوي يقول : لما أسرني أبو سعيد القرمطي ، وكسر العسكر الذي كان بعثه معي المعتضد إلى قتاله ، وحصلت في يده يئست من الحياة ، فأنا يوما على تلك الصورة ، إذ جاءني رسوله ، فأخذ قيودي ، وغير ثيابي ، وأدخلني إليه ، فسلمت عليه وجلست ، فقال : أتدري لم استدعيتك؟ قلت : لا ! قال : إنك رجل عربي ، ومن المحال إذا استودعتك أمانة أن تخفيها ، ولا سيما مع مني عليك بنفسك . قلت : هو كذلك . فقال : إني فكرت ، فإذا لا طائل في قتلك ، وفي نفسي رسالة إلى المعتضد ، لا يجوز أن يؤديها [ ص: 322 ] غيرك ، فرأيت إطلاقك وتحميلك إياها إن حلفت أنك إن سيرتك إليه تؤديها ، فحلفت له .

فقال : قل للمعتضد يا هذا ، لم تخرق هيبتك ، وتقتل رجالك ، وتطمع أعداءك في نفسك ، وتبعث في طلبي الجيوش ، وأنا رجل مقيم في فلاة ، لا زرع فيها ولا ضرع ، وقد رضيت لنفسي بخشونة العيش ، والعز بأطراف هذه الرماح ، ولا اغتصبتك بلدا ، ولا أزلت سلطانك عن عملك ، ومع هذا فو الله لو أنفذت إلي جيشك كله ما جاز يظفر بي ، لأني رجل نشأت في القشف ، فاعتدته أنا ورجالي ، ولا مشقة علينا فيه ، وأنت تنفذ جيوشك من الجيوش والثلج والريحان ، فيجيئون من المسافة البعيدة الشاقة ، وقد قتلهم السفر قبل قتالنا ، وإنما غرضهم أن يبلغوا غرضا من مواقفتنا ساعة ، ثم يهربون ، وإن هم هزموني بعدت عشرين فرسخا ، أو ثلاثين ، وجلت في الصحراء شهرا أو شهرين ، ثم كبستهم على غرة فقتلتهم ، وإن كانوا محتزبين فما يمكنهم أن يطوفوا خلفي في الصحارى ، ولا تحملهم الإقامة في أماكنهم ، فأنت تنفق الأموال ، وتكلف الرجال الأخطار ، وأنا سليم من ذلك وهيبتك تتخرق في الأطراف ، كلما جرى عليك هذا فإن اخترت بعد محاربتي فاستخرت الله ، وإن أمسكت فذلك إليك .

ثم سيرني وأنفذ معي عدة إلى الكوفة وسرت منها إلى الحضرة ، ودخلت إلى المعتضد ، فأخبرته بما قال في خلوة فرأيته يتمعط في جلده غيظا حتى ظننت أنه سيسير إليه بنفسه ، وخرجت فما رأيته بعد ذلك ذكره . قال القاضي : كأنه عرف صدق قوله فكف عنه .

أنبأنا محمد بن أبي طاهر قال أنبأنا علي بن المحسن ، عن أبيه قال : حدثني أبو الحسين علي بن هشام قال : حدثنا الفضل بن سليمان قال : حدثني خفيف السمرقندي حاجب المعتضد قال : كنت واقفا بحضرة المعتضد إذ دخل بدر ، وهو يبكي وقد ارتفع الصراخ من دار عبيد الله بن سليمان عند موته ، فأعلم المعتضد الخبر ، [ ص: 323 ] فقال : أو قد صح الخبر أو هي غشية؟ قال : بل قد توفي وشد لحيته فرأيت المعتضد قد سجد ، فأطال السجود .

فلما رفع رأسه قال له بدر : والله يا أمير المؤمنين لقد كان صحيح الموالاة ، مجتهدا في خدمتك ، عفيفا عن الأموال ! قال : أفظننت يا بدر أني سجدت سرورا بموته؟ إنما سجدت شكرا لله تعالى ، إذ وفقني فلم أصرفه ولم أوحشه ، ولي في جنب ورثته ما خلفه عليهم من كسبه معي ، ما لعله قيمة ألفي ألف دينار ، وقد عملت على أخذ ذلك منهم ، وأن أستوزر أحد الرجلين : إما جرادة وهو أقوى الرجلين في نفسي لهيبته في قلوب الجيش ، والآخر أحمد بن محمد بن الفرات ، وهو أعرف بمواقع المال .

فقال له بدر : يا مولاي ، غرست غرسا حتى إذا ما أثمر قلعته ! أنت ربيت القاسم وقد ألف خدمتك عشر سنين ، وعرف ما يرضي حاشيتك ، وجرادة رجل منكر ، ويخرج من الحبس جائعا ، وابن الفرات لا هيبة له في النفوس ، وإنما يصلح أن يكون بحضرة وزير يمشي له أمر المال ، ومال القاسم ، وورثته لك . أي وقت أردته أخذته .

فراجعه المعتضد وبين له فساد هذا الرأي ، فعدل عن المناظرة إلى تقبيل الأرض مرات ، فقال له المعتضد : قد أجبتك فامض إلى القاسم فعزه ثانية ، وبشره بتقرير رأيي على استوزاره لتسله عن مصابه ، ومره بالبكور إلى الجامع ، فولى بدر فخرجت معه ، فدعاني المعتضد فعدت ، فقال : أرأيت ما جرى؟ قلت : نعم ! فقال : والله لا يقتل بدرا غير القاسم ! فما تم للقاسم التدبير مع المكتفي حتى قتل بدرا ! . قال خفيف : رحم الله المعتضد ! كأنه نظر هذا من وراء ستر .

التالي السابق


الخدمات العلمية