صفحة جزء
ثم دخلت سنة سبع عشرة وثلاثمائة

فمن الحوادث فيها :

أن مؤنسا المظفر دخل بغداد بعد أن لقيه عبد الله بن حمدان ، ثم من يراد للإمارة ، وأحكم معه ما أراد ، فدخل بيته ولم يمض إلى دار السلطان ، فمضى إليه أبو العباس ابن أمير المؤمنين ، ومحمد بن علي الوزير ، وعرفاه شوق أمير المؤمنين إليه ، فاعتذر من تخلفه بعلة شكاها ، فأرجف الناس بتنكره ووثب الرجالة ببعض حاشيته ، فواثبهم أصحابه ، فوقع في نفس مؤنس أن هذا بأمر السلطان ، فجلس في طياره وصار إلى باب الشماسية ، وتلاحق به أصحابه ، وخرج إليه نازوك في جيشه ، فلما بلغ المقتدر ذلك صرف الجيش عن بابه ، وكاتب مؤنسا وسائر الجيش بإزاحة عللهم في الأموال ، وخاطب مؤنسا بأجمل خطاب ، وقال : وأما نازوك فلست أدرى ما سبب عتبه واستيحاشه ، والله يغفر له سيئ ظنه وأما ابن حمدان فلست أعرف شيئا أحفظ له إلا عزله عن الدينور ، وإنما أردنا نقله إلى ما هو أجل منه وما لأحد من الجماعة عندي إلا ما يحب ، واستظهر كل واحد منهم لنفسه بعد أن لا يخلع الطاعة ولا ينقض بيعة فإني مستسلم لأمر الله عز وجل غير مسلم حقا خصني الله به ، فاعل ما فعله عثمان بن عفان رضى الله عنه ، ولا آتي في سفك الدماء ما نهى الله عز وجل عنه ، ولست أنتصر إلا بالله . [ ص: 280 ]

فسمع العسكر هذا فقالوا : نمضي فنسمع ما يقول ، فأخرج المقتدر جميع من كان يحمل سلاحا وجلس على سريره في حجره مصحف يقرأ فيه ، وأمر بفتح الأبواب وأحضر بنيه ، فأقامهم حول سريره ، فصار المظفر إلى باب الخاصة ، ثم صرف الناس على حالة جميلة ، فسروا بالسلامة ، ورجع المظفر إلى داره ، فلما كان يوم الخميس لثلاث عشرة من المحرم عاود أصحاب نازوك وسائر الفرسان الركوب في السلاح ، وأخرجوا المظفر على كره منه وغلبه نازوك على التدبير ، وركب نازوك يوم الجمعة بعد الصلاة والناس معه في السلاح ، فوجدوا الأبواب مغلقة فأحرقوا بعضها ودخلوا وقد تكاملت عدة الفرسان اثني عشر ألفا ومبلغ مالهم في كل شهر خمسمائة ألف دينار ، والرجالة عشرون ألفا ومبلغ مالهم عشرون ومائة ألف دينار ، فدخل نازوك وأصحابه الدار بخيلهم ، فدخل المظفر وأخرج الخليفة وولده والسيدة إلى منزله ، ونهب الجند الدار ثم دخل المظفر بالقصر ، وأجمع رأي نازوك وعبد الله بن حمدان على إجلاس محمد بن المعتضد ، فجاءوا به في ليلة السبت للنصف من المحرم ، فسلموا عليه بالخلافة ، ولقب القاهر بالله ، وقلد أبو علي بن مقلة وزارته ، ونازوك الحجبة مضافا إلى الشرطة ، ونهبت دار السلطان ، ووجد لأم المقتدر ستمائة ألف دينار ، فحملت وخلع المقتدر من الخلافة يوم السبت النصف من المحرم ، وأشهد على نفسه القضاة بالخلع ، وسلم الكتاب بذلك إلى القاضي أبي عمر محمد بن يوسف ، فسلمه إلى ولده أبي الحسين ، وقال له : احفظه ولا يراه أحد من خلق الله ، فلما أعيد المقتدر إلى الخلافة بعد يومين أخذ القاضي أبو عمر الكتاب ، فسلمه إلى المقتدر من يده إلى يده وحلف له أنه ما رآه أحد من خلق الله غيري ، فحسن موقع ذلك من المقتدر وشكره وقلده بعد مديدة قضاء القضاة .

ولما كان من غد بيعة القاهر ، وهو يوم الأحد ، جلس القاهر بالله ، وحضر الوزير أبو [ ص: 281 ] علي بن مقلة فكتب ابن مقلة إلى العمال بخبر تقليده الخلافة ، ثم شغب الجند يطلبون الأرزاق ، فلما كان يوم الاثنين اجتمعوا وطالبوا وهجموا فقتلوا نازوك وصاحوا : "مقتدر يا منصور " فهرب الوزير والحجاب والحشم ، وجاء المقتدر فجلس ، وجيء بالقاهر إليه فأجلسه بين يديه واستدناه وقبل جبينه ، وقال : يا أخي أنت لا ذنب لك ، وقد علمت أنك قهرت والقاهر يقول الله الله ، نفسي نفسي يا أمير المؤمنين . فقال له : وحق رسول الله لا جرى عليك مني سوء أبدا ، وعاد ابن مقلة فكتب إلى الأماكن بخلافة المقتدر .

وفيها بذرق الحاج منصور الديلمي وسلموا في طريقهم ، فلما وصلوا إلى مكة وافاهم أبو طاهر الهجري إلى مكة يوم التروية ، فقتل الحاج في المسجد الحرام وفي الفجاج من مكة ، وقتلهم في البيت قتلا ذريعا . وكان الناس في الطواف وهم يقتلون ، وكان في الجماعة علي بن بابويه يطوف ، فلما قطع الطواف ضربوه بالسيوف ، فلما وقع أنشد :


ترى المحبين صرعى في ديارهم كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا



واقتلع الهجري الحجر الأسود ، وقلع قبة بئر زمزم ، وعرى الكعبة ، وقلع باب البيت وأصعد رجلا من أصحابه ليقلع الميزاب ، فتردى الرجل على رأسه ومات ، وقتل أمير مكة ، وأخذ أموال الناس ، وطرح القتلى في بئر زمزم ، ودفن باقيهم في مصارعهم وفي المسجد الحرام من غير أن يصلى عليهم ، وانصرف إلى بلده ، وحمل معه الحجر الأسود فبقي عندهم أكثر من عشرين سنة إلى أن ردوه .

أخبرنا محمد بن أبي طاهر ، أنبأنا علي بن المحسن ، عن أبيه ، قال : حدثنا أبو الحسين عبد الله بن أحمد بن عياش القاضي ، قال : أخبرني بعض أصحابنا أنه كان بمكة في الوقت الذي دخلها أبو طاهر القرمطي ونهبها وسلب البيت وقلع الحجر [ ص: 282 ] الأسود والباب وقتل المسلمين في الطواف وفي المسجد وعمل تلك الأعمال العظيمة ، قال : فرأيت رجلا قد صعد البيت ليقلع الميزاب ، فلما صار عليه سقط فاندقت عنقه ، فقال القرمطي : لا يصعد إليه أحد ودعوه ، فترك الميزاب ولم يقلع ، ثم سكنت الثائرة بعد يوم أو يومين ، قال : فكنت أطوف بالبيت فإذا بقرمطي سكران وقد دخل المسجد بفرسه ، فصفر له حتى بال في الطواف ، وجرد سيفه ليضرب به من لحق ، وكنت قريبا منه ، فعدوت ، فلحق رجلا كان إلى جنبي فضربه فقتله ، ثم وقف وصاح : يا حمير أليس قلتم في هذا البيت من دخله كان آمنا ، فكيف يكون آمنا وقد قتلته الساعة بحضرتكم . قال : فخشيت من الرد عليه أن يقتلني ، ثم طلبت الشهادة ، فجئت حتى لصقت به وقبضت على لجامه وجعلت ظهري مع ركبتيه لئلا يتمكن من ضربي بالسيف ، ثم قلت : اسمع ، قال : قل : قلت : إن الله عز وجل لم يرد أن من دخله كان آمنا إنما أراد من دخله فأمنوه ، وتوقعت أن يقتلني فلوى رأس فرسه وخرج من المسجد وما كلمني .

قال المحسن : وحدثني أبو أحمد الحارثي ، قال : أخبرني رجل من أصحاب الحديث أسرته القرامطة سنة الهبير واستعبدته سنين ، ثم هرب منها لما أمكنه قال : كان يملكني رجل منهم يسومني سوء العذاب ، ويستخدمني أعظم خدمة ، ويعربد علي إذا سكر ، فسكر ليلة وأقامني حياله ، وقال : ما تقول في محمد هذا صاحبكم ؟ فقلت : لا أدري ، ولكن ما تعلمني أيها المؤمن أقوله ، فقال : كان رجلا سائسا ، قال : فما تقول في أبي بكر ؟ قلت : لا أدري ، قال : كان رجلا ضعيفا مهينا ، قال : فما تقول في عمر ؟ قلت : لا أدري ، قال : كان والله فظا غليظا ، فما تقول في عثمان ؟ قلت : لا أدري ، قال : كان جاهلا أحمق ، فما تقول في علي ؟ قلت : لا أدري ، قال : كان ممخرقا أليس يقول [ ص: 283 ]

إن ها هنا علما لو أصبت له حملة ، أما كان في ذلك الخلق العظيم بحضرته [من يودع ] كل واحد منهم كلمة حتى يفرغ ما عنده هل هذه إلا مخرقة ؟ ونام فلما كان من غد دعاني ، فقال : ما قلت لك البارحة ؟ فأريته أني لم أفهمه ، فحذرني من إعادته والإخبار عنه بذلك ، فإذا القوم زنادقة لا يؤمنون بالله ولا يفكرون في أحد من الصحابة .

قال المحسن : ويدل على هذا أن أبا طاهر القرمطي دخل الكوفة دفعات ، فما دخل إلى قبر علي عليه السلام واجتاز بالحائر فما زار الحسين . وقد كانوا يمخرقون بالمهدي ويوهمون أنه صاحب المغرب ، ويراسلون إسماعيل بن محمد صاحب المهدية المقيم بالقيروان . ومضت منهم سرية مع الحسين بن أبي منصور بن أبي سعيد في شوال سنة ستين وثلاثمائة ، فدخلوا دمشق في ذي القعدة من هذه السنة ، فقتلوا خلقا ثم خرجوا إلى مكة فقتلوا واستباحوا وأقاموا الدعوة للمطيع لله في كل فتح فتحوه ، وسودوا أعلامهم ورجعوا عما كانوا عليه من المخرقة ضرورة ، وقالوا : لو فطنا لما فطن له ابن بويه الديلمي لاستقامت أمورنا ، وذلك أنه ترك المذاهب جانبا ، وطلب الغلبة والملك فأطاعه الناس .

وكان من مخاريقهم قبة ينفرد فيها أميرهم وطائفة معه ، ولم يقاتلوا ، فإذا كل المقاتلون حمل هو بنفسه وتلك الطائفة على قوم قد كلوا من القتال ، وكانوا يقولون : إن النصر ينزل من هذه القبة ، وقد جعلوا مدخنة وفحما ، فإذا أرادوا أن يحملوا صعد أحدهم إلى القبة وقدح وجعل النار في المجمرة وأخرج حب الكحل فطرحه على النار فتفرقع فرقعة شديدة ولا يكون له دخان ، وحملوا ولا يلبث لهم شيء ولا يوقد ذلك إلا أن يقول صاحب العسكر : نزل النصر ، فكسر تلك القبة أصحاب جوهر الذي ملك مصر .

التالي السابق


الخدمات العلمية