صفحة جزء
ذكر الأحداث المتعلقة بالعرب

قال مؤلف الكتاب: لما مات بخت نصر انضم الذين أسكنوا الحيرة من العرب إلى أهل الأنبار ، وبقي الحيرة خرابا ، فغبروا بذلك زمانا طويلا ، لا يطلع عليهم أحد من العرب ، وفي الأنبار أهلها ومن انضم إليهم من أهل الحيرة ومن قبائل العرب من بني إسماعيل ومن معد بن عدنان ، وكثروا وملئوا بلادهم من تهامة وما يليها ، ثم فرقتهم حروب وقعت بينهم ، وأحداث حدثت فيهم ، فخرجوا يطلبون الريف فيما يليهم من بلاد اليمن والمشارق .

ونزل بعضهم البحرين ، وكان بها جماعة من الأزد كانوا نزلوها في زمان عمران بن عمرو مزيقيا . ومزيقيا لقب عمرو ، وإنما لقب مزيقيا [ ص: 49 ] لأنه كان يتخذ كل يوم حلتين من حلل الملوك ، فإذا أمسى مزقهما واستبدل بهما من الغد أخريين ، لأنه لم يكن يرى أحدا أهلا أن يلبس ثيابه . وهو ابن عامر ، ويلقب عامر: " ماء السماء بن حارثة " وهو الغطريف بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد .

فاجتمع بالبحرين جماعة من قبائل العرب ، فتحالفوا [ على ] التنوخ - وهو المقام - وتعاقدوا على [ التوازر ] والتناصر ، فضمهم [ اسم ] تنوخ . فدعا مالك بن زهير جذيمة الأبرش بن مالك بن فهم أن يقيم معه فأقام ، فزوجه أخته لميس ابنة زهير . وكان هذا كله في أزمان ملوك الطوائف الذين ملكهم الإسكندر ، وفرق البلدان بينهم عند قتله دارا [ بن دارا ملك فارس ، إلى أن ظهر أردشير بن بابك ] ملك فارس على ملوك الطوائف ، وقهرهم ودان له الناس ، وضبط [ له ] الملك . وإنما سموا ملوك الطوائف ، لأن كل ملك منهم كان ملكه قليلا من الأرض .

فتطلعت أنفس من كان بالبحرين من العرب إلى ريف العراق ، وطمعوا في غلبة الأعاجم على ما يلي بلاد العرب منه ، أو مشاركتهم فيه ، فانقسموا فخرج كل رئيس من العرب بمن معه على قوم . [ ص: 50 ] ولم يزالوا كذلك لا يدينون للأعاجم ولا تدين لهم الأعاجم ، إلى أن قدم الأنبار تبع - وهو أسعد أبو كرب بن مليكرب - في جيوشه ، فخلف بها من لم يكن فيه قوة للقتال ، وخرج للغزو .

ونزل كثير من تنوخ الأنبار والحيرة ، وما بين الحيرة إلى طف الفرات وغربيه في الأبنية والمظال ، لا يسكنون بيوت المدر . وكانوا يسمون: عرب الضاحية ، فكان أول من ملك منهم في زمان ملوك الطوائف مالك بن فهم ، وكان منزله فيما يلي الأنبار . ثم مات [ مالك ] ، فملك بعده أخوه عمرو بن فهم ، ثم هلك فملك بعده جذيمة بن الأبرش [ بن مالك ] بن فهم بن غنم بن دوس الأزدي ، وكان من قبل أردشير بن بابك .

وكان من أفضل ملوك العرب رأيا ، وأشدهم نكاية ، وأبعدهم غورا ، وهو أول من استجمع له الملك بأرض العراق ، وضم إليه العرب ، وكان به برص ، فكنت العرب عنه إعظاما له . فقيل: جذيمة الوضاح ، وجذيمة الأبرش ، وكانت منازله فيما بين الحيرة والأنبار [ وبقة ] وهيت [ وناحيتها ] ، وعين التمر ، وأطراف البر . [ ص: 51 ] وكان لا ينادم أحدا كبرا ، بل ينادم الفرقدين ، فإذا شرب قدحا صب لها قدحا . وكانت تجبى إليه الأموال ، وتفد عليه الوفود ، فخرج إلى غزو طسم وجديس ، فأصاب حسان بن تبع قد أغار على طسم وجديس ، فانكفأ جذيمة راجعا بمن معه . وكانت فيهم الزرقاء ، واسمها: اليمامة ، وبها سمي بلدها: اليمامة ، وهي من بنات لقمان بن عاد ، وقيل: هي من جديس وطسم .

فلما قصدهم جيش حسان بن تبع بقي بينه وبينهم مسيرة ثلاثة أيام ، فأبصرتهم وقد حمل كل رجل منهم شجرة يسير بها ، فقالت: " تالله ، لقد دب الشجر - أو حمير قد أخذت شيئا تجر " . فلم يصدقوها ، فقالت: " أقسم بالله لقد أرى رجلا منهم ينهش كتفا أو يخصف نعلا " ، فلم يستعدوا . فصبحهم حسان فاجتاحهم ، فأخذها فشق عينيها ، وإذا فيها عروق من الإثمد .

قال مؤلف الكتاب: وبنظر هذه المرأة يضرب المثل . وكانت زرقاء اليمامة قد نظرت إلى سرب من حمام طائر ، [ فإذا فيه ] ست وستون حمامة ، وعندها حمامة واحدة ، فقالت:


ليت الحمام ليه إلى حمامتيه     ونصفه قديه
ثم الحمام ميه

[ ص: 52 ] فقال النابغة يخاطب النعمان ويقول:


واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت     إلى حمام سراع وارد الثمد

أراد: كن حكما .

وكان جذيمة قد تنبأ وتكهن ، واتخذ صنمين يقال: لهما: الضيزنان – ومكانهما بالحيرة معروف - وكان يستسقي بهما ويستنصرهما على العدو .

وكانت إياد بعين أباغ ، وأباغ : رجل من العماليق نزل بتلك العين ، فكان يغازيهم ، فذكر لجذيمة غلام من لخم في أخواله من إياد ، يقال له: عدي بن نصر بن ربيعة ، له جمال وظرف ، فغزاهم جذيمة ، فبعث إياد قوما منهم فسقوا سدنة الصنمين الخمر ، وسرقوهما ، فأصبحا في إياد ، فبعث إلى جذيمة : إن صنميك أصبحا فينا زهدا فيك ورغبة فينا ، فإن أوثقت لنا ألا تغزونا رددناهما إليك .

فقال: وعدي بن نصر تدفعونه إلي [ مع الصنمين ] فدفعوه إليه مع الصنمين ، فانصرف عنهم ، وضم عديا إلى نفسه وولاه شرابه . فأبصرته رقاش بنت مالك ، أخت جذيمة ، فعشقته وراسلته وقالت: يا عدي ، اخطبني إلى الملك فإن لك حسبا وموضعا . فقال: لا أجترئ على كلامه في ذلك ، ولا أطمع أن يزوجنيك . قالت: فإذا جلس على شرابه وحضر ندماؤه فاسقه صرفا ، واسق القوم مزاجا ، فإذا أخذت الخمر منه فاخطبني إليه ، فإنه لن يردك ولن يمتنع منك ، فإذا زوجك فأشهد القوم .

[ ص: 53 ] ففعل [ الفتى ] ما أمرته ، فلما أخذت الخمر مأخذها ، خطبها إليه فأملكه إياها ، فأعرس بها من ليلته ، وأصبح مضرجا بالخلوق . فقال له جذيمة : ما هذه الآثار يا عدي ؟ قال: آثار العرس ، قال: أي عرس ؟ قال: عرس رقاش ! قال: من زوجكها ؟ قال: الملك .

فضرب جذيمة بيده على جبهته وأكب على الأرض ندامة وتلهفا ، وخرج عدي على وجهه هاربا فلم ير له أثر ، ولم يسمع له بذكر ، وأرسل إليها جذيمة فقال:


حدثيني وأنت لا تكذبيني     أبحر زنيت أم بهجين!
أم بعبد فأنت أهل لعبد     أم بدون فأنت أهل لدون

فقالت: لا ، بل أنت زوجتني [ امرءا ] عربيا ، معروفا حسيبا ، ولم تستأمرني في نفسي ، ولم أكن مالكة لأمري . فكف عنها وعرف عذرها .

ورجع عدي بن نصر إلى إياد ، فكان فيهم ، فخرج ذات يوم مع فتية متصيدين ، فرمى به فتى منهم بين جبلين فمات .

واشتملت رقاش على حمل ، فولدت غلاما سمته عمرا ، حتى إذا ترعرع عطرته وألبسته وحلته ، وأزارته خاله جذيمة ، فلما رآه أعجب به وأحبه . وكان مع ولده ، فخرج جذيمة متبديا بأهله وولده في سنة ذات خصب ، فضرب لهم أبنية في روضة ذات [ ص: 54 ] زهرة وغدر ، وخرج ولده وعمرو معهم يجتنون الكمأة ، فكانوا إذا أصابوا كمأة جيدة أكلوها ، وإذا أصابها عمرو خبأها في حجزته ، فانصرفوا إلى جذيمة يتعادون وعمرو يقول:


هذا جناي وخياره فيه     إذ كل جان يده إلى فيه

فضمه إليه جذيمة والتزمه وسر بقوله وفعله ، وأمر فجعل له حلي من فضة وطوق من فضة . فكان أول عربي ألبس طوقا ، فكان يسمى عمرا ذا [ الطوق ] . فبينما هو على أحسن حاله استطاره الجن [ فاستهوته ] ، فضرب جذيمة في الآفاق فلم يقدر عليه .

وأقبل رجلان أخوان من بلقين [ بهدايا يريدان جذيمة ] يقال لهما: مالك وعقيل ، فنزلا ببعض الطريق منزلا ومعهما قينة لهما يقال لها: أم عمرو ، فقدمت إليهما طعاما ، فبينما هما يأكلان أقبل فتى عريان شاحب ، قد تلبد شعره وطالت أظفاره وساءت حاله ، فجاء حتى جلس حجرة منهما ، فمد يده إليهما يريد الطعام ، فناولته القينة كراعا [ فأكلها ] ثم مد يده إليها ، فقالت: " تعطي العبد كراعا فيطمع في الذراع " . فذهبت مثلا ، ثم ناولت الرجلين من شراب كان معها فأوكت زقها ، فقال عمرو بن عدي : [ ص: 55 ]


صددت الكأس عنا أم عمرو     وكان الكأس مجراها اليمينا
وما شر الثلاثة أم عمرو     بصاحبك الذي لا تصحبينا

! فقال مالك وعقيل : من أنت يا فتى ؟ فقال: أنا عمرو بن عدي .

فنهضا إليه فضماه وغسلا رأسه ، وقلما أظفاره ، وأخذا من شعره وألبساه مما كان معهما من الثياب ، وقالا: ما كنا لنهدي لجذيمة هدية هي أنفس عنده ، ولا أحب إليه من ابن أخته ، وقد رده الله عليه بنا .

فخرجا به إلى جذيمة بالحيرة ، فسر بذلك سرورا شديدا ، وأرسل به إلى أمه ، فمكث عندها أياما ثم أعادته إليه ، فقال: لقد رأيته يوم ذهب وعليه طوق ، فما ذهب عن عيني ولا قلبي إلى الساعة . فأعادوا عليه الطوق ، فلما نظر إليه قال: " شب عمرو عن الطوق " ، فأرسلها مثلا ، وقال لمالك وعقيل : حكمكما ، فقالا: حكمنا منادمتك ما بقينا وبقيت ، فهما ندمانا جذيمة اللذان ذكرا في أشعار العرب .

وفي ذلك يقول أبو خراش الهذلي الشاعر:


لعمرك ما ملت كبيشة طلعتي     وإن ثوائي عندها لقليل
ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا     نديما صفاء مالك وعقيل

وقال متمم بن نويرة :


وكنا كندماني جذيمة حقبة     من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا     لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

وكان ملك العرب بأرض الجزيرة ومشارف بلاد الشام عمرو بن [ ص: 56 ] ظرب - وقيل: ظريف - بن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر العليقمي .

فجمع جذيمة جموعه من العرب ، فسار إليه يريد غزاته ، فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا ، فقتل عمرو بن ظرب وفضت جموعه ، وانصرف جذيمة بمن معه سالمين غانمين .

فملكت من بعد عمرو ابنته الزباء ، واسمها: نائلة ، وكان جنود الزباء بقايا من العماليق ، والعارية الأولى من قبائل قضاعة ، وكان للزباء أخت يقال لها: زبيبة ، فبنت لها قصرا حسنا على شاطئ الفرات الغربي ، وكانت تشتو عند أختها ، وتربع ببطن النجار ، وتصير إلى تدمر .

فلما أن استجمع لها أمرها واستحكم لها ملكها ، أجمعت لغزو جذيمة الأبرش تطالب بثأر أبيها ، فقالت لها أختها زبيبة - وكانت على الشام والجزيرة من قبل الروم ، وكانت ذات رأي ودهاء: يا زباء ، إنك إن غزوت جذيمة فإنما هو يوم له ما بعده ، إن ظفرت أصبت ثأرك ، وإن قتلت ذهب ملكك ، والحرب سجال ، وعثراتها لا تقال ، وإن كعبك لم يزل ساميا على من ناوأك وساماك ، ولم تري بؤسا ولا غيرا ، ولا تدرين لمن تكون العاقبة ، [ ولا ] على من تكون الدائرة! فقالت لها الزباء : قد أديت النصيحة ، وأحسنت الروية ، وإن الرأي ما رأيت ، والقول ما قلت . [ ص: 57 ]

فانصرفت عما كانت أجمعت عليه من غزو جذيمة ، وأتت أمرها من وجه الخداع والمكر . فكتبت إلى جذيمة تدعوه إلى نفسها وملكها ، وأن يصل بلاده ببلادها ، وكان فيما كتبت إليه: أنها لم تجد ملك النساء إلا [ قبحا ] في السماع ، وضعف السلطان ، وقلة ضبط المملكة ، وإنها لم تجد لملكها موضعا ولا لنفسها كفئا غيره ، فاجمع ملكي إلى ملكك ، وصل بلادي ببلادك ، وتقلد أمري مع أمرك .

فلما انتهى كتاب الزباء إلى جذيمة استخفه ما دعته إليه ، ورغب فيما أطمعته فيه ، وجمع إليه أهل [ الحجى ] والنهى ، من ثقات أصحابه ، وهو بالبقة من شاطئ الفرات ، فعرض عليهم ما دعته إليه الزباء ، واستشارهم ، فأجمع رأيهم على أن يسير إليها ، ويستولي على ملكها ، وكان فيهم رجل يقال له: قصير بن سعد بن عمرو ، وكان سعد قد تزوج أمة لجذيمة ، فولدت له قصيرا ، وكان حازما مقدما عند جذيمة ، فخالفهم فيما أشاروا به ، وقال: " رأي فاتر ، وعدو حاضر " . فذهبت مثلا .

وقال لجذيمة : اكتب إليها ، فإن كانت صادقة فلتقبل إليك ، وإلا لم تمكنها من نفسك ولم تقع في حبالها ، وقد قتلت أباها . فلم يوافق جذيمة ما أشار به عليه قصير ، وقال له: " إنك امرؤ رأيك في الكن لا في الضح " . فذهبت مثلا .

ودعا جذيمة ابن أخته عمرو بن عدي فاستشاره ، فشجعه على السير . فاستخلف [ عمرا ] ، وسار في وجوه أصحابه ، فلما نزل رحبة طوق دعا قصيرا ، فقال: ويحك ما الرأي ؟ قال له: " ببقة تركت الرأي " ، فذهبت مثلا . [ ص: 58 ]

واستقبلته رسل الزباء بالهدايا والألطاف ، فقال: [ يا قصير ] ، كيف ترى ؟ قال: " خطر يسير في خطب كبير " . فذهبت مثلا . وقال له قصير : ستلقاك الخيول ، فإن سارت أمامك فالمرأة صادقة ، وإن أحاطت بك فالقوم غادرون ، فاركب العصا - وكانت فرسا لجذيمة لا تجارى - فإني راكبها ومسايرك [ عليها ] .

فلقيته الخيول فحالت بينه وبين العصا ، فركبها قصير موليا ، فقال: " ويل أمه حزما على ظهر العصا! " فذهبت مثلا . فجرت به إلى غروب الشمس ثم نفقت وقد قطعت أرضا بعيدة ، فبنى عليها برجا يقال له: برج العصا .

ودخل جذيمة على الزباء فقتلته ، ورجع قصير إلى عمرو بن عدي ، فقال: تهيأ ولا تطل دم خالك . قال: " وكيف لي بها وهي أمنع من عقاب الجو ؟ " . فذهبت مثلا . وكانت الزباء سألت كاهنة لها عن ملكها وأمرها ، فقالت: أرى هلاكك بسبب غلام مهين ، وهو عمرو بن عدي ، ولكن حتفك بيدك ، ومن قبله يكون ذلك .

فحذرت من عمرو ، وأخذت نفقا من مجلسها الذي كانت تجلس فيه إلى حصن لها داخل مدينتها ، وقالت: إن فجأني أمر دخلت النفق إلى حصني . ودعت رجلا مصورا ، فجهزته وقالت [ له ]: سر حتى تقدم على عمرو بن عدي متنكرا ، فتخلو بحشمه وتخالطهم ، ثم أثبت عمرو بن عدي معرفة فصوره جالسا وقائما ، وراكبا ومتفضلا ، ومتسلحا بهيئته وثيابه ، فإذا أحكمت ذلك فأقبل إلي . [ ص: 59 ] فانطلق وصنع ما أمرته به ، وأرادت أن تعرف عمرو بن عدي فلا تراه على حال إلا عرفته وحذرته وعلمت علمه . فقال قصير لعمرو بن عدي : اجدع أنفي واضرب ظهري ، ودعني وإياها ، فقال عمرو : ما أنا بفاعل وما أنت لذلك بمستحق مني . فقال قصير : " خل عني إذا وخلاك ذم " . فذهبت مثلا .

وقال ابن الكلبي : كان أبوها اتخذ لها النفق ولأختها ، وكان الحصن لأختها في داخل مدينتها ، قال: فقال له عمرو : فأنت أبصر ، فجدع أنفه وضرب ظهره ، فقالت العرب : " لمكر ما جدع قصير أنفه " . وفي ذلك يقول المتلمس:


ومن حذر الأوتار ما جز أنفه     قصير وخاض الموت بالسيف بيهس

ثم خرج قصير كأنه هارب ، وأظهر أن عمرا فعل به ذلك ، وأنه يزعم أنه مكر بخاله جذيمة ، وغره من الزباء . فسار قصير حتى قدم عليها ، فتسبب في قتلها .

وقال مؤلف الكتاب: وقد رويت لنا هذه القصة على خلاف هذا ، وأن جذيمة طرد الزباء ثم طلب أن يتزوجها ، ونحن نوردها لتعلم قدر الاختلاف .

أنبأنا محمد بن عبد الملك بن خيرون ، أنبأنا أحمد بن علي بن ثابت [ الخطيب ] قال: أخبرنا علي بن الحسين بن موسى العلوي ، قال: حدثنا أبو محمد: سهل بن أحمد الديباجي ، قال: أخبرنا قاسم بن جعفر السراج ، قال: أخبرنا يعقوب بن الناقد ، قال: أخبرنا أحمد بن عمرو بن الفرج ، قال: أخبرنا أبي ، عن يونس بن حبيب النحوي . قال الديباجي : وحدثنا القاضي أبو محمد: عبد الله بن أحمد الربعي ، قال: [ ص: 60 ] حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح ، قال: حدثنا ابن محمد الكلبي ، عن أبيه ، قال:

كان جذيمة بن مالك ملكا على الحيرة وعلى ما حولها من السواد - ملك ستين سنة - وكان به وضح ، وكان شديد السلطان ، قد خافته العرب ، وتهيبه العدو ، فتهيبت العرب أن يقولوا الأبرص ، فقالوا: الأبرش . فغزا مليح بن البراء ، وكان ملكا على الحضر ، وهو الحاجز بين الروم والفرس . وهو الذي ذكره عدي بن زيد في قوله:


وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة     تجبى إليه والخابور

فقتله جذيمة ، وطرد الزباء إلى الشام ، فلحقت بالروم ، وكانت عربية اللسان ، حسنة البيان ، شديدة السلطان ، كبيرة الهمة .

قال ابن الكلبي : ولم تكن في نساء عصرها أجمل منها ، وكان اسمها: فارعة ، وكان لها شعر إذا مشت سحبته وراءها ، وإذا نشرته جللها ، فسميت الزباء .

قال ابن الكلبي : فبعث عيسى ابن مريم بعد قتل أبيها ، فبلغت بها همتها أن جمعت الرجال ، وبذلت الأموال ، وعادت إلى ديار أبيها ومملكته ، فأزالت جذيمة الأبرش عنها ، وابتنت على عراقي الفرات مدينتين متقابلتين من شرقي الفرات وغربيه ، وجعلت بينهما نفقا تحت الفرات ، فكان إذا رهقها عدو أوت إليه وتحصنت به ، وكانت قد اعتزلت الرجال ، فهي عذراء بتول .

وكان بينها وبين جذيمة مهادنة ، فحدث جذيمة نفسه بخطبتها ، فجمع خاصته فشاورهم في ذلك ، وكان له ابن عم يقال له: قصير بن سعد ، وكان عاقلا لبيبا ، وكان خازنه وصاحب أمره وعميد دولته ، فسكت القوم وتكلم قصير فقال: أبيت اللعن أيها الملك ، إن الزباء امرأة قد حرمت الرجال ، فهي [ ص: 61 ] عذراء بتول ، لا ترغب في مال ولا جمال ، ولها عندك ثأر والدم لا ينام ، وإنما تاركتك وهنة وحذارا من بطشك ، والحقد دفين في سويداء القلب ، له كمون ككمون النار في الحجر ، إن أقدحته أورى ، وإن تركته توارى ، وللملك في بنات الأكفاء متسع ، ولهن فيه مقنع ، وقد رفع الله قدرك عن الطمع في من دونك ، وعظم شأنك ، فما أحد فوقك .

فقال جذيمة : يا قصير ، الرأي ما رأيته ، والحزم فيما قلته ، و [ لكن ] النفس تواقة ، وإلى ما تحب وتهوى مشتاقة ، ولكل امرئ قدر لا مفر منه ولا وزر . فوجه إليها خاطبا ، وقال: ائت الزباء فاذكر لها ما يرغبها فيه وتصبو إليه . فجاءها خطيبه ، فلما سمعت كلامه وعرفت مراده ، قالت له: أنعم بك عينا وبما جئت به وله .

وأظهرت له السرور به ، والرغبة فيه ، وأكرمت مقدمه ورفعت موضعه ، وقالت: [ قد كنت ] أضربت عن هذا الأمر خوفا أن لا أجد كفؤا ، والملك فوق قدري ، وأنا دون قدره ، وقد أجبت إلى ما سأل ، ورغبت فيما قال ، ولولا أن السعي في مثل هذا الأمر بالرجال أجمل لسرت إليه ، ونزلت عليه . وأهدت له هدية سنية ، فساقت العبيد ، والإماء ، والكراع ، والسلاح ، والأموال ، والإبل ، والغنم ، وحملت من الثياب والعين والورق .

فلما رجع إليه خطيبه أعجبه ما سمع من الجواب ، وأبهجه ما رأى من اللطف ، فظن أن ذلك بحصول رغبة ، فأعجبته نفسه ، وسار من فوره في من يثق به من خاصته وأهل مملكته ، وفيهم قصير خازنه .

واستخلف على ملكه ابن أخته عمرو بن عدي اللخمي ، وهو أول ملوك الحيرة [ من لخم ] ، وكان ملكه عشرين ومائة سنة ، وهو الذي اختطفته الجن وهو [ ص: 62 ] صبي وردته وقد شب وكبر ، فقالت أمه: ألبسوه الطوق ، فقال خاله جذيمة : " شب عمرو عن الطوق " . فذهبت مثلا .

وسار إلى الزباء ، فلما صار معه نزل فتصيد وأكل وشرب ، واستغنى بالمشورة والرأي من أصحابه ، فسكت القوم وافتتح الكلام قصير بن سعد ، فقال: أيها الملك ، كل عزم لا يؤيد بحزم ، فإلى آخر ما يكون كون فلا يثق به خرف قول لا محصول له ، ولا يعقد الرأي بالهوى فيفسد ، ولا الحزم بالمنى فينفذ ، والرأي عندي للملك أن يعقب أمره بالتثبت ، ويأخذ حذره بالتيقظ ، ولولا أن الأمور تجري بالمقدور لعزمت على الملك عزما بتا أن لا يفعل .

فأقبل جذيمة على الجماعة فقال: ما عندكم أنتم في هذا الأمر ؟ فتكلموا بحسب ما عرفوا من رغبة الملك في ذلك وصوبوا رأيه ، وقووا عزمه ، فقال جذيمة : الرأي مع الجماعة ، والصواب ما رأيتم ، فقال قصير : " أرى القدر سابق بالحذر فلا يطاع لقصير أمر " . فأرسلها مثلا .

وسار جذيمة ، فلما قرب من ديار الزباء نزل فأرسل إليها يعلمها بمجيئه ، فرحبت به ، وأظهرت السرور والرغبة به ، وأمرت أن تحمل إليه الأموال والعلو ، فأتت وقالت لجندها ، وخاصة أهل مملكتها وعامة أهل دولتها: تلقوا سيدكم وملك دولتكم . وعاد الرسول إليه بالجواب بما رأى وسمع ، فلما أراد جذيمة أن يسير ، دعا قصيرا ، فقال: أنت على رأيك ؟ قال: نعم وقد زادت [ بصيرتي فيه ، أفأنت على عزمك ؟

قال: نعم وقد زادت ] رغبتي فيه . فقال قصير : ليس للأمور بصاحب من لم ينظر في العواقب ، وقد يستدرك الأمر قبل فوته ، وفي يد الملك بقية هو بها متسلط على استدراك [ ص: 63 ] الصواب ، فإن وثقت بأنك ذو ملك وسلطان ، وعزة ومكان ، فإنك قد نزعت يدك من سلطانك ، وفارقت عشيرتك ومكانك ، وألقيتها في يدي من لست آمن عليك مكره وغدره ، فإن كنت ولا بد فاعلا ، ولهواك تابعا ، فإن القوم إن يلقوك غدا فرقا وساروا أمامك ، وجاء قوم وذهب قوم ، فالأمر بعد في يدك ، والرأي فيه إليك ، فإن تلقوك زردقا واحدا ، وقاموا لك صفين حتى إذا توسطتهم انقضوا عليك من كل جانب فأحدقوا بك ، فقد ملكوك وصرت في قبضتهم ، وهذه العصا لا تسبق غبارها - وكانت لجذيمة فرس تسبق الطير ، وتجاري الرياح يقال لها: عصا - فإذا كان كذلك فتجلل ظهرها ، فهي ناجية بك إن ملكت ناصيتها ، فسمع جذيمة كلامه ، ولم يرد جوابا ، وسار .

وكانت الزباء لما رجع رسول جذيمة من عندها قالت لجندها: إذا أقبل جذيمة [ غدا ] فتلقوه بأجمعكم وقوموا له صفين من عن يمينه ومن عن شماله ، فإذا توسط جمعكم فتفوضوا عليه من كل جانب حتى تحدقوا به ، وإياكم أن يفوتكم .

وسار جذيمة وقصير عن يمينه ، فلما لقيه القوم زردقا واحدا قاموا له صفين ، فلما توسطهم انقضوا عليه من كل جانب انقضاض الأجدل على فريسته ، فأحدقوا به ، وعلم أنهم قد ملكوه ، وكان قصير يسايره ، فأقبل عليه ، وقال: صدقت يا قصير . فقال قصير : أيها الملك ، " أبطأت بالجواب حتى فات الصواب " . فأرسلت مثلا .

فقال: كيف الرأي الآن ؟ فقال: هذه العصا فدونكها ، لعلها تنجو بك - أو [ ص: 64 ] قال: تنجو بها وهو الأصح - فأنف جذيمة من ذلك ، وسارت به الجيوش ، فلما رأى قصير أن جذيمة قد استسلم للأسر وأيقن بالقتل جمع نفسه ، فصار على ظهر العصا وأعطاها عنانها وزجرها ، فذهبت به تهوي هوي الريح ، فنظر إليه جذيمة وهي تتطاول به .

وأشرفت الزباء من قصرها ، فقالت: ما أحسنك من عروس تجلى علي وتزف إلي . حتى دخلوا [ به ] على الزباء ولم يكن معها في قصرها إلا جوار أبكار أتراب ، وكانت جالسة على سريرها وحولها ألف وصيفة ، كل واحدة لا تشبه صاحبتها في خلق ولا زي ، وهي بينهن كأنها قمر قد حفت به النجوم تزهر ، وأمرت بالأنطاع فبسطت ، وقالت لوصيفاتها: خذوا بيد سيدكن وبعل مولاتكن . فأخذن بيده ، فأجلسنه على الأنطاع بحيث تراه ويراها ، [ وتسمع كلامه ويسمع كلامها ] ، ثم أمرت الجواري فقطعن دواهيه ، ووضعت الطشت تحت يده ، فجعلت دماؤه تشخب في الطشت ، فقطرت قطرة في النطع ، فقالت لجواريها: لا تضيعوا دم الملك ، فقال جذيمة : لا يحزنك دم أراقه أهله .

فلما مات قالت: والله ما وفى دمك ولا شفى قتلك ، ولكنه غيض من فيض . ثم أمرت به فدفن .

وكان جذيمة قد استخلف على مملكته ابن أخته: عمرو بن عدي ، وكان يخرج كل يوم إلى ظهر الحيرة يطلب الخبر ، ويقتفي الأثر من خاله ، فخرج ذات يوم ينظر إلى فارس [ قد أقبل ] تهوي به فرسه هوي الريح ، فقال: أما الفرس ففرس جذيمة ، وأما الراكب فكالبهيمة ، لأمر ما جاءت العصا ، فأشرف عليهم قصير ، فقالوا: ما وراءك ؟ قال: سعى القدر بالملك إلى حتفه رغم أنفي وأنفه ، فاطلب بثأرك من الزباء ، فقال عمرو : [ ص: 65 ] وأي ثأر يطلب من الزباء وهي أمنع من عقاب الجو ، فقال قصير : قد علمت نصحي [ كيف ] كان لخالك ، وكان الأجل رائده ، وإني والله لا أنام عن الطلب بدمه ما لاح نجم وطلعت شمس ، أو أدرك به ثأرا أو تحرم نفسي فأعذر .

ثم أنه عمد إلى أنفه فجدعه ، ثم لحق بالزباء هاربا من عمرو بن عدي ، فقيل لها: هذا قصير ابن عم جذيمة وخازنه وصاحب أمره قد جاءك ، فأذنت له ، فقالت: ما الذي جاء بك يا قصير وبيننا وبينك دم عظيم الخطر ؟ فقال: يا ابنة الملوك العظام ، لقد أتيت فيما يأتي مثلك في مثله ، لقد كان دم الملك يطلبه حتى أدركه ، وقد جئتك مستجيرا بك من عمرو بن عدي ، فإنه اتهمني بخاله وبمشورتي عليه في المسير [ إليك ] ، فجدع أنفي ، وأخذ مالي ، وحال بيني وبين عيالي ، وتهددني بالقتل ، وإني خشيت على نفسي فهربت منه إليك ، وأنا مستجير بك ، ومستند إلى كهف عزك .

فقالت: أهلا وسهلا ، لك حق الجوار ودية المستجير . وأمرت به فأنزل [ وأجريت له الأنزال ] ووصلته وكسته ، وأخدمته وزادت في إكرامه ، فأقام مدة لا يكلمها ولا تكلمه ، وهو يطلب الحيلة عليها ، وموضع الفرصة منها ، وكانت متمنعة بقصر مشيد على باب النفق تعتصم به فلا يقدر أحد عليها .

فقال لها قصير [ يوما ]: إن لي بالعراق مالا كثيرا وذخائر نفيسة مما يصلح للملوك ، فإن أذنت لي بالخروج إلى العراق ، وأعطيتني شيئا أتعلل به في التجارة ، وأجعله سببا إلى الوصول إلى مالي ، أتيتك بما قدرت عليه من ذلك .

فأعطته مالا بعد ما أذنت له ، فقدم العراق وبلاد كسرى ، فأطرفها وألطفها [ ص: 66 ] وسرها ، وبنت له عندها منزلا ، وعاد إلى العراق ثانية ، فقدم بأكثر من ذلك طرفا من الجواهر ، والبز ، والخز ، والقز ، والديباج ، فازداد مكانه عندها ، وازدادت منزلته عندها ، ورغبتها فيه ، ولم يزل قصير يتلطف حتى عرف موضع النفق الذي تحت الفرات ، والطريق إليه .

ثم خرج ثالثة فقدم بأكثر من الأوليين طرائف ولطائف ، فبلغ مكانه [ منها ] وموضعه عندها إلى أن كانت تستعين به في مهمها وملمها ، فاسترسلت إليه وعولت عليه في أمورها كلها . وكان قصير رجلا حسن العقل والوجه ، حصيفا أديبا لبيبا ، فقالت له يوما: أريد أن أغزو البلد الفلاني من أرض الشام ، فاخرج إلى العراق فأتني بكذا وكذا من السلاح والكراع والعبيد والثياب فقال قصير : ولي في بلاد عمرو بن عدي ألف بعير وخزانة من السلاح فيها كذا وكذا ، وما يعلم عمرو بن عدي بها ، ولو علم لأخذها واستعان بها على حربك ، وكنت أتربص به المنون وأنا أخرج متنكرا من حيث لا يعلم ، فآتيك بها مع الذي سألت .

فأعطته من المال ما أراد ، وقالت: يا قصير ، الملك يحسن بمثلك وعلى يد مثلك يصلح أمره ، ولقد بلغني أن أمر جذيمة كان إيراده وإصداره إليك ، وما تقصر يدك عن شيء تناله يدي ، ولا يقعد بك حال تنهض بي .

فسمع كلامها رجل من خاصة قومها ، فقال: أسد خادر وليث زائر ، قد تحفز للوثبة . ولما رأى قصير مكانه منها وتمكنه من قلبها ، قال: الآن طاب المصاع . وخرج من عندها ، فأتى عمرو بن عدي وقال: أصبت الفرصة من الزباء ، فانهض فعجل الوثبة ، فقال له عمرو : قل يسمع ، ومر أفعل ، فأنت طبيب هذه القرحة ، فقال: الرجال والأموال . فقال: حكمك فيما عندنا مسلط . فعمد إلى ألفي رجل من فتاك قومه [ ص: 67 ] وصناديد أهل مملكته ، فحملهم على ألف بعير في الغرائر السود ، وألبسهم السلاح والسيوف والحجف ، وأنزلهم في الغرائر ، وجعل [ رءوس ] المسوح من أسافلها مربوطة من داخل ، وكان عمرو فيهم . وساق الخيل والعبيد والكراع والسلاح والإبل محملة .

فجاءها البشير فقال: قد جاء قصير . ولما قرب من المدينة حمل الرجال في الغرائر متسلحين السيوف والحجف ، وقال: إذا توسطت الإبل المدينة والأمارة بيننا كذا وكذا فاخرطوا الربط . فلما قربت العير من مدينة الزباء في قصرها ، فرأت الإبل تتهادى بأحمالها فارتابت منها ، وقد كان وشي بقصير إليها ، وحذرت منه ، فقالت للواشي [ به إليها ] إن قصيرا اليوم منا ، وهو ربيب هذه النعمة ، وصنيعة هذه الدولة ، وإنما يبعثكم [ على ] ذلك الحسد ، وأن ليس فيكم مثله ، فهالها ما رأت من كثرة الإبل وعظم أحمالها في نفسها [ مع ما عندها ] من قول الواشي به إليها:


أرى الجمال سيرها وئيدا     أجندلا يحملن أم حديدا
[ ص: 68 ] أم صرفانا باردا شديدا     أم الرجال في المسوح سودا

ثم أقبلت على جواريها وقالت: " أرى الموت الأحمر في الغرائر السود " - فذهبت مثلا - حتى إذا توسطت الإبل المدينة وتكاملت ، ألغز إليهم الأمارة ، فاخترطوا رءوس الغرائر ، فوقع إلى الأرض ألفا ذراع بألفي باتر ونادوا: يا لثأر القتيل غدرا .

وخرجت الزباء تمضي تريد النفق ، فسبقها إليه قصير ، فحال بينها وبينه ، فلما رأت أن قد أحيط [ بها ] وملكت التقمت خاتما في يدها تحت فصه سم ساعة ، وقالت: " بيدي لا بيدك يا عمرو " فأدركها عمرو وقصير ، فضرباها بالسيف حتى هلكت ، وملكا مملكتها ، واحتويا على مملكيها ونعمتها ، وخط قصير على جذيمة قبرا ، وضرب عليه فسطاطا ، وكتب على قبره يقول:


ملك تمنع بالعساكر والقنا     والمشرفية عزة ما توصف
فسعت منيته إلى أعدائه     وهو المتوج والحسام المرهف

قال علماء السير: وصار الملك من بعد جذيمة لابن أخته عمرو بن عدي ، وهو أول من اتخذ الحيرة منزلا من ملوك العرب ، وأول من مجده أهل الحيرة في كتبهم من ملوك العرب بالعراق ، وإليه ينسبون ، وهم ملوك آل نصر .

قالوا: عمرت الأنبار خمسمائة سنة وخمسين سنة ، إلى أن عمرت الحيرة في زمن عمرو بن عدي . [ ص: 69 ] وعمرت الحيرة خمسمائة سنة وبضعا وثلاثين سنة إلى أن وضعت الكوفة ، ونزلها أهل الإسلام ، فلم يزل عمرو بن عدي ملكا إلى أن مات وهو ابن مائة وعشرين سنة . قيل: مائة وثماني عشرة سنة .

ومن ذلك في زمن أردشير ، ومن ملوك الطوائف خمس وتسعون سنة .

وفي [ زمن ] ملوك فارس ثلاث وعشرون .

ومن ذلك في زمن أردشير بن بابك أربع عشرة سنة وعشرة أشهر .

وفي زمن سابور بن أردشير ثماني سنين وشهران .

وما زال عقب عمرو بن عدي بعده لهم الملك متصلا على كل من بنواحي العراق وبادية الحجاز من العرب باستعمال ملوك فارس إياهم على ذلك ، واستكفائهم أمر من وليهم من العرب ، إلى أن قتل أبرواز بن هرمز النعمان بن المنذر ، ونقل ما كانت ملوك فارس يجعلونه إليهم إلى غيرهم . والنعمان من أولاد نصر أيضا ، لأنه النعمان بن المنذر بن ماء السماء بن عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة .

قال أبو جعفر بن الطبري : ما زال على ثغر العرب من قبل ملوك الفرس من آل ربيعة إلى أن ولي عمرو بن هند ، ثم ولي بعده [ أخوه ] قابوس بن المنذر ، ثم ولي أربع سنين: من ذلك في زمن أنوشروان ثمانية أشهر ، وفي زمن هرمز ثلاث سنين وأربعة أشهر ، ثم ولي بعده السهرب ، ثم [ ولي ] بعده المنذر أبو النعمان بن المنذر أربع سنين ، ثم بعده النعمان بن المنذر أبو قابوس اثنتين وعشرين سنة: من ذلك في زمن هرمز سبع سنين وثمانية أشهر ، وفي زمن أبرويزا أربع عشرة سنة وأربعة أشهر ، ثم ولي إياس بن قبيصة الطائي تسع سنين ، ولسنة وثمانية أشهر من ولايته بعث رسول [ ص: 70 ] الله صلى الله عليه وسلم ، ثم استخلف أزادية الهمداني سبع عشرة سنة ، ثم استخلف ولي المنذر بن النعمان بن المنذر ثمانية أشهر ، إلى أن قدم خالد بن الوليد الحيرة ، وكان آخر من بقي من آل نصر . فجميع ملوك آل نصر عشرون ملكا ، ملكوا خمس مائة واثنتين وعشرين سنة وثمانية أشهر .

التالي السابق


الخدمات العلمية