صفحة جزء
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وأربعمائة

[فقد الحاكم صاحب مصر ]

فمن الحوادث فيها :

أنه في يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من شوال فقد الحاكم صاحب مصر وكان يواصل الركوب ليلا نهارا ويتصدى له الناس فيقف عليهم ويسمع منهم ، وكان المصريون موتورين منه ، فكانوا يدسون إليه الرقاع [المختومة بالدعاء والسب له ولأسلافه ، والوقوع ] فيه وفي حرمه حتى انتهى فعلهم في ذلك إلى أن عملوا تمثال امرأة من قراطيس بخف وأزوار ونصبوها في بعض الطريق ، وتركوا في يدها رقعة مختومة تتضمن كل لعن وشتيمة ، فلما اجتاز بها لم يشك أنها امرأة ، وأن الرقعة رقعة ظلامة ، فتقدم فأخذها من يدها ففتحها فرأى في أولها ما استعظمه ، فقال : انظروا هذه المرأة من هي ؟ فقيل : إنها تمثال معمول من قراطيس ، فقرأ الرقعة كلها وعاد إلى القاهرة ، ودخل إلى قصره ، وتقدم باستدعاء القواد والعرفاء ، فلما حضروا أمرهم بالمسير إلى مصر وضربها بالنار ونهبها وقتل من ظفروا به [من أهلها ] ، فتوجهوا لذلك ، وعرف المصريون ذلك فقاتلوا عن نفوسهم قتالا بلغوا فيه غاية وسعهم ، ولحق النهب والنار الأطراف والسواحل التي لم يكن في أهلها قوة على امتناع ولا قوة على دفاع ، واستمرت الحرب بين العبيد والرعية ثلاثة أيام والحاكم يركب [كل يوم ] ويشاهد النار ، ويسمع الصياح ويسأل عن ذلك ، فيقال [ ص: 140 ] له : العبيد يحرقون مصر وينهبونها ، والنار تعمل في الموضع الفلاني والموضع الفلاني ، فيظهر التوجع ، ويقول : من أمرهم بهذا لعنهم الله ، فلما كان في اليوم الثالث اجتمع الأشراف والشيوخ في الجوامع ، ورفعوا المصاحف ، وعجوا بالبكاء ، وابتهلوا إلى الله تعالى في الدعاء ، فرحمهم المشارقة والأتراك ، فانحازوا إليهم وقاتلوا معهم ، وأرسلوا إلى الحاكم يقولون :

نحن عبيدك ومماليكك ، وهذا البلد بلدك ، وفيه حرمنا وأولادنا وما علمنا أن أهله جنوا جناية تقتضي سوء المقابلة ، فإن كان هناك باطن لا نعرفه أشعرتنا به وانتظرت علينا إلى أن نخرج أموالنا وعيالنا ، وإن كان ما عليه هؤلاء العبيد مخالفا لرأيك أطلعتنا في معاملتهم بما تعامل به المفسدين ، فأجابهم : بأني ما أردت ذلك ولا أذنت فيه ، وقد أذنت لكم في نصرتهم والإيقاع بمن يتعرض بهم .

وراسل العبيد سرا بأن كونوا على أمركم ، وحمل إليهم سلاحا قواهم به ، فاقتتلوا ، وأعادوا الرسالة إليه : أنا قد عرفنا غرضك إنه إهلاك هذا البلد وما يجوز أن نسلم أنفسنا ، وأشاروا إلى بعض العبيد في قصد القاهرة ، فلما رآهم مستظهرين ركب حماره ووقف بين الفريقين ، وأومأ إلى العبيد بالانصراف ، وسكن الآخرون فقبلوا ذلك وشكروه ، وسكنت الفتنة ، وكان قدر ما أحرق من مصر ثلثها ونهب نصفها ، وتتبع المصريون من أخذ من زوجاتهم وبناتهم ، وابتاعوا من العبيد بعد أن فضحوهن حتى قتل منهن نفوسهن خوفا من عار الفواحش المرتكبة منهم ، ثم زاد ظلم الحاكم وعن له أن يدعي الربوبية ، فصار قوم من الجهال إذا رأوه يقولون له : يا واحدنا يا أحدنا يا محيي يا مميت ، وكان قد أسلم جماعة من اليهود فكانوا يقولون إنا نريد أن نعاود شرعنا الأول فيفسح لهم في الارتداد ، وأوحش أخته بمراسلات قبيحة ، وقال لها : قد وقع إلي أنك تدخل الرجال إليك ، فراسلت قائدا يقال له ابن دواس كان شديد الخوف من الحاكم أن يقتله ، فقالت : إني أريد [أن ] ألقاك إما أن تتنكر لي وتأتيني وإما أن أجيء إليك ، [ ص: 141 ] فجاءت إليه فقبل الأرض بين يديها وخلوا ، فقالت له : لقد جئتك في أمر أحرس نفسي ونفسك ، فقال : أنا خادمك فقالت له : أنت تعلم ما يعتقده أخي فيك ، وإنه متى تمكن منك لم يبق عليك ، وأنا كذلك ، ونحن معه على خطر عظيم ، وقد انضاف إلى ذلك ما قد تظاهر به وهتكه الناموس الذي [قد ] أقامه آباؤنا وزيادة جنونه وحمله نفسه على ما لا يصبر المسلمون على مثله فأنا خائفة أن يثور الناس علينا فيقتلوه ويقتلونا وتنقضي هذه الدولة أقبح انقضاء .

قال : صدقت ، فما الرأي ؟ قالت : تحلف لي وأحلف لك على كتمان ما جرى بيننا من السر ، وتعاضدني على ما فيه الراحة من هذا الرجل . فقال لها : السمع والطاعة .

فتحالفا على قتله ، وأنهما يقيمان ولده مقامه وتكون أنت صاحب جيشه ومديره ، وأنا فلا غرض لي إلا سلامة المهجة فأقطعته ما يحصل مائة ألف ، وقالت : اختر لي عبدين من عبيدك تثق بهما على سرك وتعتمد عليهما في مهمك . فأحضرها عبدين موصوفين بالأمانة والشهامة فاستحلفتهما على كتمان ما تخرج به إليهما ، فحلفا فوهبت لهما ألف دينار ووقعت لهما بإقطاع وقالت : أريد منكما أن تصعدا غدا إلى الجبل فتكمنا فيه ، فإن نوبة الحاكم أن يصعد غدا وليس معه إلا الركابي وصبي ، وينفرد بنفسه ، فإذا قرب منكما خرجتما فقتلتما الصبي ، وسلمت إليهما سكينين من عمل المغاربة ، وقررت ذلك معهما ، وكان الحاكم ينظر في النجوم فنظر في مولده وقد حكم عليه بقطع في هذا الوقت ، وقيل فيه : إنه متى تجاوزه عاش نيفا وثمانين سنة ، فلما كانت تلك الليلة أحضر والدته ، وقال [لها ] : علي في هذه الليلة قطع عظيم ، وكأني بك قد تهتكت وملكت مع أختي فإنني ما يخاف عليك أضر منها فتسلمي هذا المفتاح فهو لهذه الخزانة ، ولي فيها صناديق تشتمل على ثلاثمائة ألف دينار فحوليها إلى [ ص: 142 ] قصرك لتكون ذخيرة لك ، فقبلت الأرض وبكت ، وقالت له : إذا كنت تتصور هذا فارحمني ودع ركوبك في هذه الليلة ، فقال : أفعل وكان من رسمه أن يطوف كل ليلة حول القصر من أول الليل إلى الصباح في ألف رجل ، فقعد تلك الليلة إلى أن مضى صدر من الليل ، ثم ضجر وأحب الركوب فترفقت به والدته وقالت : اطلب النوم يا مولانا ، فنام ثم انتبه [وقد ] بقي من الليل ثلثه ، قال : إن لم أركب وأتفرج خرجت روحي .

فركب وصعد إلى الجبل وليس معه إلا الصبي ، فخرج العبدان فطرحاه إلى الأرض وقطعا يديه وشقا جوفه ولفاه في كساء وحملاه إلى ابن دواس بعد أن قتلا الصبي ، فحمله ابن دواس إلى أخته فدفنته في مجلسها وكتمت أمره وأحضرت الوزير وعرفته الحال واستكتمته واستحلفته على الطاعة ، ورسمت له مكاتبة ولي العهد عن الحاكم ، وكان بدمشق بالمبادرة ، وأنفذت إلى أحد القواد يقيم في الطريق ، فإذا وصل ولي العهد قبض عليه وعدل به إلى تنيس ، وكتبت إلى عامل تنيس عن الحاكم بأن يحمل ما [قد ] اجتمع عنده ، وكان ألف ألف دينار وألفي ألف درهم .

وفقد الناس الحاكم فماجوا في اليوم الثالث وقصدوا الجبل ، فلم يقفوا على أثر ، فعادوا إلى أخته فسألوها عنه ، فقالت : قد كان راسلني قبل ركوبه وأعلمني أنه يغيب سبعة أيام . فانصرفوا على طمأنينة ورتبت ركابيه يمضون ويعودون كأنهم يقصدون موضعا ويقولون لكل من يسألهم فارقناه في الموضع الفلاني وهو عائد يوم كذا ، ولم تزل الأخت تدعو في هذه الأيام وجوه القواد وتستحلفهم وتعطيهم ، وألبست أبا الحسن علي ابن الحاكم أفخر الملابس ، واستدعت ابن دواس وقالت له : المعول في القيام بهذه الدولة عليك ، وتدبيرها موكول إليك ، وهذا الصبي ولدك فينبغي أن تنتهي في الخدمة إلى غاية وسعك ، فقبل الأرض ووعد بالإخلاص في الطاعة ، وأخرجت الصبي وقد [ ص: 143 ] لقبته الظاهر لإعزاز دين الله ، وألبسته تاج المعز جد أبيه ، وأقيمت المآتم على الحاكم ثلاثة أيام ، ورتبت الأمور ترتيبا مهذبا ، وخلعت على ابن دواس خلعا كثيرة وشرفته تشريفا عظيما ، فخرج فجلس معظما ، فلما تعالى النهار خرج نسيم صاحب الستر والسيف ومعه مائة رجل كانوا مختصين بركاب السلطان يحملون سيوفا بين يديه ، وكانوا يتولون قتل من يؤمر بقتله ، فسلموا إلى ابن دواس يكونون بحكمه ، وتقدمت الأخت إلى نسيم أن يضبط أبواب القصر بالخدم ففعل ، وقالت له : اخرج وقف بين يدي ابن دواس ، وقل يا عبيد مولانا ، الظاهر يقول لكم : هذا قاتل مولانا الحاكم وأعملهم بالسيف ومرهم بقتله ، ففعل ثم قتلت جماعة ممن اطلع على سرها فعظمت هيبتها ، وكان عمر الحاكم سبعا وثلاثين سنة ومدة ولايته خمسا وعشرين سنة .

وفي هذه السنة ، ولي أبو تمام بن أبي خازم القضاء بواسط من قبل قاضي القضاة أبي الحسن ابن أبي الشوارب .

وفيها : انحدر سلطان الدولة إلى واسط ، وخلع على أبي محمد بن سهلان الوزير ، وأمره أن يضرب الطبل في أوقات الصلاة ، ثم قبض عليه وكحل بعد ذلك .

ووقع حرب بين السلاطين عند واسط فاشتدت مجاعتهم ، فقطعوا عشرين ألف رأس من النخل فأكلوا جمارها ، ودقوا الأجذاع واستفوها و [أكلوا ] البغال والكلاب ، وبيع الكر الحنطة بألف دينار قاشانية ، وبطل الحج في هذه السنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية