صفحة جزء
فصل

وكان لبهرام ولد قد رسمه للأمر بعده ، فرآه ناقص الهمة ، فوكل من يؤدبه .

أخبرنا محمد بن ناصر قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا أبو القاسم التنوخي قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحيم المازني قال: أخبرنا أبو علي الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدثنا عيسى بن محمد أبو ناظرة السدوسي قال: حدثني [ ص: 101 ] قبيصة بن محمد المهلبي قال: أخبرني اليمان بن عمرو - مولى ذي الرئاستين - قال: كان ذو الرئاستين يبعثني ويبعث أحداثا من أحداثه إلى شيخ بخراسان له أدب وحسن معرفة بالأمور ، ويقول لنا: تعلموا منه الحكمة ، فإنه حكيم ، فكنا نأتيه ، فإذا انصرفنا من عنده سألنا ذو الرئاستين ، فاعترض ما حفظناه فنخبره به ، فصرنا ذات يوم إلى الشيخ فقال لنا: أنتم أدباء ، وقد سمعتم الحكمة ، ولكم جدات ونعم ، فهل فيكم عاشق ؟ فقلنا: لا . فقال: اعشقوا فإن العشق مطلق اللسان العي ، ويفتح حيلة البليد والمختل ، ويبعث على التنظف وتحسين الثياب ، وتطييب المطعم ، ويدعو إلى الحركة والذكاء وشرف الهمة ، وإياكم والحرام .

فانصرفنا من عنده إلى ذي الرئاستين ، فسألنا عما أفدنا يومنا ذلك ، فهبنا أن نخبره ، فعزم علينا ، فقلنا له إنه أمرنا بكذا وكذا ، وقال لنا كذا وكذا . قال: صدق والله ، تعلمون من أين أخذ هذا ؟ قلنا: لا . قال ذو الرئاستين : إن بهرام جور كان له ابن ، وكان قد رسمه للأمر بعده ، فنشأ الفتى ناقص الهمة ، ساقط المروءة ، خامل النفس ، سيئ الأدب ، فغمه ذلك ، فوكل به المؤدبين والحكماء ومن يلازمه ويعلمه ، وكان يسألهم عنه فيحكون ما يغمه من سوء فهمه وقلة أدبه ، إلى أن سأل بعض مؤدبيه يوما فقال له المؤدب: قد كنا نخاف سوء أدبه فحدث من أمره ما صرنا إلى اليأس من صلاحه . [ ص: 102 ]

قال: وما ذاك الذي قد حدث ؟ قال: رأى ابنة فلان المرزبان فعشقها حتى غلبت عليه ، وهو لا يهذي إلا بها ، ولا يتشاغل إلا بذكرها فقال بهرام : الآن رجوت فلانة ، ثم دعا بأبي الجارية فقال: إني مسر إليك سرا فلا يعدونك ، فضمن له سره فأعلمه أن ابنه قد عشق ابنته ، وأنه يريد أن ينكحها إياه ، وأمره أن يأمرها بإطماعه في نفسها ومراسلته من غير أن يراها وتقع عيناه عليها ، فإذا استحكم طمعه فيها تجنت عليه وهجرته ، فإن استعتبها أعلمته أنها لا تصلح إلا لملك ، ومن همته همة الملوك ، وأنه يمنعها من مواصلته أنه لا يصلح للملك ، ثم ليعلمه خبرها وخبره . ولا يطلعها على ما أسر إليه . فقبل أبوها ذلك منه .

ثم قال للمؤدب الموكل بتأديبه: خوفه بي ، وشجعه على مراسلة المرأة . ففعل ذلك ، وفعلت المرأة ما أمرها به أبوها ، فلما انتهت إلى التجني عليه ، وعلم الفتى السبب الذي كرهته لأجله ، أخذ في الأدب ، وطلب الحكمة والعلم والفروسية والرماية ، وضرب الصوالجة حتى مهر في ذلك ، ثم رفع إلى أبيه أنه يحتاج من الدواب والآلات والمطاعم والملابس والندماء إلى فوق ما يقدر .

فسر الملك بذلك [ وأمر له به ] فدعا مؤدبه فقال: إن الموضع الذي وضع به ابني نفسه من حب هذه المرأة لا يزري به ، فتقدم إليه أن يرفع إلي أمرها ، ويسألني أن أزوجه إياها . ففعل ، فرفع الفتى ذلك إلى أبيه ، فدعا بأبيها فزوجها إياه ، وأمر بتعجيلها ، وقال: إذا اجتمعت أنت وهي فلا تحدث شيئا حتى أصير إليك . فلما اجتمعا صار إليه فقال: يا بني ، لا يضعن منها عندك مراسلتها إياك ، وليست في حبالك ، فإني أنا أمرتها بذلك ، وهي أعظم الناس منة عليك بما دعتك إليه من طلب الحكمة والتخلق بأخلاق [ ص: 103 ] الملوك حتى بلغت الحد الذي تصلح معه للملك من بعدي ، فزدها من التشريف والإكرام بقدر ما يستحق منك . ففعل الفتى ذلك ، وعاش مسرورا بالجارية ، وعاش أبوه مسرورا به ، وأحسن ثواب أبيها ، فرفع مرتبته وشرفه بصيانته سره وطاعته إياه ، وأحسن جائزة المؤدب بامتثاله ما أمره به ، وعقد لابنه على الملك بعده .

قال اليمان مولى ذي الرئاستين : ثم قال لنا ذو الرئاستين : سلوا الشيخ الآن لم حملكم على العشق . فسألنا فحدثنا بحديث بهرام جور وابنه

التالي السابق


الخدمات العلمية