صفحة جزء
ثم دخلت سنة خمسين وأربعمائة

فمن الحوادث فيها:

أنه وقع في يوم الثلاثاء سادس عشر المحرم برد كبار ، وهلك كثير من الغلات ، وزنت منه واحدة [بصريفين] فكانت نيفا وثلاثين درهما ، وزادت دجلة هذا اليوم خمسة عشر ذراعا .

ثم في يوم السبت رابع عشر صفر ، وقع برد بالنهروان وما يقاربها من السواد كبيض الدجاج ، فأهلك الغلات ، وقتل جماعة من الأكراد ، ووقعت واحدة منه على رأس رجل ففتحت رأسه ، وضربت أخرى رأس فرس فرمى راكبه وشرد .

وزاد العبث من أصحاب السلطان ، فكانوا يأخذون عمائم الناس ، حتى إنه عبر في جمادى الآخرة أبو منصور بن يعقوب إلى نقيب العلويين ومعه أبو الحسين بن المهتدي ، [فلما بلغوا إلى باب الكرخ أخذت عمامة ابن المهتدي] فأسرعت العامة إلى أخذها ، فاستردوها ، وأخذت بعد ذلك بيوم عمامة أبي نصر بن الصباغ وطيلسانه .

[ ص: 30 ]

وفي شهر رمضان: تجدد للعوام المتدينين المتسمين بأصحاب عبد الصمد إلزام أهل الذمة بلبس الغيار ، وحضر الديوان رجل هاشمي منهم يعرف بابن سكرة ، فخاطب رئيس الرؤساء ابن المسلمة في ذلك ، وذكر ما عليه أهل الذمة من الانبساط ، وكلمه بكلام فيه غلظة فأغاظه ، فكتب إلى الخليفة بذلك فخرج ما قوى أمر ابن سكرة ، وكان أبو علي بن فضلان اليهودي كاتب خاتون ، فأمره ابن المسلمة بالتأخر في داره ، وأن يتقدم إلى اليهود وأهل المعايش بمثل ذلك ، وأمر ابن الموصلايا النصراني كاتب الديوان بمثل ذلك ، فانقطعوا عن المعاملات ، وتأخر الكتاب والجهابذة عن الديوان ، فبان للخليفة باطن الأمر فتشدد فيه ، ولم يجد ابن المسلمة مساغا لما يريد ، فصار أهل الذمة ينسلون ويخرجون إلى أشغالهم .

وفي ثامن شوال: نقب جامع المدينة ، وأخذت منه الأعلام السود والتستر وما وجد .

وفي ثامن عشر شوال: بين المغرب والعشاء كانت زلزلة عظيمة [لبثت ساعة] عظيمة ، ولحق الناس منها خوف شديد ، وتهدمت دور كثيرة ، ثم وردت الأخبار أنها اتصلت من بغداد إلى همذان ، وواسط ، وعانة ، وتكريت ، وذكر أن أرحاء كانت تدور فوقفت ، وبعد هذه الزلزلة بشهر أخرج القائم من داره ، وجرت محن عظيمة .

وكان السلطان طغرلبك قد خرج إلى الموصل ثم توجه إلى نصيبين ومعه أخوه إبراهيم [ينال ، فخالف عليه أخوه إبراهيم] ، وانصرف بجيش عظيم معه يقصد الري وكان البساسيري راسل إبراهيم [يشير عليه] بالعصيان لأخيه ، ويطمعه بالتفرد [ ص: 31 ] بالملك ، ويعده معاضدته ، فسار طغرلبك في أثر أخيه إبراهيم ، وترك العساكر وراءه ، فتفرقت عنه ، غير أن وزيره المعروف بالكندري ، وربيبه أنوشروان ، وزوجته خاتون وردوا بغداد بمن بقي معهم من العسكر في شوال هذه السنة ، وانتشر الخبر باجتماع طغرلبك مع أخيه إبراهيم بهمذان [وأن إبراهيم استظهر على طغرلبك وحصر في همذان] فعزمت خاتون وابنها أنوشروان ، والكندري على المسير إلى همذان لإنجاد طغرلبك ، فاضطرب أمر بغداد اضطرابا شديدا ، وأرجف المرجفون باقتراب البساسيري ، فبطل عزم الكندري عن المسير ، فهمت خاتون بالقبض عليه وعلى ابنها لتركهما مساعدتها على إنجاد زوجها ، فنفرا إلى الجانب الغربي من بغداد ، وقطعا الجسر وراءهما ، وانتهبت دارهما ، واستولى من كان مع خاتون من الغز على ما تضمنتها من العين والثياب والسلاح ، وغير ذلك من صنوف الأموال ، ونفذت خاتون بمن انضوى إليها ، وهم: جمهور العسكر متوجهة نحو همذان ، وخرج الكندري وأنوشروان يؤمان طريق الأهواز ، فلما خلا البلد من العساكر انزعج الناس ، وقيل للناس: من أراد أن يخرج فليخرج . فبكى الناس والأطفال ، وعبر كثير من الناس إلى الجانب الغربي ، فبلغت المعبرة دينارا ودينارين وثلاثة .

وطار في تلك الليلة على دار الخليفة [نحو] عشر بومات مجتمعات يصحن صياحا مزعجا ، فقال أبو الأغر بن مزيد رئيس الرؤساء: ليس عندنا من يرد ، والرأي خروج الخليفة عن البلد إلى البلاد السافلة ، فأجاب الخليفة ، ثم صعب عليه مفارقة داره ، وامتنع وأظهر رئيس الرؤساء قوة النفس لأجل موافقة الخليفة ، وجمعوا من العوام من يصلح للقتال ، وركب رئيس الرؤساء وعميد العراق إلى دار المملكة ، وأخذا ما يصلح من السلاح وضربا في الباقي النار ، فلما كان يوم الجمعة السادس من ذي القعدة تحقق الناس كون البساسيري بالأنبار ، ونهض الناس إلى صلاة الجمعة بجامع [ ص: 32 ] المنصور ، فلم يحضر الإمام فأذن المؤذنون ونزلوا ، فأخبروا أنهم رأوا عسكر البساسيري حذاء شارع دار الرقيق ، وجاء العسكر ، وصلى الناس الظهر بغير خطبة .

ثم ورد في السبت نحو مائتي فارس ، ثم دخل البساسيري بغداد يوم الأحد ثامن ذي القعدة ومعه الرايات المصرية ، فضرب مضاربه على شاطئ دجلة ، فتلقاه أهل الكرخ ، فوقفوا في وجه فرسه وتضرعوا إليه أن يجتاز عندهم ، فدخل الكرخ وخرج إلى مشرعة الروايا ، فخيم بها ، وكان على رأسه أعلام عليها مكتوب: الإمام المستنصر بالله أبو تميم معد أمير المؤمنين ، وكان قد جمع العيارين وأهل الرساتيق ، وأطمعهم في نهب دار الخلافة ، والناس إذ ذاك في ضر ومجاعة ، ونزل قريش بن بدران في نحو مائتي فارس على مشرعة باب البصرة ، فلما استقر بالقوم المنزل ركب عميد العراق من الجانب الشرقي في العسكر وحواشي الدولة والهاشميين والعوام والعجم إلى آخر النهار ، فلم يجابهوا عسكر البساسيري بشيء ، ونهبت دار قاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني ، وهلك أكثر السجلات والكتب الحكمية ، فبيعت على العطارين ، ونهبت دور المتعلقين بالخليفة ، ونهب أكثر باب البصرة بأيدي أهل الكرخ؛ تشفيا لأجل المذهب ، وانصرف الباقون عراة ، فجاءوا إلى سوق المارستان ، وقعدوا على الطريق ومعهم النساء والأطفال ، وكان البرد حينئذ شديدا ، وعاود أهل الكرخ الأذان "بحي على خير العمل" وظهر فيهم السرور الكثير ، وعملوا راية بيضاء ونصبوها وسط الكرخ ، وكتبوا عليها اسم المستنصر بالله ، وأقام بمكانه ، والقتال يجري في السفن بدجلة .

التالي السابق


الخدمات العلمية