صفحة جزء
[الدعاء لصاحب مصر في جامع المنصور]

فلما كان يوم الجمعة الثالث عشر من ذي القعدة: دعي لصاحب مصر في جامع المنصور ، وزيد في الأذان "حي على خير العمل" وشرع البساسيري في إصلاح الجسر ، فعقده بباب الطاق ، وعبر عسكره عليه فنزلوا الزاهر ، وحضرت الجمعة يوم العشرين من ذي القعدة فدعي لصاحب مصر بجامع الرصافة ، وخندق الخليفة حول داره ونهر معلى خنادق ، وحفرت آبار في الحلبة ، وغطيت حتى يقع فيها من يقاتل ، وبنيت أبراج على سور دار الخليفة ، وخرج رئيس الرؤساء ، فوقف دون باب الحلبة يفرق النشاب ، ثم فتح الباب فاستجرهم البساسيري ، ثم كر عليهم فانهزموا ، وامتلأ باب الخليفة بالقتلى ، وأجفل رئيس الرؤساء إلى دار الخليفة ، فهرب أهل الحريم ، وعبروا [ ص: 33 ] إلى الجانب الغربي ، ونهب العوام من نهر معلى ، وديوان الخاص ما لا يحصى ، وأحرقوا الأسواق ، فركب الخليفة لابسا للسواد ، على كتفه البردة ، وعلى رأسه اللواء ، وبيده سيف مجرد ، وحوله زمرة من الهاشميين والجواري حاسرات منشرات ، معهن المصاحف على رءوس القصب ، وبين يديه الخدم بالسيوف المسلولة ، فوجد عميد العراق قد استأمن إلى قريش بن بدران ، وكان قريش قد ظافر البساسيري ، وأقبل معه ، فصعد الخليفة إلى منظرة له ، واطلع أبو القاسم ابن المسلمة وصاح بقريش: يا علم الدين ، أمير المؤمنين يستدنيك . فدنا فقال له: قد آتاك الله رتبة لم ينلها أمثالك ، فإن أمير المؤمنين يستذم منك على نفسه وأهله وأصحابه بذمام الله تعالى وذمام رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذمام العرب ، فقال له قريش: قد أذم الله تعالى له . فقال: ولمن معه؟ قال: نعم . وخلع قلنسوته من تحت عمامته فأعطاها الخليفة ذماما فتسرح ابن المسلمة إليهم من الحائط ، ونزل الخليفة ففتح الباب المقابل لباب الحلبة وخرج ، فقبل قريش الأرض بين يديه دفعات ، فبلغ البساسيري ذلك فراسل ، وقال: أتذم لهما وقد استقر بيني وبينك ما استحلفتك عليه؟ وكانا قد تحالفا أن لا ينفرد أحدهما بأمر دون الآخر ، وأن يكون جميع ما يتحصل من البلاد والأموال بينهما . فقال له قريش: ما عدلت عما استقر بيننا ، وعدوك هو ابن المسلمة فخذه ، وأنا آخذ الخليفة بإزائه . فقنع بذلك ، وحمل ابن المسلمة إلى البساسيري ، فلما رآه قال: مرحبا بمدفع الدول ، ومهلك الأمم ، ومخرب البلاد ، ومبيد العباد . فقال له: أيها الأمير العفو عند المقدرة . فقال: قد قدرت فما عفوت ، وأنت تاجر وصاحب طيلسان ، ولم تستبق من الحرم والأطفال والأجناد ، فكيف أعفو عنك وأنا صاحب سيف ، وقد أخذت أموالي ، وعاقبت حرمي ، ونفيتهم في البلاد ، وشتتني ودرست دوري ، ولكن هذا أيضا من قصورك الفاسد ، وعقلك الناقص .

واجتمع العامة فسبوه وهموا به ، فأخذه البساسيري يسير إلى جنبه خوفا عليه [ ص: 34 ] من العامة ، ولم يزل يوبخه وهو يعتذر ، وحل الركابية حزام البرذون الذي [كان] تحته ليسقط فيتمكن العامة من قتله ، فسقط فوقف البساسيري يذب عنه إلى أن أركبه ، ومضى به إلى الخيمة ، فقيده ووكل به ، وضرب ضربا كثيرا ، وقيد .

ثم ظفر بالسيدة خاتون زوجة الخليفة فأكرمها وسلمها إلى أبي عبد الله بن جردة ومضى الخليفة إلى المعسكر ، وقد ضرب له قريش خيمة إزاء بيته بالجانب الشرقي ، فدخلها ولحقه قيام الدم ، وأذم قريش لابن جردة ابن يوسف ، وكان ابن جردة قد ضمن لقريش لأجل داره ومن التجأ إليها من التجار عشرة آلاف دينار ، ونهبت العوام دار الخليفة ، وأخذوا منها ما يتعذر حصره من الديباج والجواهر واليواقيت ، وأحرقوا رباط أبي سعد الصوفي ، ودار ابن يوسف ، ثم نودي برفع النهب ، وحمل البساسيري الطيار إلى عسكره ، ثم نقله إلى الحريم الظاهري ، وعليه المطارد البيض .

فلما جاء يوم الجمعة الرابع من ذي الحجة لم يخطب بجامع الخليفة ، وخطب في سائر الجوامع لصاحب مصر .

وفي هذا اليوم انقطعت دعوة الخليفة من بغداد ، وجرى بين البساسيري وقريش بن بدران في أمر الخليفة من التجاذب ما أدى إلى نقله عن بغداد ، وأن لا يكون في يد أحدهما ، وتسليمه إلى بدوي يعرف بمهارش صاحب حديثة عانة ، واعتقاله فيها إلى أن يتقرر لهما عزم ، فعرف الخليفة ذلك فراسل قريشا بالمجيء إليه فلم يفعل ، فقام ومشى إلى خيمته فدخل فعلق بذيله وقال له: ما عرفت ما استقر العزم عليه من إبعادي عنك وإخراجي عن يديك ، وما سلمت نفسي إليك إلا لما أعطيتني الذمام الذي يلزمك الوفاء به ، وقد دخلت الآن إليك ووجب لي عليك ذمام ، فإني عليك ، فالله الله في نفسي ، فمتى أسلمتني أهلكتني وضيعتني ، وما ذاك معروف في العرب .

فقال: ما ينالك سوء ، ولا يلحقك ضيم غير أن هذه الخيمة ليست دار مقام مثلك ، [ ص: 35 ] وأبو الحارث لا يؤثر مقامك في هذا البلد ، وأنا أنقلك إلى الحديثة ، وأسلمك إلى مهارش ابن عمي ، وفيه دين ، فلا تخف ، واسكن إلى مراعاتي لك وعد إلى مكانك .

فلما يئس منه قام عنه وهو يقول: لله أمر هو بالغه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

وعبر قريش ليلة الأربعاء التاسع من ذي الحجة إلى الجانب الغربي ، وضرب خيمة بقرب جامع المنصور ، وحمل الخليفة إلى المشهد بمقابر قريش ، وقال له: تبيت الليلة فيها . فامتنع وقال: هؤلاء العلويون الذين بها يعادوني . فألزم الدخول ، وبات ليلته في بعض الترب ، وحضر من الغد جماعة من أصحاب البساسيري وأصحاب قريش ، فتسلموه من موضعه ، وأقعدوه في هودج على جمل ، وسيروه إلى الأنبار ، ثم إلى حديثة عانة على الفرات ، وكان صاحب الحديثة مهارش البدوي حسن الطريقة ، فكان يتولى خدمة الخليفة ، ولما بلغ الخليفة الأنبار شكا وصول البرد إلى جسمه ، فأخرج شيخ من مشايخ الأنبار يعرف: بابن مهدويه جبة برد ، فيها قطن ، ومقيارا ، ولحافا ، وكتب الخليفة من هناك رقعة إلى بغداد يلطف فيها بالبساسيري وقريش ، يدعوهما إلى إعادته إلى بغداد ، وإحسان العشرة ، ويحلف بالأيمان المؤكدة على براءة ساحته من جميع ما نسب إليه ، فلم يقع الالتفات إليها ، ولا أجيب عنها ، فأقام الخليفة بالحديثة .

وذكر عبد الملك بن محمد الهمذاني عن بعض خواص القائم أنه قال: لما كنت بحديثة عانة قمت في بعض الليالي للصلاة ، ووجدت في قلبي حلاوة المناجاة ، فدعوت الله تعالى فيما سنح ، ثم قلت: اللهم أعدني إلى وطني ، واجمع بيني وبين أهلي وولدي ، ويسر اجتماعنا ، وأعد روض الأنس زاهرا ، وربع القرب عامرا ، فقد قل العزاء ، وبرح الخفاء ، فسمعت قائلا على شاطئ الفرات يقول [بأعلى صوته] نعم نعم ، فقلت: هذا رجل يخاطب آخر ، ثم أخذت في السؤال والابتهال ، فسمعت ذلك الصائح يقول: إلى الحول إلى الحول . فعلمت أنه هاتف أنطقه الله تعالى بما جرى الأمر عليه ، فكان خروجه من داره حولا كاملا خرج في ذي القعدة ورجع في ذي القعدة .

[ ص: 36 ]

وروى محمود بن الفضل الأصبهاني أن القائم كتب في السجن دعاء وسلمه إلى بدوي ، وأمره أن يعلقه على الكعبة : "إلى الله العظيم من عبده المسكين ، اللهم إنك العالم بالسرائر ، والمحيط بمكنونات السرائر ، اللهم إنك غني بعلمك واطلاعك على أمور خلقك عن إعلامي بما أنا فيه ، عبد من عبادك قد كفر بنعمتك وما شكرك ، وأبقى العواقب ، وما ذكرها ، أطغاه حلمك ، وتجبر بأناتك حتى تعدى علينا بغيا ، وأساء إلينا عتوا وعدوانا ، اللهم قل الناصرون لنا ، واغتر الظالم ، وأنت المطلع العالم ، والمنصف الحاكم ، بك نعتز عليه ، وإليك نهرب من يديه ، فقد تعزز علينا بالمخلوقين ونحن نعتز بك يا رب العالمين ، اللهم إنا حاكمناه إليك ، وتوكلنا في إنصافنا منه عليك ، وقد رفعت ظلامتي إلى حرمك ، ووثقت في كشفها بكرمك ، فاحكم بيني وبينه وأنت خير الحاكمين ، وأرنا به ما نرتجيه؛ فقد أخذته العزة بالإثم ، فاسلبه عزه ، ومكنا بقدرتك من ناصيته ، يا أرحم الراحمين .

فحملها البدوي ، وعلقها على الكعبة ، فحسب ذلك اليوم فوجد أن البساسيري قتل وجيء برأسه بعد سبعة أيام من التاريخ .

ومن شعر القائم الذي قاله في الحديثة:


خابت ظنوني فيمن كنت آمله ولم يخب ذكر من واليت في خلدي     تعلموا من صروف الدهر كلهم
فما أرى أحدا يحنو على أحد

وقال أيضا:


ما لي من الأيام إلا موعد     فمتى أرى ظفرا بذاك الموعد
يومي يمر وكلما قضيته     عللت نفسي بالحديث إلى غد
أحيا بنفس تستريح إلى المنا     وعلى مطامعها تروح وتغتدي

وأما حديث البساسيري: فإنه ركب يوم الخميس عاشر ذي الحجة من سنة خمسين إلى المصلى في الجانب الشرقي وعلى رأسه الألوية والمطارد المصرية ، وعيد ونحر ، وبين يديه أبو منصور بن بكران حاجب الخليفة على عادته في ذاك ، وكان قد أمنه [ ص: 37 ] ورد أبا الحسين بن المهتدي إلى منبره بجامع المنصور ، ولبس الخطباء والمؤذنون الثياب البياض ، ونقل العسكر إلى مشرعة المارستان في الجانب الغربي ، وضرب دنانير سماها المستنصرية ، وكان عليها من فرد جانب: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، محمد رسول الله ، علي ولي الله . ومن الجانب الآخر: "عبد الله ووليه الإمام أبو تميم معد المستنصر بالله أمير المؤمنين" وكان يقبض على أقوام يغرقهم بالليل ، وغرق جماعة عزموا على الفتك به ، وخرج الناس من الحريم ودار الخلافة ، حتى لم يبق لها إلا الضعيف ، وخلت الدور .

وفي الاثنين لليلتين بقيتا من ذي الحجة: أخرج أبو القاسم ابن المسلمة من محبسه بالحريم الظاهري مقيدا ، وعليه جبة صوف وطرطور من لبد أحمر ، وفي رقبته مخنقة من جلود كالتعاويذ ، وأركب جملا ، وطيف به في محال الجانب الغربي ، ووراءه من يصفعه بقطعة من جلد ، وابن المسلمة يقرأ: قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء [ وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء ] [3: 26] الآية ، وشهر في البلد ، ونثر عليه أهل الكرخ لما اجتاز بهم خلقان المداسات ، وبصقوا في وجهه ، ولعن وسب في جميع المحال ، ووقف بإزاء دار الخليفة ، ثم أعيد إلى المعسكر ، وقد نصبت له خشبة بباب خراسان ، فحط من الجمل ، وخيط عليه جلد ثور قد سلخ في الحال ، وجعلت قرونه على رأسه ، وعلق بكلابين [من] حديد [في كتفيه] واستقي في الخشبة حيا ، فقال لهم: قولوا للأجل قد بلغك الله أغراضك مني [ ص: 38 ] فاصطنعني لتنظر خدمتي ، وإن قتلتني فربما جرى من سلطان خراسان ما يهلك به البلاد والعباد . فسبوه واستقوه [ولبث] إلى آخر النهار يضطرب ، ثم مات .

وكان البساسيري قد أمر بترك الكلابين في ترقوته ليبقى حيا أياما ، يشاهد حاله ، وأمر أن يطعم كل يوم رغيفين ليحفظ نفسه ، فخاف من تولى أمره أن يعفو عنه البساسيري ، فضرب الكلابين في مقتله . فقال [عند موته]: الحمد لله الذي أحياني سعيدا وأماتني شهيدا .

ثم أفرج عن قاضي القضاة الدامغاني بعد أن قرر عليه ثلاثة آلاف دينار ، فصحح منها سبعمائة ، وأمسك البساسيري عن مطالبة الباقي .

ثم إن السلطان طغرلبك خرج من همذان وهزم عسكر أخيه .

وفي هذه السنة: ولي أبو عبد الله بن أبي طالب نقابة الطالبيين .

وفيها: عصى علي بن أبي الخير بالبطائح ، وكان متقدم بعض نواحيها ، فكسر جيش طغرلبك ومعهم عميد العراق أبو نصر .

التالي السابق


الخدمات العلمية