فصل 
ثم ملك ابنه كسرى أنوشروان بن قباذ بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور   . وولد 
أنوشروان  باسعراس  ، وهي من كور 
نيسابور   . 
فاستقبل الملك بجد وسياسة وحزم ، ونظر في سيرة 
أردشير  ، فأخذ نفسه بذلك ، وبحث في سياسات الأمم فاختار ما رضيه ، وفرق رئاسة البلاد بين جماعة ، وقوى المقاتلة بالأسلحة والكراع ، وارتجع بلادا كانت في [ مملكة 
الفرس  بلغه أن طائفة من 
العرب  أغارت على بعض حدود ] السواد من ملكه ، فأمر بحفر النهر المسمى بالحاجز ، وإعادة المناظر والمسالح ، على ما ذكرنا في أخبار 
ذي الأكتاف  ، وعرف الناس منه رأيا وحزما وعلما وعقلا وبأسا مع رأفة ورحمة . 
فلما عقد التاج على رأسه دخل عليه العظماء والأشراف ، فدعوا له ، فقام خطيبا ،  
[ ص: 109 ] فبدأ بذكر نعمة الله على خلقه [ عند خلقه ] إياهم ، وتوكله بتدبير أمورهم ، وتقدير أقواتهم ومعايشهم ، ثم أعلم الناس بما ابتلوا به من ضياع أمورهم ، وإمحاء دينهم ، وفساد حالهم في أولادهم ومعايشهم ، وأعلمهم أنه ناظر فيما يصلح ذلك ويحسمه . 
[ ثم أمر ] برءوس 
المزدكية  فضربت أعناقهم ، وإبطال ملة 
زرادشت  التي كان ابتدعها في المجوسية في زمان 
بشتاسب  ، وقد سبق ذكر ذلك كله ، وكان ممن دعا الناس إليها 
مزدك   . 
ولما ولي 
أنوشروان  دخل عليه 
مزدك  والمنذر بن ماء السماء  فقال 
أنوشروان   : قد كنت أتمنى أن أملك فأستعمل هذا الرجل الشريف ، وأتمنى أن أقتل هؤلاء الزنادقة ، فقال 
مزدك   : أو تستطيع أن تقتل الناس جميعا ؟ فقال: وإنك هاهنا يا ابن الزانية ، والله ما ذهب نتن ريح جوربك من أنفي منذ قبلت رجلك إلى يومي هذا . وأمر بقتله وصلبه . 
وقتل من الزنادقة ما بين 
جازر  إلى 
النهروان  وإلى 
المدائن  في ضحوة واحدة مائة ألف زنديق وصلبهم ، وقسمت أموالهم في أهل الحاجة . وقتل جماعة ممن دخل على الناس في أموالهم ، ورد الأموال إلى أهلها ، وأمر بكل مولود اختلف فيه عنده أن يلحق بمن هو منهم ، إذا لم يعرف أبوه ، وأن يعطى نصيبا من مال الرجل الذي  
[ ص: 110 ] يسند إليه إذا قبله الرجل ، وبكل امرأة غلبت على نفسها أن يؤخذ الغالب لها حتى يغرم لها مهرها ، ثم تخير المرأة بين الإقامة عنده ، وبين التزويج بغيره ، إلا أن يكون لها زوج أول فترد إليه . 
وأمر بكل من كان أضر برجل في ماله أو ركب مظلمة أن يؤخذ منه الحق ، ثم يعاقب ، وأمر بعيال ذوي الأحساب الذين مات قيمهم فكتبوا له ، فأنكح بناتهم الأكفاء ، وجعل جهازهم من بيت المال ، وأنكح نساءهم من بيوتات الأشراف وأغناهم ، وخير نساء والده أن يقمن مع نسائه فيواسين ، أو يبتغي لهن أكفاءهن من البعولة ، وأمر بكري الأنهار وحفر القني ، وإسلاف أصحاب العمارات وتقويتهم ، وبإعادة كل جسر قطع ، أو قنطرة كسرت ، أو قرية خربت أن يرد ذلك إلى أحسن ما كان عليه من الصلاح . 
وتفقد الأساورة فقواهم بالدواب والعدة ، ووكل ببيوت النيران ، وبنى في الطرق القصور والحصون ، وتخير الحكام والعمال ، وتقدم إلى من ولي منهم أبلغ تقدم ، وبعث رجلا من الحكماء إلى 
الهند  فاستنسخ له كتاب " كليلة ودمنة " طلبا لما فيه من الحكمة ، فلما استوثق له الملك ودانت له البلاد سار نحو 
أنطاكية  بعد سنتين من ملكه ، وكان فيها عظماء جنود 
قيصر  ، فافتتحها ، ثم أمر أن تصور له 
مدينة أنطاكية  على ذرعها وعدد منازلها وطرقها ، وجميع ما فيها وأن يبتنى له على صورتها مدينة إلى  
[ ص: 111 ] جنب 
المدائن  ، فبنيت المدينة المعروفة 
برومية  على صورة 
أنطاكية  ، ثم حمل 
أهل أنطاكية  حتى أسكنهم إياها . فلما دخلوا باب المدينة مضى أهل كل بيت منهم إلى ما يشبه منازلهم التي كانوا [ فيها ] 
بأنطاكية  ، كأنهم لم يخرجوا عنها . 
ثم قصد 
مدينة هرقل  فافتتحها ، ثم 
الإسكندرية  وما دونها ، وخلف طائفة من جنوده 
بأرض الروم  ، بعد أن أذعن له 
قيصر  ، وحمل إليه الفدية ، ثم انصرف من 
الروم  فأخذ نحو 
الخزر  ، فأدرك منهم ما كانوا وتروه في رعيته ، ثم انصرف نحو 
عدن  فقتل عظماء تلك البلاد ، ثم انصرف إلى 
المدائن  ، وملك 
المنذر بن النعمان  على 
العرب  وأكرمه ، ثم سار إلى 
الهياطلة  مطالبا لهم [ بوتر ] جده 
فيروز  في القديم ، وبنى 
الإيوان  الموجود اليوم .