صفحة جزء
ومن الحوادث في زمن أنوشروان :

[ ص: 119 ] أن ملك اليمن لم يزل متصلا لا يطمح فيه طامح حتى ظهرت الحبشة على بلادهم في زمن أنوشروان .

قال هشام بن محمد : وكان سبب ظهورهم أن ذا نواس الحميري ملك اليمن في ذلك الزمان كان يهوديا ، فتقدم عليه يهودي [ من أهل نجران ] يقال له: دوس من أهل نجران فأخبره أن أهل نجران قتلوا له بنتين ظلما ، فاستنصره عليهم - وأهل نجران نصارى - فحمى ذو نواس اليهودية ، فغزا أهل نجران فأكثر فيهم القتل ، فخرج رجل من أهل نجران حتى قدم على ملك الحبشة فأعلمه بما نكبوا به ، وأتاه بالإنجيل قد أحرق النار بعضه ، فقال له: الرجال عندي كثير وليس عندي سفن ، وأنا كاتب إلى قيصر في البعثة إلي بسفن أحمل فيه الرجال: فكتب إلى قيصر في ذلك ، وبعث إليه بالإنجيل المحرق .

فبعث له قيصر بسفن كثيرة ، فبعث معه صاحب الحبشة سبعين ألفا من الحبشة وأمر عليهم رجلا من الحبشة يقال له: أرياط ، وعهد إليه: إن أنت ظهرت عليهم فاقتل ثلث رجالهم ، وأخرب ثلث بلادهم ، واسب ثلث نسائهم وأبنائهم ، فخرج أرياط ومعه جنوده وفي جنوده أبرهة الأشرم ، فركب البحر ، وسمع بهم ذو نواس ، فجمع إليه حمير ومن أطاعه ومن قبائل اليمن فتناوشوا ، ثم انهزم ذو [ ص: 120 ] نواس ، ودخل أرياط بجموعه ، فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه وجه فرسه في البحر ، ثم ضربه فخاض فيه في ضحضاح حتى أفضى به إلى غمره فأقحمه ، فكان آخر العهد به .

ووطئ أرياط اليمن بالحبشة فقتل ثلث رجالها ، وأخرب ثلث بلادها ، وبعث إلى النجاشي بثلث سباياها ، فأقام أبرهة ملكا على صنعاء ومخاليفها ، ولم يبعث إلى النجاشي بشيء ، فقيل للنجاشي : إنه قد خلع طاعتك ، وإنه رأى أن قد استغنى بنفسه . فوجه إليه جيشا عليه أرياط ، فلما حل بساحته بعث إليه أبرهة : إنه يجمعني وإياك الدين والبلد ، والواجب علي وعليك [ أن ] تنظر لأهل بلادنا وديننا ، فإن شئت فبارزني ، فأينا ظفر بصاحبه كان الملك له ، ولم يقتل الحبشة فيما بيننا ، فرضي أرياط ، فأجمع أبرهة على المكر به ، فاتعدا موضعا يلتقيان فيه [ فأكمن أبرهة عبدا له يقال له: أرنجدة في وهدة قريب من الموضع الذي يلتقيان فيه ] ، فلما التقيا سبق أرياط فزرق أبرهة بحربته ، فزالت الحربة عن رأسه وشرمت أنفه ، فسمي: أبرهة الأشرم ، ونهض الكمين من الحفرة فزرق أرياط فأنفذه وقتله .

فقال لأرنجدة: احتكم . [ ص: 121 ] فقال: لا تدخل امرأة باليمن على زوجها حتى يبدأ بي . قال: لك ذلك . فغبر بذلك زمانا ، ثم إن أهل اليمن عدوا عليه فقتلوه . فقال أبرهة : قد آن لكم أن تكونوا أحرارا .

فبلغ النجاشي قتل أرياط ، فآلى ألا ينتهي حتى يريق دم أبرهة ويطأ بلاده ، وبلغ أبرهة آليته ، فكتب إليه: أيها الملك ، إنما كان أرياط عبدك ، وأنا عبدك ، قد هم علي يريد توهين ملكك ، وقتل جندك ، فسألته أن يكف عن قتالي ، إلى أن أوجه إليك رسولا ، فإن أمرته بالكف عني وإلا سلمت إليه جميع ما أنا فيه ، فأبى إلا أن يحاربني ، فحاربته ، فظهرت عليه ، وإنما سلطاني لك ، وقد بلغني أنك حلفت ألا تنتهي حتى تريق دمي ، وتطأ بلادي ، وقد بعثت إليك بقارورة من دمي وجراب من تراب بلادي ، وفي ذلك خروجك من يمينك ، فاستتم أيها الملك عندي يدك ، فإنما أنا عبدك ، وعزي عزك ، فرضي عنه النجاشي ، وأقره على عمله

التالي السابق


الخدمات العلمية