صفحة جزء
[استدعاء علي بن طراد إلى باب الحجرة]

وفي غداة يوم الجمعة الحادي والعشرين من جمادى الأولى: استدعى بأمر الخليفة علي بن طراد إلى [باب] الحجرة ، وأخرجت له خلع من ملابس الخاص ، ووقع له بنيابة الوزارة ، وكان نسخة التوقيع: "محلك يا نقيب النقباء من [ ص: 206 ] شريف الآباء وموضعك الحالي بالاختصاص والاختيار ما يقتضيه إخلاصك المحمود اختياره ، الزاكية آثاره توجب التعويل عليك في تنفيذ المهام ، والرجوع إلى استصوابك في النيابة التي يحسن بها القيام ، وجماعة الأولياء والأتباع مأمورون بمتابعتك وامتثال ما تصرفهم عليه من الخدم في إبدائك وإعادتك ، فاحفظ نظام الدين ، وتقدم إلى من جرت عادته بملازمة الخدمة وسائر الأعوان ، وتوفر على مراعاة ، الأحوال بانشراح صدر وفراغ بال ، فإن الإنعام لك شامل ، وبنيل آمالك كافل إن شاء الله" .

ثم تقدم الخليفة بعد مدة من عزل الوزير بإطلاقه إلى دار يمن ، وجمع بينه وبين أهله وولده وفعل معه الجميل .

ثم قدم أقضى القضاة أبو سعد الهروي من العسكر بهدايا من سنجر ومال ، وأخبر أن السلطان محمودا قد استوزر عثمان بن نظام الملك ، وقد [عول] عثمان على القاضي الهروي بأن يخاطب الخليفة في أن يستوزر أخاه أبا نصر أحمد بن نظام الملك ، وأنه لا يستقيم له وزارة وابن صدقة بدار الخلافة ، وقال: أنا أتقدم إلى من يحاسبه على ما نظر للسلطان فيه من الأعمال ويحاققه . وإن أراد المسالمة فالدنيا بين يديه ، فليتخير أي موضع أحب فليقم فيه ، فتخير ابن صدقة حديثة الفرات ليكون عند سليمان بن مهارش ، فأجيب وأخرج وحقر فوقع عليه يونس الحرمي ، وجرت له معه قصص وضمانات حتى وصل الحديثة ، ورأى في البرية رجلا فاستراب به ، ففتش فإذا معه كتاب من دبيس إلى يونس يحثه على خدمة الوزير أبي علي وكتاب باطن يضمن له إن سلمه إليه ستة آلاف دينار عينا وقرية يستغلها كل سنة ألفي دينار .

واستدعى أبو نصر أحمد بن نظام الملك في نصف رمضان من داره بنقيب النقباء علي بن طراد وابن طلحة صاحب المخزن ، ودخل إلى الخليفة وحده ، وخرج مسرورا ، وأفردت له دار ابن جهير بباب العامة ، وخلع عليه في شوال ، وخرج إلى الديوان وقرئ عهده وكان علي بن طراد بين يديه يأمر وينهى ، وأمر بملازمة مجلسه .

فأما حديث دبيس فقد ذكرنا ما تجدد بينه وبين الخليفة من الطمأنينة وأسباب [ ص: 207 ] الصلح ، فلما كان ثاني رمضان بعث طائفة من أصحابه فاستاقوا مواشي نهر الملك ، وكانت فيما قيل تزيد على مائة ألف رأس ، فبعث الخليفة إليه عفيفا الخادم يقبح له ما فعل ، فلما وصل إليه أخرج دبيس ما في نفسه وما عومل به من الأمور الممضة منها أنهم ضمنوا له هلاك ابن صدقة عدوه ، فأخرجوه من الضيق إلى السعة ، وأجلسوا ابن النظام في الوزارة شيئا فشيئا ورياء ، ومنها أنه خاطبهم في إخراج البرسقي من بغداد فلم يفعلوا ، ومنها أنهم وعدوه في حق أخيه منصور أنهم يخاطبون في إصلاح حاله وخلاصه من اعتقاله ، وأنه كتب إليه من العسكر أن انحراف دار الخلافة هو الموجب لأخذه ، ولو أرادوا إخراجه لشفعوا فيه فهم عفيف بمجادلته ، فلم يصغ دبيس إليه ، وقال له: قد أجلتكم خمسة أيام فإن بلغتم ما أريده وإلا جئت محاربا ، وتهدد وتوعد فبادر عفيف بالرحيل وأتت رجالة الحلة ، فنهبوا نهر الملك ، وافترشوا النساء في رمضان ، وأكلوا وشربوا ، فجاء عفيف فحكى للخليفة ما جرى .

وفي ذي الحجة: أخرج المسترشد السرادق ، ونودي النفير فأمير المؤمنين خارج إلى القتال عنكم يا مسلمين .

وغلا السعر ، فبلغ ثلاثة أرطال بقيراط ، وأمر المسترشد أن يتعامل الناس بالدراهم عشرة بدينار والقراضة اثني عشر بدينار .

وخرج الخليفة يوم الجمعة الرابع والعشرين من ذي الحجة من داره وعبر إلى السرادق ومعه الخلق .

قال المصنف: ولنذكر مبتدأ أمر هذا دبيس كما نفعل في ابتداء أمور الدول ، وذلك أن أول من نبغ من بيته مزيد ، فجعل إليه أبو محمد المهلبي وزير معز الدولة أبي الحسين بن بويه حماية سورا وسادها ، فوقع الاختلاف بين بني بويه ، وكان يحمي تارة ويغير أخرى ، وبعث به فخر الملك أبو غالب إلى بني خفاجة سنة القرعاء ، فأخذ الثأر [ ص: 208 ] منهم ومات ، فقام مقامه ابنه أبو الأعز دبيس ، وكان عائنا قل أن يعجب بشيء إلا هلك ، حتى إنه نظر إلى ابنه بدران ، فاستحسنه فمات ، وكان يبغض ابن ابنه صدقة ، وهو أبو دبيس هذا ، فعوتب في هذا ، فقال: رأيت في المنام كأنه قد بلغ أعنان السماء وفي يده فأس وهو يقلع الكواكب ويرمي بها إلى الأرض ووقع بعدها ولا شك أنه يبلغ المنزلة الزائدة وينفق في الفتن ويهلك أهل بيته ، وتوفي أبو الأعز وخلف ثمانين ألف دينار ، فولى مكانه ابنه منصورا ، ثم مات ، فولي ابنه صدقة ، فأقام بخدمة السلطان ملك شاه ، ويؤدي إليه المال ويقصد بابه كل قليل ، فلما قتل النظام استفحل أمره وأظهر الخلاف ، وعلم أن حلته لا تدفع عنه فبنى على تل بالبطيحة ، وعول على قصده ، أن دهمه عدو أو أمر وأن يفتح البثوق ويعتصم بالمياه وأخذ على ابن أبي الخير موثقا على معاضدته ، ثم ابتاع من عربه مكانا هو على أيام من الكوفة ، فأنفق عليه أربعين ألف دينار ، وهو منزل يتعذر السلوك إليه وعمر الحلة ، وجعل عليها سورا وخندقا ، وأنشأ بساتين وجعل الناس يستجيرون به ، فأعطاه المستظهر دار عفيف بدرب فيروز ، فغرم عليها بضعة عشر ألف دينار وتقدم الخليفة بمخاطبته بملك العرب ، وكان قد عصى السلطان بركيارق ، وخطب لمحمد ، فلما ولي محمد صار له بذلك جاه عند محمد وقرر مع أخيه بركيارق أن لا يعرض لصدقة ، وأقطعه الخليفة الأنبار ، ودمما ، والفلوجة ، وخلع عليه خلعا لم تخلع على أمير قبله ، فأعطاه السلطان واسطا ، وأذن له في أخذ البصرة وصار يدل على السلطان الإدلال الذي لا يحتمله ، وإذا وقع إليه رد التوقيع أو أطال مقام الرسول على مواعيد لا ينجزها ، وأوحش أصحاب السلطان أيضا وعادى البرسقي ، وكان يظهر بالحلة من سب الصحابة ما لا يقف عند حد ، فأخذ العميد ثقة الملوك أبو جعفر فتاوى فيما يجب على من سب الصحابة ، وكتب المحاضر فيما يجرى في بلد ابن مزيد من ترك الصلوات ، وأنهم لا يعرفون الجمعة والجماعات ويتظاهرون بالمحرمات ، فأجاب الفقهاء بأنه لا يجوز الإغضاء عنهم ، وأن من قاتلهم فله أجر عظيم ، وقصد العميد باب السلطان [ ص: 209 ] وقال: إن حال ابن مزيد قد عظمت ، وقد قلت فكرته في أصحابك ، وقد استبد بالأموال ، وأهمل الحقوق ولو نفذت بعض أصحابك ملكته ، ووصلت إلى أموال كثيرة عظيمة ، وطهرت الأرض من أدناسه فإنه لا يسمع ببلده أذان ولا قرآن وهذه المحاضر باعتقاده والفتاوى بما يجب عليه وهذا سرخاب قد لجأ إليه وهو على رأيه في بدعته التي هي مذهب الباطنية ، وكان قد اتفقا على قلب الدولة وإظهار مذهب الباطنية ، وكان السلطان قد تغير على سرخاب ، فهرب منه إلى الحلة فتلقاه بالإكرام فراسله السلطان وطالبه بتسليمه ، فقال: لا أفعل ولا أسلم من لجأ إلي ، ثم قال لأولاده وأصحابه بهذا الرجل الذي قد لجأ إلينا تخرب بيوتنا وتبلغ الأعداء منا المراد ، وكان كما قال ، فإن السلطان قصده فاستشار أولاده ، فقال دبيس: هذا الصواب أن تسلم إلي مائة ألف دينار وتأذن لي في الدخول إلى الإصطبلات ، فأختار منها ثلاثمائة فرس وتجرد معي ثلاثمائة فارس فإني أقصد باب السلطان وأعتذر عنك وأزيل ما قد ثبت في نفسه منك ، وأخدمه بالمال والخيل ، وأقرر معه أن لا يتعرض بأرضك ، فقال بعض الخواص: الصواب أن لا تصانع من تغيرت فيك نيته ، وإنما ترد بهذه الأموال من يقصدنا ، فقال صدقة: هذا هو الرأي ، فجمع عشرين ألفا من الفرسان ، وثلاثين ألفا من الرجالة ، وجرت الوقعة على ما سبق في كتابنا في حوادث تلك السنة ، وذكرنا أن الخليفة بعث إلى صدقة ليصلح ما بينه وبين السلطان فأذعن ثم بدا له ، وقد ذكرنا مقتله .

ثم نشأ له دبيس هذا ففعل القبائح ، ولقي الناس منه فنون الأذى ، وبشؤمه بطل الحج في هذه السنة لأنه كان قد وقعت وقعة بينه وبين أصحابه وأهل واسط ، فأسر فيها مهلهل الكردي ، وقتل فيها جماعة ، ونفذ المسترشد إليه يحذره من إراقة الدماء ، ويأمره بالاقتصار على ما كان لجده من البلاد ، ويشعره بخروجه إليه إن لم يكف ، فزاد في طغيانه وتواعد وأرعد ، وأقبلت طلائعه فانزعج أهل بغداد ، فلما كانت بكرة الثلاثاء ثالث شوال صلب البرسقي تسعة أنفس ، ذكر أنهم من أهل حلب والشام ، وأن دبيس بن [ ص: 210 ] صدقة أرسلهم لقتل البرسقي في تاسع ذي القعدة وضرب الخليفة سرادقه عند رقة ابن دحروج ، ونصب هناك الجسر ، ثم بعث القاضي أبو بكر الشهرزوري إلى دبيس ، ينذره ، وكان من جملة الكلام: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا 17: 15 فاحتد وغضب ، وكانت فرسانه تزيد على ثمانية آلاف ، ورجالته عشرة آلاف ، فأمر القاضي أبا بكر بمشاهدة العسكر فصلى المسترشد يوم الجمعة رابع عشرين ذي الحجة ونزل راكبا من باب الغربة مما يلي المثمنة ، وعبر في الزبزب وعليه القباء والعمامة وبردة النبي صلى الله عليه وسلم على كتفيه ، والطرحة على رأسه ، وبيده القضيب ، ومعه وزيره أحمد بن نظام الملك والنقيبان وقاضي القضاة الزينبي ، وجماعة الهاشميين والشهود والقضاة والناس ، فنزل بالمخيم وأقام به إلى أن انقضى الشهر ، أعني ذا الحجة .

التالي السابق


الخدمات العلمية