صفحة جزء
ثم دخلت سنة ثلاثين وخمسمائة

فمن الحوادث فيها:

أن الراشد خلع على بكبه الشحنة خلعة تامة وعلى العميد وذلك يوم السبت غرة المحرم

[وصول الخبر بقتل دبيس]

ووصل الخبر بقتل دبيس فتعجب من تقارب موت المسترشد وقتل دبيس ، وتفكروا في أن قتل المسترشد كان سبب قتله ، لأنهم إنما كانوا يتركونه ليكون في وجه المسترشد .

وفي ثامن عشر المحرم وصل عفيف بجند ، ووصل برنقش الزكوي بجند ، وقال لأمير المؤمنين: اعلم أنه قد جاء في أمور صعبة منها أنه مطالب بخط كتبه المسترشد لمسعود ليتخلص بمبلغ هو سبعمائة ألف دينار ، ومطالب لأولاده صاحب المخزن بثلاثمائة ألف ، ومقسط على أهل بغداد خمسمائة ألف ، وذلك من الأمور الصعبة . فلما سمع الراشد بذلك استشار أرباب الدولة فأشاروا عليه بالتجنيد ، فكتب الخليفة إلى برنقش : أما الأموال المضمونة فإنما كانت لإعادة الخليفة إلى داره سالما وذلك لم يكن ، وأنا مطالب بالثأر ، وأما مال البيعة فلعمري إلا أنه ينبغي أن تعاد إلى أملاكي وإقطاعي حتى يتصور ذلك ، وأما ما تطلبونه من العامة فلا سبيل إليه وما بيننا إلا السيف .

ثم أحضر الشحنة وخلع عليه وأعطاه ثلاثة آلاف دينار ، وقال: دون بهذه عسكرا [ ص: 306 ] وجمع العساكر وبعث إلى برنقش يقول له: قد علمنا في أي أمر جئت ، وقد كنا تركنا البلد مع الشحنة والعميد ولم نعارضهما فلما جئت أنت بهذه الأمور الصعبة فما بيننا وبينك إلا الممانعة ، وانزعج أهل بغداد وباتوا تحت السلاح ، وحفظ [أهل] البلد ، ونقل الناس إلى دار الخليفة ودار خاتون ، وقيل للخليفة: إنهم قد عزموا على كبس البلد [وقت الصلاة فركب العسكر ، وحفظ الناس البلد] ، وقطع الجسر وحمل إلى باب الغربة وجرى في أطراف البلد قتال شديد ثم أصبح العسكر قد انقشعوا عن البلد ، وأصبح الناس يتشاغلون بعمارة السور .

وفي مستهل صفر: وصل زنكي وبرنقش البازدار وإقبال وإياز صاحب محمود وعليهم ثياب العزاء ، وحسنوا للراشد الخروج فأجابهم ، واستوزر أبا الرضا ابن صدقة واجتمعوا على حرب مسعود ، وجاء داود بن محمود بن محمد وأقام بالمزرفة .

فلما كان يوم الثلاثاء رابع صفر دخل داود دار المملكة ، وأظهر العدل فبعث الراشد أرباب الدولة إليه ومعهم هدية ، فقام ثلاث مرات يقبل الأرض .

ووصل صدقة بن دبيس في ثاني عشر صفر ، وقبل الأرض بإزاء التاج ، وقال: أنا العبد ابن العبد قد جئت طائعا لأمير المؤمنين ، وكان ابن خمس عشرة سنة .

فلما كان يوم الجمعة رابع عشر صفر: قطعت خطبة مسعود وخطب لداود ، وقبض على إقبال الخادم ونهب ماله وانزعج العسكر لأجله ونفذ زنكي ، وقال: هذا جاء في صحبتي وبقولي ولا بد من الإفراج عنه . ووافقه على ذلك البازدار ، وغضب كجبه فمضى إلى زنكي فرتب مكانه غيره واستشعر كله وخافوا ، وجاء أصحاب البازدار فخربوا عقد السور وأشرف البلد على النهب وغلا السعر ، وجاء زنكي فضرب بإزاء التاج ، وسأل في إقبال سؤالا تحته إلزام ، فأطلق فخرج يوم الاثنين من باب العامة وعلى رأسه قلنسوة كبيرة سوداء وعليه فروة في زي المكارية ، فمضى إلى زنكي فوقعت [ ص: 307 ] الصيحة في الدار ، وأخذ أستاذ الدار والبوابون ووكل بهم ، وقيل: كيف جرى هذا؟

وكان السلطان مسعود قد أفرج عن أرباب الدولة ، وهم: الوزير علي بن طراد ، وابن طلحة ، وقاضي القضاة ، ونقيب الطالبيين أبو الحسن بن المعمر ، وسديد الدولة ابن الأنباري ، فأما النقيب فتوفي حين حط من القلعة ، وأما قاضي القضاة فانحدر إلى بغداد ، فدخل على غفلة وأقام الباقون حتى وردوا مع مسعود إلى العراق .

وكان قبض الراشد على أستاذ داره أبي عبد الله بن جهير ، وقيل إنه وجدت له مكاتبات إلى دبيس ، فقوي استشعار الناس وخافوا من الراشد .

وفي يوم الخميس ثاني عشر ربيع الأول مضى الموكب إلى زنكي ، وعاد سوى الوزير وصاحب الديوان ، فمن الناس من يقول: قبض عليهما ، ومنهم من يقول: إنه خلا بهما وعنفهما ، وقال: ما هذا الرأي؟ فقال أبو الرضا ما يقبل مني والآن فقد استجرت بك فما لي رأي في العود ، فقال اجلس فأنت آمن على نفسك ومالك ، ثم نفذ زنكي إلى الراشد يقول: أريد المال الذي أخذ من إقبال ، وهو دخل الحلة ، وذاك مال السلطان ونحن نحتاج إلى نفقة ، وتردد القول في ذلك ثم نفذ الراشد إلى ابن صدقة: "كل ما أشير به يفعل ضده ، وقد كان هذا الخادم إقبال بإزاء جميع العسكر وأشرت أن لا يقبض عليه ، فما قبل وأنا لا أوثر أن تتغير الدولة وينسب إلي فإن هذا الملعون ابن الهاروني قصده إساءة السمعة [وهلاك المسلمين ] وهو السبب في جميع ما جرى" .

فقبض على ابن الهاروني يوم الخميس ثامن عشر ربيع الأول ، وجاء رسول زنكي فلقي الخليفة [وشكا ] مما جرى من ابن الهاروني وتأثيراته في المكوس والمواصير ، وقال: الخادم يسأل أن يسلم إليه ليتقرب إلى الله بدمه ، فقال له: ندبر في ذلك ، ثم تقدم في بكرة الأحد حادي عشرين الشهر إلى أبي الكرم الوالي بقتله ، فقتل في الرحبة وصلب على خشبة قصيرة ومثل به العوام ، فلما جن الليل أخذه أهله وعفوا أثره ، وظهرت له من الأموال والأثاث وأواني الذهب والفضة أمر عظيم ، ووصل إلى الخليفة من ماله مائتا ألف وكانت له ودائع عند القضاة والتجار . [ ص: 308 ]

وفي ثاني ربيع الآخر: قطعت جميع أموال الوكلاء ، وكان السبب أن زنكي طلب من الخليفة مالا يجهز به العسكر ليحدرهم إلى واسط ، فقال الخليفة: البلاد معكم وليس معي شيء فاقطعوا البلاد ، ثم استقر أن يدفع إلى زنكي ثلاثين ألفا مصانعة عن البلاد ويرد إليهم .

وفي سادس عشر هذا الشهر: بات الحرس تحت التاج يحفظونه استشعارا من زنكي ، ثم إن زنكي أشار على ابن صدقة أن يكون وزير داود ، فأجاب فخلع عليه وولي أبو العباس بن بختيار الماندائي قضاء واسط ، واستوثق زنكي باليمين من الراشد ، ثم جاء فعاهده وقبل يده وبعث الخليفة إلى أبي الرضا بن صدقة ، فأشار عليه بالعود فجاء ففوض الأمور كلها إليه ، ثم تقدم إلى السلطان داود والأمراء إلى قتال مسعود ، وهم:

ألبقش ، وزنكي ، والبازدار ، وبكبه ، فساروا فوصلهم الخبر أن مسعودا رحل يطلب العراق ، فبعث الراشد فرد الأمراء والسلطان وضرب نوبتيته واستحلفهم ، وقال: أريد أن أخرج معكم ، وكان ذلك في يوم الثلاثاء ثاني عشرين شعبان ، فلما كان يوم الأربعاء سلخ شعبان خرج الراشد فركب في الماء وصعد مما يلي باب المراتب ، وسار الناس بين يديه حتى نزل السرادق ثم جدد اليمين على الأمراء ، فلما كان بعد يومين أشار عليه زنكي بأن يضرب عند جامع السلطان على دجلة ففعل ، فلما كان عشية الأحد رابع رمضان جاء جاسوس لزنكي ، فقال: قد عزم القوم على الكبسة ، فرحل هو وأصحابه والخليفة ، وضربوا داخل السور ، وخرج هو في الليل جريدة سبعة آلاف ليضرب عليهم ، فرحلوا عن ذلك المنزل وأصبح الناس على الخوف وتسلح العامة وعملوا في السور ، وكان الأمراء ينقلون اللبن على الخيل منهم البازدار وبكبه وهما نقضاه ، وجاءت ملطفات إلى جميع الأمراء من مسعود فأحضروها جميعا وجحد ذلك شحنة بغداد ، وكتب جوابها إلى مسعود فأخذه زنكي فغرقه . [ ص: 309 ]

وفي يوم الخميس ثامن رمضان: أخرجوا من دار الخليفة مصراعين حديدا ، فحملت على العجل إلى هناك ونصبت على باب الظفرية في السور ، فلما كان عشية الأحد حادي عشرين رمضان مضى من أصحاب مسعود جماعة فنزلوا قريبا من المزرفة ، فعبر إليهم زنكي فهربوا .

فلما كان يوم الأربعاء جاء عسكر كثير إلى باب السور ، فخرج إليهم رجالة وخيل ووقع القتال وجاء جماعة من الأمراء من عند مسعود إلى الخليفة يستأمنون فقبلهم وخلع عليهم ، وكان زنكي لا يستخدمهم ، ويقول: استريحوا من تعبكم حتى ينقضي هذا البيكار .

وفي عشرين رمضان: وصل رسول من عند مسعود يطلب الصلح ، يقول: أنا الخادم ، فقرئت الرسالة على الأمراء فأبوا إلا المحاربة ، وكثر العيارون وأخذوا المال قهرا ، وجلسوا في المحال يأخذون من البزازين .

وبكر الناس لصلاة العيد مستهل شوال إلى جامع القصر ، ولم يخرج موكب كما جرت العادة بل عيدوا داخل السور موضع المخيم بل إن الطبول ضربت كما جرت العادة داخل الدار وعلى باب الدار ليلة العيد ، وعيد كل إنسان في مخيمه ، وعيد الخليفة على باب السرادق ، وكان الخطيب ابن التريكي ، ونفذ إلى كل أمير ما يخصه من المأكول من غير أن يمدوا سماطا .

ووصل في هذا اليوم أصحاب مسعود إلى الرصافة فدخلوها ودخلوا الجامع فكسروا أبوابه ونهبوا ما كان فيه من رحل المجاورين وكسروا شبابيك الترب وبالغوا في الفساد .

وفي يوم السبت ثاني شوال: وقع بين أهل باب الأزج والمأمونية وقتل منهم ثلاثة ، ثم كثر فساد العيارين ففتكوا وقتلوا حتى في الظفرية ، ودخلوا إلى دكاكين البزازين يطالبونهم بالذهب ويتهددونهم بالقتل فرتب شحنة بغداد ، ونصبت شحنات [ ص: 310 ] بالمحال ، ورتب على كل محلة شحنة ، وأقيم له نزل على أهل المحلة فضجوا وقالوا:

ما برحنا من العيارين .

[وفي يوم الاثنين رابع شوال: جاء مسعود في خمسة آلاف فارس على غفلة ، وخرج الناس للقتال] .

التالي السابق


الخدمات العلمية