صفحة جزء
ذكر الحوادث في سنة أربعين من مولده صلى الله عليه وسلم

فيها: قتل كسرى أبرويز النعمان بن المنذر:

فإنه غضب عليه فقتله قبل المبعث بتسعة أشهر .

وكان السبب: أنه كان عند ملوك الأعاجم صفة من النساء مكتوبة عندهم ، وكانوا يبعثون بتلك الصفة إلى الأرضين ، غير أنهم لم يكونوا يتناولون أرض العرب بشيء من ذلك ، فبدا للملك أن يطلب النساء ، فكتب بتلك الصفة إلى الأرضين فقال زيد بن عدي لأبرويز : عند عبدك النعمان بن المنذر بنات عمه وأهل بيته أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة . قال: فتكتب فيهن .

قال: لا تفعل أيها الملك ، فإن شر شيء في العرب أنهم يتكرمون في أنفسهم عن العجم ، فأنا أكره أن يغيبهن .

فبعث به إليه ، فقال: إن الملك قد احتاج إلى نساء لأهله وولده ، وأراد كرامتك . فقال: أما في عين السواد وفارس ما تبلغون به حاجتكم؟ ويعني بالعين: البقر ، ثم كتب إلى كسرى: إن الذي طلب الملك ليس عندي ، فسكت [ ص: 333 ] كسرى على ذلك شهرا ، والنعمان يتوقع ويستعد ، حتى أتاه كتاب كسرى أن أقبل فللملك إليك حاجة ، فحمل سلاحه وما قدر عليه ، فلحق بجبل طيئ فأبت طيئ أن تمنعه ، وقالوا: لا حاجة لنا بمعاداة كسرى ولم يقبله غير بني رواحة بن عبس ، فنزل بطن ذي قار ، ثم رأى أنه لا طاقة له بكسرى فرحل إليه ، فلما بلغ كسرى مجيئه قال: اجعلوا على طريقه ألف جارية عذراء في قمص رقاق وغيبوا عنهن الناس إلا الخصيان ، فأقبل ينظر إليهن حتى وقف بين يدي كسرى وبينهما ستر [رقيق] فقال: إن الذي بلغك عني باطل: فقال كسرى ، حسبي ما سمع به الناس .

ثم أمر به فقيد وبعث إلى خانقين ، فلم يزل في السجن حتى وقع طاعون فمات به .

وقيل: بل رماه بين يدي الفيلة فداسته [حتى هلك] .

فقال الشاعر فيه:


لهفي على النعمان من هالك لم نستطع تعداد ما فيه     لم تبكه هند ولا أختها
حرقة واستعجم ناعيه     بين فيول الهند يخبطنه
مختبطا تدني نواحيه

.

وروى عبد الله بن عبد الحميد الدمشقي قال : كان للنعمان بن المنذر يومان : يوم بؤس ويوم كرم ، وكان لا يأخذ أحدا يوم بؤسه إلا قتله ، فأتي برجل يوم [ ص: 334 ] بؤسه ، فقال له ، أما علمت أن هذا يوم بؤسي!؟ قال: بلى . قال : فما حملك على ذلك وأنت تعلم أني أقتلك؟ قال: أيها الملك إن لي ابنة عم ميعادي وإياها اليوم ، فعرضت على نفسي أن أتخلف مع الحياة ، أو أخرج فأنال حاجتي وأقتل فاختارت الخروج مع القتل . قال النعمان: فاذهبوا به فاضربوا عنقه . فقال الرجل: أيها الملك دعني أذهب فأنال حاجتي وشأنك والقتل . قال: ومن يضمن لي أن ترجع إلي .

فالتفت إلى كاتب النعمان فقال: هذا يضمنني . قال: أتضمنه قال: نعم .

قال: إن [لم] يجيء قتلتك . قال: نعم .

فضرب له النعمان أجلا وخلى سبيله ، ثم إن الرجل أتى بعد ذلك فقال له النعمان: ما حملك على المجيء وأنت تعلم أني أقتلك؟ قال ، خفت أن يقال ذهب الوفاء . فالتفت إلى كاتبه وقال له: ما حملك على أن تضمن من لا تعرف وأنت تعلم أنه إن لم يعد قتلتك . قال: أيها الملك ، خفت أن يقال ذهب الكرم . قال النعمان:

وأنا أيضا أخاف أن يقال: ذهب العفو ، خلوا سبيله .

أخبرنا سعيد بن أحمد بن الحسن البنا قال: أخبرنا عاصم بن الحسن قال:

أخبرنا أبو الحسين بن بشران قال: حدثنا الحسين بن صفوان قال: أخبرنا أبو بكر القرشي قال: حدثني عبد الرحمن بن عبيد الله بن قريب الأصمعي قال: أخبرنا عمي قال: أخبرنا عامر بن عبد الملك قال:

خرج زياد حتى أتى حرقة ابنة النعمان بن المنذر ، وقد لبست المسوح ، فقال:

حدثيني عن أهلك ، فقالت: أصبحنا وما في العرب أحد إلا يرجونا أو يخافنا ، وأمسينا وما في العرب أحد إلا يرحمنا . [ ص: 335 ]

قال القرشي: وحدثني أحمد بن الوليد قال: أخبرنا أحمد بن زيد قال: أخبرنا علي بن حرملة ، عن مالك بن مغول ، عن الشعبي ، عن إسحاق بن طلحة قال:

دخلت على حرقة بنت النعمان ، وقد ترهبت في دير لها بالحيرة ، وهي في ثلاثين جارية لم ير مثل حسنهن . فقلت: يا حرقة ، كيف رأيت عثرات الملك؟ قالت: الذي نحن فيه اليوم خير مما كنا فيه أمس . ، وأنشدت تقول:


وبتنا نسوس الناس والأمر أمرنا     إذا نحن فيهم سوقة تتنصف .
فأف لدنيا لا يدوم نعيمها     تقلب أحيانا بنا وتصرف .

وذلك أنه لما هلك النعمان بن المنذر قيل لكسرى: إن ماله وبيته عند هانئ بن مسعود البكري ، فكتب إليه كسرى ليبعث ذلك إليه فأرسل إليه: ليس عندي مال .

فأعاد الرسول: قد بلغني أنه عندك . فقال: إن كان الذي بلغك كاذبا فلا تأخذ بالكذب ، وإن كان صادقا فذلك عندي أمانة ، والحر لا يسلم أمانته .

فعبر كسرى الفرات ودعا إياس بن قبيصة الطائي ، وكان قد أطعمه ثمانين قرية على شط الفرات ، فشاوره فقال: ما ترى؟ فقال: إن تطعني فلا يعلم أحد لأي شيء عبرت ، وقطعت الفرات ، فيرون أن شيئا من أمر العرب قد كرثك ولكن ترجع فتعرض عنهم وتبعث عليهم العيون حتى ترى منهم غفلة ، ثم ترسل قبيلة من العجم فيها بعض القبائل التي تلتهم من أعدائهم فيوقعون بهم .

فقال له كسرى : قد بلغني أنهم أخوالك [وأنت] لا تألوهم نصحا .

فقال إياس: رأي الملك أفضل . فبعث الهرمزان في ألفين من خيول الأعاجم ، وبعث ألفا من إياد ، وألفا من بهزى عليهم خالد البهزاني ، فلما بلغ بكر بن وائل خبر القوم أرسلوا إلى قيس بن مسعود بن هانئ بن مسعود ، فقدم ليلا ، فأتى مكانا خفيا [ ص: 336 ] من بطن ذي قار فنزله ، وأرسل إلى هانئ فقال: إنه قد حضر من الأمر ما ترى . فقال له:

أرسل إلي الحلقة وهي عشرة آلاف سكة ، وانثرها في بني شيبان . فقال له هانئ إنها أمانة! فقال قيس: إنكم إن هلكتم فسيأخذون الحلقة وغيرها ، وإن ظهرتم فما أقدرك على أن تأخذها من قومك فأخرجها فنثرها ، وأمرهم فنزلوا من بطن ذي قار بين الجهتين فقدمت الأعاجم عليهم ، وهم مستعدون ، فاقتتلوا ساعة فانهزمت الأعاجم .

وقيل: إن حديث ذي قار كان في سنة سبع من الهجرة ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية