صفحة جزء
ذكر الحوادث في السنة الرابعة من النبوة

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستر النبوة ويدعو إلى الإسلام سرا ، وكان أبو بكر [رضي الله عنه] يدعو أيضا من يثق به من قومه ممن يغشاه ، ويجلس إليه ، فلما مضت من النبوة ثلاث سنيننزل قوله عز وجل: فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين 15: 94 فأظهر الدعوة .

أخبرنا محمد بن أبي طاهر بإسناده إلى محمد بن سعد : أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثنا حارثة بن أبي عمران ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه قال:

أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاءه من عند الله ، وأن ينادي الناس بأمره ، وأن يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى ، وكان يدعو من أول ما أنزلت عليه النبوة ثلاث سنين مستخفيا ، إلى أن أمر بظهور الدعاء .

قال محمد بن عمر: وحدثني معمر ، عن الزهري ، قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام سرا وجهرا ، فاستجاب لله من شاء من أحداث الرجال وضعفاء الناس ، حتى كثر من آمن به ، وكفار قريش غير مكترثين لما يقول ، فكان إذا مر عليهم في مجالسهم يقولون: إن غلام بني عبد المطلب ليكلم من السماء . فكان كذلك حتى عاب آلهتهم [ ص: 365 ] التي يعبدونها دون الله ، وذكر هلاك آبائهم الذين ماتوا على الكفر ، فشنفوا لرسول الله عند ذلك وعادوه .

قال محمد بن عمر: وحدثني ابن موهب عن يعقوب بن عتبة قال:

لما أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم للإسلام ومن معه فشا أمرهم بمكة ، ودعا بعضهم بعضا كان أبو بكر يدعو ناحية سرا ، وكان سعيد بن زيد ، مثل ذلك ، وكان عثمان مثل ذلك ، وكان عمر بن الخطاب يدعو علانية ، وحمزة بن عبد المطلب وأبو عبيدة بن الجراح ، فغضبت قريش ، وظهر منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم الحسد والبغي .

قال محمد بن عمر: وحدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

كنت بين شر جارين: بين أبي لهب وعقبة بن أبي معيط ، إن كانا ليأتيان بالفروث فيطرحانها على بابي ، فيخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: يا بني عبد مناف ، أي جوار هذا . ثم يلقيه بالطريق . أو كما قالت .

أخبرنا عبد الحق بإسناد له ، عن طارق بن عبد الله المحاربي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة بسوق ذي المجاز وأنا في بياعة لي ، فمر وعليه حلة حمراء ، وهو ينادي بأعلى صوته: "يا أيها الناس ، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا" ورجل يتبعه بالحجارة قد أدمى كعبيه وعرقوبيه ، وهو يقول: يا أيها الناس لا تطيعوه ، فإنه كذاب . قلت: من هذا؟ قالوا: غلام بني عبد المطلب . قلت: فمن [هذا] الذي يتبعه يرميه بالحجارة؟ قالوا: هذا عمه عبد العزى - وهو أبو لهب - فلما ظهر الإسلام ، وقدم المدينة أقبلنا في ركب من الربذة حتى نزلنا قريبا من المدينة ، ومعنا ظعينة لنا [قال:] فبينا نحن قعود إذ أتانا رجل عليه ثوبان أبيضان فسلم . فرددنا عليه ، فقال: من [ ص: 366 ] أين أقبل القوم؟ قلنا: من الربذة . قال: ومعنا جمل أحمر . قال: تبيعوني جملكم؟ قلنا:

نعم . قال: بكم؟ قلنا: بكذا وكذا صاعا من تمر . قال: فما استوضعنا شيئا ، وقال: قد أخذته ، ثم أخذ برأس الجمل حتى دخل المدينة فتوارى عنا قليلا فتلاومنا بيننا فقلنا:

أعطيتم جملكم من لا تعرفونه ، فقالت الظعينة: لا تتلاوموا ، فقد رأيت وجه رجل ما كان ليحقركم ، ما رأيت وجه رجل أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه ، فلما كان العشاء أتانا رجل فقال: السلام عليكم ، أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم ، فإنه أمركم أن تأكلوا من هذا حتى تشبعوا وتكتالوا حتى تستوفوا . قال: فأكلنا حتى شبعنا ، واكتلنا حتى استوفينا ، فلما كان من الغد دخلنا المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب الناس وهو يقول: "يد المعطي العليا وابدأ بمن تعول ابنك وأباك وأختك وأخاك وأدناك وأدناك"
.

وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم الصفا فقال: "يا صباحاه" فاجتمعت إليه قريش ، فقالوا: ما لك؟ قال: أرأيتم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم ألا تصدقوني؟ قالوا: بلى . قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد . فقال أبو لهب: تبا لك ، ألهذا دعوتنا؟ فأنزل الله تعالى تبت يدا أبي لهب وتب 111: 1 إلى آخر السورة . وروى ابن عباس ، عن علي بن أبي طالب [رضي الله عنهما] قال: لما أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنذر عشيرتك الأقربين دعاني [رسول الله صلى الله عليه وسلم] فقال لي: "يا علي ، إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعا ، وعرفت أني متى أناديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره ، فصمت حتى أتاني جبريل فقال: يا محمد ، إنك إن لا تفعل ما تؤمر به يعذبك الله فاصنع لهم صاعا من طعام ، واجعل عليه رجل [ ص: 367 ] شاة ، واملأ لنا عسا من لبن ، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به . ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم له ، وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون ، فيهم أعمامه أبو طالب ، وحمزة ، والعباس ، وأبو لهب ، فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت له ، فجئت به فلما وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم جرة من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ، ثم قال: "خذوا باسم الله" فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة ، وما أرى إلا مواضع أيديهم وايم الله الذي نفس علي بيده ، إن كان الرجل [منهم] ليأكل ما قدمت لجميعهم . ثم قال: "اسق القوم" فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا جميعا ، وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله ، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن [يكلمهم] بدره أبو لهب الكلام ، فقال: سحركم صاحبكم - فتفرق القوم ، ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: "الغد يا علي إن هذا الرجل سبقني إلى ما سمعت من القول فأعد لنا من الطعام مثل ما صنعت ، ثم اجمعهم لي" . ففعلت وجمعتهم فأكلوا وشربوا ، ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا بني عبد المطلب ، إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به ، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه ، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي" ؟ فأحجم القوم ، فقلت وأنا أحدثهم سنا: أنا يا نبي الله . فقام القوم يضحكون . وذكر ابن جرير : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا صلوا ذهبوا إلى الشعاب واستخفوا من قومهم ، فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب من شعاب مكة ، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون فذاكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون ، حتى قاتلوهم ، فاقتتلوا فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلا من المشركين [بلحي جمل] فشجه فكان أول دم أهريق في الإسلام . [ ص: 368 ]

قال ابن إسحاق : ولما نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالإسلام لم يردوا عليه كل الرد ، حتى ذكر آلهتهم وعابها ، فلما فعل ذلك نادوه واجتمعوا على خلافه ، ومنعه عمه أبو طالب فمضى إلى أبي طالب رجال من أشرافهم: كعتبة ، وشيبة ، وأبي جهل ، فقالوا:

يا أبا طالب ، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا ، وعاب ديننا وسفه أحلامنا ، وضلل آباءنا ، فإما أن تكفه عنا ، وإما أن تخلي بيننا وبينه ، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه ، فنكفيكه . فقال لهم أبو طالب قولا رقيقا وردهم ردا جميلا ، فانصرفوا عنه ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه ، ثم شرى الأمر بينه وبينهم ، حتى تباعد الرجال وتضاغنوا ، فأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها ، وحض بعضهم بعضا عليه ، ثم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا: يا أبا طالب ، إن لك نسبا وشرفا ومنزلة فينا ، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا ، وإنا والله لا نصبر على شتم آبائنا وسفه أحلامنا ، وعيب آلهتنا حتى نكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين .

ثم انصرفوا عنه فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ، ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ، ولا خذلانه ، إلا أنه قال له: يا بن أخي ، إن قومك جاءوني فقالوا لي كذا وكذا ، فأبق [علي و] على نفسك ، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق . فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه خاذله ومسلمه ، وأنه قد ضعف عن نصرته ، فقال:

"والله يا عماه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ، ما تركته" ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام ، فلما ولى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يا بن أخي . فأقبل فقال: اذهب فقل ما أحببت ، فو الله لا أسلمك [لشيء] أبدا
. [ ص: 369 ]

وقال السدي: بعثوا رجلا إلى أبي طالب فقال له: هؤلاء مشيخة قومك يستأذنون عليك . فقال: أدخلهم . فلما دخلوا عليه قالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا ، فأنصفنا من ابن أخيك ، ومره فليكف عن شتم آلهتنا وندعه وإلهه . فبعث إليه أبو طالب ، فلما جاء قال: يا ابن أخي هؤلاء مشيخة قومك وسرواتهم ، وقد سألوك النصف أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك فقال: "يا عم ، أولا أدعوهم إلى ما هو خير لهم منها" ؟

قال: وإلى ما تدعوهم؟ قال: "أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم" فقال أبو جهل: ما هي وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها؟ قال:

"يقولون لا إله إلا الله" قال: فتفرقوا وقالوا سلنا غير هذه فقال: " [لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي] ما أسألكم غيرها" فغضبوا وقاموا [من عنده ، وقالوا:] لنشتمنك وإلهك الذي يأمرك بهذا . ونزل قوله تعالى وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم
. قال ابن إسحاق : فلما عرفت قريش أن أبا طالب لا يخذل رسول الله صلى الله عليه وسلم مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا: يا أبا طالب ، هذا عمارة بن الوليد أبهى فتى في قريش وأجمله ، فخذه فاتخذه ولدا ، وسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك ، وفرق جماعة قومك ، وسفه أحلامهم ، فنقتله فإنما رجل كرجل فقال: والله لبئس ما تسومونني ، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟! هذا والله ما لا يكون أبدا . فقال مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكرهه ، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا . فقال أبو طالب لمطعم: والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك . قال: فجنت الحرب حينئذ وتنابذ القوم ووثب كل قبيلة على من فيها من [ ص: 370 ] المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم ، ومنع الله رسوله منهم لعمه أبي طالب ، وقام أبو طالب في بني هاشم وبني عبد المطلب فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه ، فاجتمعوا إليه ، وقاموا معه فأجابوا إلى ما دعاهم إليه من الدفع عن رسول الله ، إلا ما كان من أبي لهب ، فلما رأى أبو طالب من قومه ما سره من جدهم وحدتهم عليه جعل يذكر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانه فيهم ليسدد لهم رأيهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية