صفحة جزء
فصل

قال مؤلف الكتاب : ولما خرج المسلمون إلى الحبشة ومنع الله تعالى نبيه عليه السلام بعمه أبي طالب ، ورأت قريش أن لا سبيل لهم عليه رموه بالسحر والكهانة والجنون ، وقالوا: شاعر ، ثم بالغوا في أذاه .

فمما فعلوه:

ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: حضرت قريشا وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر ، فذكروا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فقالوا: ما رأينا مثل ما صرنا إليه من هذا الرجل ، قد سفه أحلامنا ، وشتم آباءنا وعاب آلهتنا - وقيل: ديننا - وفرق جماعتنا وسب آلهتنا ، لقد صبرنا منه على أمر عظيم ، فبينما هم كذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن ، ثم مر طائفا بالبيت ، فلما مر غمزوه ببعض القول ، قال فعرفت ذلك في وجه رسول الله ، ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه [بمثلها] فعرفت ذلك في وجه رسول الله ، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها فوقف فقال:

"ألا تسمعون يا معاشر قريش ، أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح" .

قال: فأخذت القوم كلمته حتى ما بينهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع ، وحتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليلقاه بأحسن ما كان يجد من القول حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم راشدا ، فو الله ما كنت جهولا .

فانصرف رسول الله حتى إذا كان من الغد اجتمعوا [في الحجر] وأنا معهم . [ ص: 379 ]

فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه ، فبينما هم كذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ لما [كان] يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم ، فيقول رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : "نعم أنا الذي أقول ذلك" فلقد رأيت رجلا منهم أخذ مجمع ردائه ، وقام أبو بكر دونه وهو يقول:
أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله . ثم انصرفوا [عنه]
. أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قال: أخبرنا أحمد بن جعفر قال:

حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر بن أبي خيثم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس :

أن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر فتعاهدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى: لو قد رأينا محمدا قمنا إليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى نقتله ، فأقبلت فاطمة تبكي حتى دخلت على أبيها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فقالت: هؤلاء الملأ من قريش من قومك في الحجر قد تعاهدوا أن لو رأوك قاموا إليك يقتلونك ، فليس معهم رجل إلا قد عرف نصيبه من بدنك . فقال: "يا بنية أرني وضوءا" فتوضأ ، ثم دخل عليهم المسجد ، فلما رأوه قالوا: هو هذا ، هو هذا . فخفضوا أبصارهم وعقروا في مجالسهم فلم يرفعوا إليه أبصارهم ، ولم يقم منهم رجل فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام على رءوسهم فأخذ قبضة من تراب فحصبهم بها . وقال: "شاهت الوجوه" فما أصاب رجلا منهم حصاة إلا قتل يوم بدر كافرا . قال أحمد: وحدثنا علي بن عبد الله - هو ابن المديني - قال: أخبرنا الوليد بن مسلم قال: حدثني الأوزاعي قال: حدثني يحيى بن أبي كثير قال: حدثني محمد بن إبراهيم التيمي قال: حدثني عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص:

أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم . [ ص: 380 ]

قال: بينا رسول الله بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط ، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى به في عنقه ، فخنقه به خنقا شديدا ، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وقال:
أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ، وقد جاءكم بالبينات من ربكم
40: 28 .

قال أحمد: وحدثنا وهب بن جرير قال: أخبرنا شعبة عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش غير يوم واحد ، فإنه كان يصلي ورهط من قريش جلوس وسلا جزور قريب منهم فقالوا: من يأخذ هذا السلا فيلقيه على ظهره؟ فقال عقبة بن أبي معيط: أنا . فأخذه فألقاه على ظهره فلم يزل ساجدا حتى جاءت فاطمة فأخذته عن ظهره ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم عليك بالملإ من قريش ، اللهم عليك بعتبة بن ربيعة ، اللهم عليك بشيبة بن ربيعة . اللهم عليك بأبي جهل بن هشام ، اللهم عليك بعقبة بن أبي معيط ، اللهم عليك بأبي بن خلف" - أو أمية بن خلف" .

فقال عبد الله: فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر جميعا ، ثم سحبوا إلى القليب غير أبي - أو أمية - فإنه كان رجلا ضخما فتقطع .
أخرجه البخاري ومسلم . وانفرد بالذي قبله البخاري [رحمه الله] .

التالي السابق


الخدمات العلمية