صفحة جزء
فصل

قال ابن إسحاق : وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله بن إياس الخزاعي .

وقال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت غلاما للعباس [بن عبد المطلب ] ، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت ، وأسلمت أم الفضل ، وأسلمت ، وكان العباس يهاب قومه ، ويكره أن يخالفهم ، [وكان يكتم] إسلامه ، وكان ذا مال كثير متفرق . فلما جاء الخبر عن مصاب أهل بدر [من قريش] وجدنا في أنفسنا قوة وعزا ، فوالله إني لجالس في حجرة زمزم أنحت القداح ، وعندي أم الفضل جالسة ، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر ، إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر ، فجلس ، فأقبل أبو سفيان بن الحارث ، فقال له أبو لهب: هلم إلي يا ابن أخي ، فعندك الخبر ، فأقبل فجلس إليه ، فقال: أخبرني كيف كان أمر الناس ، قال: لا شيء ، والله إن كان إلا لقيناهم ، فمنحناهم أكتافنا ، يقتلون ويأسرون كيف شاءوا ، وايم الله مع ذلك ما لمت الناس ، لقينا رجالا [ ص: 123 ] بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض ، ما [تليق شيئا ، ولا] يقوم لها شيء .

قال أبو رافع: فقلت: فتلك الملائكة ، فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة ، فثاورته ، فاحتملني ، فضرب بي الأرض ثم برك علي يضربني ، فقامت أم الفضل إلى عمود فضربته به ضربة شجته ، وقالت: تستضعفه أن غاب عنه سيده ، فقام موليا ذليلا ، فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى مات .

قال ابن إسحاق : وحدثني يحيى بن عباد ، عن أبيه ، قال: ناحت قريش على قتلاهم ، ثم قالوا: لا تفعلوا ذلك فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بنا ، ولا تبعثوا في فداء الأسارى حتى تستأنوا بهم لئلا يشتط عليكم في الفداء .

وكان الأسود بن عبد يغوث قد أصيب له ثلاثة من ولده: زمعة ، وعقيل ، والحارث ، وكان يحب أن يبكي [على] بنيه ، فسمع نائحة في الليل ، فقال لغلامه: انظر هل أحل النحيب؟ هل بكت قريش على قتلاها لعلي أبكي على زمعة ، فإن جوفي قد احترق . فقال الغلام: إنما هي امرأة على بعير لها قد أضلته .

وخرج مطلب بن وداعة بفداء أبيه ، فأخذه بأربعة آلاف درهم .

ثم خرج مكرز بن حفص في فداء سهيل بن عمرو ، فلما انتهى إلى رضاهم في [ ص: 124 ] الفداء ، قالوا: هات ، قال: ضعوا رجلي مكانه وخلوا سبيله يبعث إليكم بالفداء .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: افد نفسك وابني أخيك عقيل بن أبي طالب ، ونوفل بن الحارث ، وحليفك عتبة بن عمرو ، فإنك ذو مال . فقال: [يا رسول الله] إني كنت مسلما ولكن القوم استكرهوني ، فقال: الله أعلم بإسلامك إن يكن ما ذكرت حقا فالله يجزيك به ، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا ، وكان معه عشرون أوقية حين أخذ ، فقال: احسبها لي في فدائي ، قال: لا ، ذاك شيء أعطاناه الله عز وجل منك ، قال: فليس لي مال ، قال: فأين المال الذي وضعته بمكة حيث خرجت من عند أم الفضل ، ليس معكما أحد . ثم قلت لها: إن أصبت في سفري هذا فللفضل كذا وكذا ، ولعبد الله كذا وكذا ، ولقثم كذا وكذا ، ولعبيد الله كذا وكذا ، قال: والذي بعثك بالحق ما علم بهذا أحد غيري وغيرها ، وإني أعلم أنك رسول الله حقا ، ففدى نفسه وابني أخيه وحليفه .

وكان في الأسارى أبو العاص بن الربيع ، زوج زينب ، وكانت زينب قد آمنت برسول الله ، فأقام أبو العاص على شركه معها ، فخرج يوم بدر فأسر ، فبعثت زينب في فدائه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص ، حين بنى بها ، فلما رآها رسول الله رق لها رقة شديدة ، وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها ، وتردوا عليها الذي لها فافعلوا ، فقالوا: نعم يا رسول الله ، فأطلقوه ، وردوا عليها ذلك . وكان قد شرط لرسول الله أن يخلي سبيل زينب إليه ، فقدم أبو العاص مكة ، وأمر زينب باللحوق برسول الله ، فتجهزت وقدم إليها حموها كنانة بن الربيع وزوجها بعيرا فركبته ، وأخذ قوسه وكنانته ، وخرج بها نهارا يقود بها ، وهي في الهودج ، فتحدث بذلك رجال قريش ، فخرجوا في طلبها فأدركوها بذي طوى ، فأول من سبق إليها هبار بن [ ص: 125 ] الأسود بالرمح ، وكانت حاملا ، فألقت حملها ، ونزل حموها فنثر كنانته ، وقال ، والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهما ، فرجع الناس عنه ، فجاء أبو سفيان ، فقال ويحك قد عرفت مصيبتنا ثم خرجت بالمرأة علانية ، فيظن الناس أن ذلك عن ذل منا ، ولعمري ما لنا حاجة في حبسها عن أبيها ، ولكن ردها ، فإذا هدأ الصوت ، وتحدث الناس أنا قد رددناها ، فسلها سرا فألحقها بأبيها ، ففعل وأقام أبو العاص بن الربيع بمكة ، وزينب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، قد فرق بينهما الإسلام ، حتى إذا كان قبيل الفتح ، خرج أبو العاص تاجرا ، فلما لحقته سرية لرسول الله ، فأصابوا ما معه وهرب ، فأقبل تحت الليل حتى دخل على زينب فاستجار بها ، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح صاحت زينب: أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع ، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أقبل عليهم ، فقال: هل سمعتم ما سمعت ، قالوا: نعم ، قال: والذي نفسي بيده ما علمت بشيء كان حتى سمعت منه ما سمعتم ، إنه يجير على المسلمين أدناهم . ثم دخل على ابنته ، فقال: أي بنية أكرمي مثواه ، ولا يخلص إليك ، فإنك لا تحلين له .

وقال للسرية التي أصابت ماله: إن تحسنوا تردوا عليه ، وإن أبيتم فهو فيء ، وأنتم أحق به ، قالوا: بل نرده فردوه .

ثم ذهب إلى مكة فرد ما للناس عنده من مال ، ثم قال: يا معشر قريش ، هل بقي لأحد منكم عندي مال ، قالوا: لا ، قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، والله ما منعني من الإسلام إلا خوفا أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم ، ثم خرج فقدم على رسول الله .

قال ابن عباس : فرد رسول الله زينب بالنكاح الأول ، لم يحدث شيئا بعد ست سنين .

وفي رواية أخرى ردها بنكاح جديد .

قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة ، قال: جلس [ ص: 126 ] عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية بعد مصاب أهل بدر من قريش بيسير ، وهو في الحجر ، وكان عمير شيطانا من شياطين قريش ، وكان يؤذي رسول الله وأصحابه ، وكان ابنه وهيب بن عمير في أسارى بدر ، فذكر أصحاب القليب ومصابهم ، فقال صفوان: والله إن ليس في العيش خير بعدهم ، فقال له عمير: صدقت والله أما والله لولا دين علي ليس عندي قضاؤه ، وعيال أخشى عليهن الضيعة لركبت إلى محمد حتى أقتله ، فإن لي قبلهم علة ابني أسير في أيديهم .

فقال صفوان: فعلي دينك أنا أقضيه عنك ، وعيالك مع عيالي أسوتهم ما بقوا ، قال عمير: فاكتم علي شأني وشأنك ، قال أفعل .

ثم إن عميرا أمر بسيفه فشحذ له وسم ، ثم انطلق حتى قدم المدينة ، فرآه عمر قد أناخ بعيره على باب المسجد متوشحا السيف ، فقال: هذا عدو الله عمير ما جاء إلا لشر ، وهو الذي حرش بيننا ، وحزرنا للقوم يوم بدر ، ثم دخل عمر على رسول الله ، فقال: يا نبي الله ، هذا عدو الله عمير ، قد جاء متوشحا ، قال: فأدخله علي .

قال: فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه ، قال: أرسله يا عمر ، ادن يا عمير ، فدنا ثم قال: أنعموا صباحا ، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أكرمنا الله بتحية خيرا من تحيتك يا عمير ، بالسلام ، تحية أهل الجنة ، ما جاء بك يا عمير" ؟ قال: جئت لفداء الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه ، قال: فما بال السيف في عنقك قال: قبحها الله من سيوف ، وهل أغنت عنا شيئا ، قال: اصدقني بالذي جئت له ، قال: ما جئت له ، قال: ما جئت إلا لذلك ، قال: بلى ، قعدت أنت وصاحبك صفوان بن أمية في الحجر ، فذكرت ما أصاب أصحاب القليب من قريش ، ثم قلت: لولا دين علي وعلي عيال لخرجت حتى أقتل محمدا ، فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني ، والله عز وجل حائل بيني وبينك .

فقال عمير: أشهد أنك رسول الله ، قد كنا نكذبك ، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان ، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله ، فالحمد لله الذي هداني للإسلام ، وساقني هذا المساق . ثم تشهد شهادة الحق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقهوا أخاكم في دينه ، وعلموه القرآن ، وأطلقوا له أسيره . [ ص: 127 ]

ففعلوا ، ثم قال يا رسول الله ، إني كنت جاهدا في إطفاء نور الله ، شديد الأذى لمن كان على دين الله ، وإني أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام ، لعل الله أن يهديهم ، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم .

فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلحق بمكة ، وكان صفوان حين خرج عمير بن وهب يقول لقريش: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام تنسيكم وقعة بدر . وكان صفوان يسأل عنه الركبان حتى قدم راكب فأخبره بإسلامه ، فحلف أن لا يكلمه أبدا ، ولا ينفعه بنفع أبدا ، فلما قدم مكة أقام بها يدعو إلى الإسلام ، ويؤذي من خالفه ، فأسلم على يديه ناس كثير .

التالي السابق


الخدمات العلمية