صفحة جزء
وفي هذه السنة كانت غزوة الخندق وهي غزوة الأحزاب

قال مؤلف الكتاب: كانت في ذي القعدة ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أجلى [ ص: 228 ] بني النضير ساروا إلى خيبر ، فخرج نفر من أشرافهم ووجوههم إلى مكة ، فالتقوا قريشا ودعوهم إلى الخروج ، واجتمعوا معهم على قتاله ، وواعدوهم لذلك موعدا ، ثم خرجوا من عندهم فأتوا غطفان وسليم ففارقوهم على مثل ذلك ، وتجهزت قريش وجمعوا أحابيشهم ومن تبعهم من العرب ، فكانوا أربعة آلاف ، وعقدوا اللواء في دار الندوة ، وحمله عثمان بن طلحة بن أبي طلحة ، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس ، وألف وخمسمائة بعير ، وخرجوا يقودهم أبو سفيان ووافتهم بنو سليم بمر الظهران ، وهم سبعمائة يقودهم سفيان بن عبد شمس ، وخرجت معهم بنو أسد يقودهم طلحة بن خويلد وخرجت فزارة وهم ألف ، يقودهم عقبة بن حصين ، وخرجت أشجع وهم أربعمائة يقودهم مسعود بن رخيلة ، وخرجت بنو مرة ، وهم أربعمائة يقودهم الحارث بن عوف .

وروى الزهري أن الحارث رجع ببني مرة ، فلم يشهد الخندق منهم أحد ، والأول أثبت .

وكان جميع من وافوا الخندق [ممن ذكر] من القبائل عشرة آلاف ، وهم الأحزاب ، وكانوا ثلاثة عساكر ، والجملة بيد أبي سفيان ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فصولهم من مكة ، ندب الناس ، وأخبرهم خبرهم وشاورهم ، فأشار سلمان الفارسي بالخندق ، فأعجب ذلك المسلمين وعسكر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سفح سلع ، وجعل سلعا خلف ظهره ، وكان المسلمون يومئذ ثلاثة آلاف واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم . ثم خندق على المدينة ، وجعل المسلمون يعملون مستعجلين يبادرون قدوم عدوهم ، وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم بيده لينشطوا ، ففرغوا منه في ستة أيام .

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد ، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت ، قال: [ ص: 229 ]

أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله ، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن ، قال: حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي ، قال: أخبرنا هوذة بن خليفة ، قال: أخبرنا عوف ، عن ميمون ، قال: حدثني البراء بن عازب ، قال: لما كان حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق ، عرضت لنا في بعض الخندق صخرة عظيمة شديدة لا تأخذ فيها المعاول ، قال: فشكينا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآها ألقى ثوبه وأخذ المعول وقال: بسم الله ، ثم ضرب ضربة ، فكسر ثلثها ، وقال: الله أكبر! أعطيت مفاتيح الشام ، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة ، ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر ، فقال: الله أكبر! أعطيت مفاتيحفارس ، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض ، ثم ضرب الثالثة ، وقال: بسم الله ، فقطع بقية الحجر ، وقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن ، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة . قال علماء السير : وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لثماني ليال مضين من ذي القعدة ، وكان لواء المهاجرين مع زيد بن حارثة ، ولواء الأنصار مع سعد بن عبادة ، ودس أبو سفيان بن حرب حيي بن أخطب إلى بني قريظة يسألهم أن ينقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكونوا معهم عليه ، فامتنعوا ثم أجابوا ، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل ، وفشل الناس وعظم البلاء واشتد الخوف وخيف على الذراري والنساء ، وكانوا كما قال الله تعالى: إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر . [ ص: 230 ]

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف ، وهما قائدا غطفان ، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه ، وكتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ، وإنما كانت مراوضة ومراجعة ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ ، وابن عبادة فأخبرهما بذلك فقالا: هذا شيء تحبه أو [شيء] أمرك الله به ، قال: لا ، بل أصنعه لأجلكم ، فإن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ، فقالا: قد كنا نحن وهم على الشرك ، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة ، فحين أذن الله بالإسلام نفعل هذا؟! ما لنا إلى هذا حاجة ، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا ، قال: فأنتم وذاك ، فتناول سعد الصحيفة التي كتبوها فمحاها ، وقال: ليجهدوا علينا ، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وجاه العدو لا يزولون ، غير أنهم يعتقبون خندقهم ويحرسونه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث سلمة بن أسلم في مائتي رجل ، و زيد بن حارثة في ثلاثمائة رجل يحرسون المدينة ويظهرون التكبير ، وكانوا يخافون على الذراري من بني قريظة ، وكان عباد بن بشر على حرس قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عشرة من الأنصار يحرسونه كل ليلة ، فكان المشركون يتناوبون بينهم ، فيغدو أبو سفيان يوما ، ويغدو خالد بن الوليد يوما ويغدو عمرو بن العاص يوما ، ويغدو هبيرة بن أبي وهب يوما ، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوما ، ويغدو ضرار بن الخطاب يوما ، فلا يزالون يجيلون خيلهم ويتفرقون مرة ويجتمعون أخرى ، ويناوشون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقدمون رماتهم فيرمون ، فرمى حبان بن العرقة سعد بن معاذ بسهم ، فأصاب أكحله ، فقال: خذها وأنا ابن العرقة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عرق الله وجهك في النار" ، ويقال: الذي رماه أبو أسامة الجشمي .


أخبرنا محمد بن أبي طاهر البزاز ، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري ، قال:

أخبرنا ابن حيويه ، قال: أخبرنا أحمد بن معروف ، قال: أخبرنا ابن الفهم ، قال: أخبرنا محمد بن سعد [أخبرنا يزيد بن هارون] . [ ص: 231 ]

وأخبرنا عاليا بن الحصين ، قال: أخبرنا ابن المذهب ، قال: أخبرنا ابن مالك ، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي ، قال: أخبرنا يزيد بن هارون ، قال أخبرنا محمد بن عمرو بن علقمة ، عن أبيه ، عن جده ، عن عائشة ، قالت: خرجت يوم الخندق أقفو آثار الناس ، فسمعت وئيد الأرض من ورائي - يعني حس الأرض - فالتفت فإذا أنابسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل رمحه ، فجلست إلى الأرض ، فمر سعد وهو يرتجز ، ويقول:


لبث قليلا يدرك الهيجا حمل ما أحسن الموت إذا حان الأجل

قالت: وعليه درع قد خرجت منه أطرافه ، فأنا أتخوف على أطراف سعد ، وكان سعد من أطول الناس وأعظمهم قالت: فقمت فاقتحمت حديقة ، فإذا فيها نفر من المسلمين فيهم عمر بن الخطاب ، وفيهم رجل عليه تسبغة له - تعني المغفر – قالت: فقال لي عمر: ما جاء بك؟ والله إنك لجريئة ، وما يؤمنك أن يكون تحوز أو بلاء؟ قالت:

فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت [ساعتئذ] فدخلت فيها ، قالت:

فرفع الرجل التسبغة عن وجهه ، فإذا طلحة بن عبيد الله ، فقال: ويحك يا عمر إنك قد أكثرت منذ اليوم ، وأين التحوز وأين الفرار إلا إلى الله؟ قالت: ويرمي سعدا رجل من المشركين من قريش يقال له ابن العرقة [بسهم ، فقال: خذها وأنا ابن العرقة] فأصاب أكحله ، فدعا الله عز وجل سعد ، فقال: اللهم لا تمتني حتى تشفيني من قريظ - وكانوا مواليه وحلفاءه في الجاهلية - قالت: فرقأ كلمه ( وبعث الله تعالى [ ص: 232 ] الريح على المشركين ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان الله قويا عزيزا .

قال مؤلف الكتاب : العرقة أم حبان بن عبد مناف بن منقد بن عمر ، وسميت العرقة لطيب ريحها .

قال علماء السير : لما حام الأحزاب حول الخندق أياما أجمع رؤساؤهم أن يغدوا يوما ، فغدوا جميعا ، وطلبوا مضيقا من الخندق يقحمون فيه خيلهم فلم يجدوا ، فقالوا: إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تصنعها ، فقيل لهم: إن معه رجلا فارسيا فهو أشار عليه بذلك ، فصاروا إلى مكان ضيق فعبر عكرمة ونوفل وضرار وهبيرة ، وعمرو بن عبد ود ، فجعل عمرو يدعو إلى البراز ، وهو ابن تسعين سنة ، فقال علي رضي الله عنه:

أنا أبارزه ، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم سيفه وعممه ، وقال: "اللهم أعنه عليه" ، فضربه علي فقتله ، وولى أصحابه هاربين ، وحمل الزبير على نوفل فقتله
. أنبأنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب ، قال: أخبرنا ابن المسلمة ، قال:

أخبرنا أبو طاهر المخلص ، قال: أخبرنا أحمد بن سلمان بن داود ، قال: أخبرنا الزبير بن بكار ، قال:

عمرو بن عبد ود ، وضرار بن الخطاب ، وعكرمة بن أبي جهل ، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة هم الذين طفروا الخندق يوم الأحزاب ، وفي ذلك يقول الشاعر :


عمرو بن ود كان أول فارس     جزع المزاد وكان فارس يليل

قال مؤلف الكتاب: المزاد ، موضع من الخندق فيه حفر ، ويليل ، واد قريب من بدر . [ ص: 233 ]

ولما جزع عمرو بن عبد المزاد دعي البراز ، وقال يرتجز:


ولقد بحجت من الندا     ء بجمعكم : هل من مبارز
ووقفت إذ جبن الشجا     ع بموقف البطل المناجز
إني كذلك لم أزل     متسرعا نحو الهزاهز
إن الشجاعة والسماحة     في الفتى خير الغرائز

فبرز له علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ثم أجابه يقول:


لا تعجلن فقد أتا     ك مجيب صوتك غير عاجز
ذو نية وبصيرة     والصدق منجي كل فائز
إني لأرجو أن أقيـ     ـم عليك نائحة الجنائز
من ضربة فوهاء يبقى     ذكرها عند الهزاهز

ثم دعاه أن يبارزه ، فقال له علي: يا عمرو إنك كنت عاهدت الله لقريش لا يدعوك رجل إلى خلتين إلا أخذت إحداهما ، قال عمرو: نعم ، قال علي رضي الله عنه:

فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام ، فقال: لا حاجة لي بذلك ، قال: فإني أدعوك إلى المبارزة . قال: يا ابن أخي ، والله ما أحب أن أقتلك ، فقال له علي: لكني والله أنا أحب أن أقتلك؛ فحمي عمرو واقتحم عن فرسه وعرقبه ، ثم أقبل فتناورا وتجاولا وثارت عليهما غبرة سترتهما عن المسلمين ، فلم يرع المسلمين إلا التكبير ، فعرفوا أن عليا رضي الله عنه قتله ، فانجلت الغبرة وعلي على صدره يذبحه . [ ص: 234 ]

قال علماء السير: لما قتل عمرو رثته أمه ، فقالت:


لو كان قاتل عمرو غير قاتله     ما زلت أبكي عليه دائم الأبد
لكن قاتله من لا يقاد به     من كان يدعى أبوه بيضة البلد

ثم تواعدا أن يأتوا من الغد ، فباتوا يعبئون أصحابهم ونحوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة غليظة فيها خالد بن الوليد ، فقاتلوهم يومهم ذلك إلى هوي من الليل ما يقدرون أن يزولوا عن مكانهم ، ولا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ظهرا ولا عصرا حتى كشفهم الله عز وجل ، فرجعوا منهزمين ، فلم يكن لهم بعد ذلك قتال - يعني انصرفوا - إلا أنهم لا يدعون الطلائع بالليل يطمعون في الغارة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم الذي فاتته الصلاة فيه: "شغلونا عن الصلاة الوسطى" . أخبرنا هبة الله بن محمد ، قال: أخبرنا الحسن بن علي ، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر ، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي ، قال: أخبرنا أبو معاوية ، قال: أخبرنا الأعمش ، عن مسلم بن صبيح ، عن شتير بن شكل ، عن علي قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى [صلاة] العصر ، ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا" ، ثم صلاها بين [العشاءين] ، المغرب والعشاء . أخرجاه في الصحيحين .

وحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بضع عشرة ليلة ، وقيل: أربعا وعشرين ليلة ، حتى خلص إلى كل أمر منهم الكرب . ودعي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الأحزاب .

ويروى في مسجد الفتح .

أخبرنا هبة الله بن محمد ، قال: أخبرنا ابن المذهب ، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر ، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي ، قال: أخبرنا أبو عامر ، قال:

أخبرنا كثير بن زيد ، قال: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، قال:

حدثني جابر: [ ص: 235 ]

أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في مسجد الفتح ثلاثا: يوم الاثنين ، ويوم الثلاثاء ، ويوم الأربعاء [فاستجيب له يوم الأربعاء] بين الصلاتين ، فعرف البشر في وجهه . قال جابر: فلم ينزل بي أمر مهم [غليظ] إلا توخيت تلك الساعة ، فأدعو فيها فأعرف الإجابة .

قالوا: وكان نعيم بن مسعود الأشجعي قد أسلم وحسن إسلامه ، فمشى بين قريش وقريظة وغطفان فخذل بينهم .

فأنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي ، قال: أخبرنا الجوهري ، قال: أخبرنا ابن حيويه ، قال: أخبرنا أحمد بن معروف ، قال: أخبرنا الحسن بن الفهم ، قال: أخبرنا محمد بن سعد ، قال: أخبرنا محمد بن عمر .

وبه قال أخبرنا عبد الله بن عاصم الأشجعي ، عن أبيه ، قال: قال نعيم بن مسعود: لما سارت الأحزاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سرت مع قومي وأنا على ديني ، فقذف الله في قلبي الإسلام ، فكتمت ذلك قومي ، وأخرج حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء فأجده يصلي ، فلما رآني جلس ، وقال: "ما جاء بك يا نعيم" ؟ وكان بي عارفا ، قلت: إني جئت أصدقك ، وأشهد أن ما جئت به حق ، فمرني بما شئت ، قال: "ما استطعت أن تخذل عنا الناس [فخذل] ، قلت: أفعل ، ولكن يا رسول الله أقول ، قال: "قل ما بدا لك فأنت في حل" ، قال: فذهبت إلى قريظة ، فقلت: اكتموا علي ، قالوا:

نفعل ، فقلت: إن قريشا وغطفان على الانصراف عن محمد صلى الله عليه وسلم إن أصابوا فرصة انتهزوها وإلا انصرفوا إلى بلادهم ، فلا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا منهم رهناء ، قالوا:

أشرت علينا والنصح لنا ، ثم خرجت إلى أبي سفيان بن حرب ، فقلت: قد جئتك بنصيحة فاكتم علي ، قال: أفعل ، قلت: تعلم أن قريظة قد ندموا على ما فعلوا فيما بينهم وبين محمد ، صلى الله عليه وسلم وأرادوا إصلاحه ومراجعته ، فأرسلوا إليه وأنا عندهم إنا سنأخذ من قريش وغطفان سبعين رجلا من أشرافهم نسلمهم إليك ، تضرب أعناقهم ونكون معك على قريش وغطفان حتى نردهم عنك ، وترد جناحنا الذي كسرت إلى [ ص: 236 ] ديارهم - يعني بني النضير - فإن بعثوا إليكم يسألونكم رهنا فلا تدفعوا إليهم أحدا واحذروهم ، ثم أتى غطفان ، فقال لهم مثل ذلك ، وكان رجلا منهم فصدقوه ، وأرسلت قريظة إلى قريش : إنا والله ما نخرج فنقاتل محمدا صلى الله عليه وسلم حتى تعطونا رهنا منكم [يكونون] عندنا ، فإنا نتخوف أن تنكشفوا وتدعونا ومحمدا ، فقال أبو سفيان: صدق نعيم .

وأرسلوا إلى غطفان بمثل ما أرسلوا إلى قريش ، فقالوا لهم مثل ذلك ، وقالوا جميعا: إنا والله ما نعطيكم رهنا ولكن اخرجوا فقاتلوا معنا . فقالت اليهود: نحلف بالتوراة أن الخبر الذي قال نعيم لحق ، وجعلت قريش وغطفان يقولون: الخبر ما قال نعيم ، ويئس هؤلاء من نصر هؤلاء ، وهؤلاء من نصر هؤلاء . واختلف أمرهم وتفرقوا في كل وجه ، وكان نعيم يقول: أنا خذلت بين الأحزاب حتى تفرقوا في كل وجه ، وأنا أمين رسول الله صلى الله عليه وسلم على سره
.

قال علماء السير: فلما استوحش كل فريق من صاحبه ، اعتلت قريظة بالسبت ، فقالوا: لا نقاتل ، وهبت ليلة السبت ريح شديدة ، فقال أبو سفيان: يا معشر قريش إنكم والله لستم بدار مقام ، لقد هلك الخف والحافر ، وأجدب الجناب وأخلفتنا بنو قريظة ، و [لقد] لقينا من الريح ما ترون فارتحلوا فإني مرتحل ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بحضرته أحد من العساكر قد انقشعوا ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة لينظر ما فعل القوم .

فروى مسلم في أفراده من حديث إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي ، عن أبيه ، قال: كنا عند حذيفة ، فقال رجل: لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت ، فقال حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك ، لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة وقر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا رجل يأتينا بخبر القوم ، جعله الله معي يوم القيامة" فسكتنا فلم يجبه أحد ، ثم قال: "ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة" فسكتنا ولم يقم قائم ، فقال: "قم يا حذيفة" فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي إلا أن أقوم ، قال: "اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم علي" ، فلما وليت من عنده جعلت [ ص: 237 ] كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم ، فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار ، فوضعت سهمي في كبد القوس فأردت أن أرميه ، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تذعرهم علي" فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام ، فلما أتيته أخبرته خبر القوم وفرعت وقررت ، فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها ، فلم أزل نائما حتى أصبحت ، قال صلى الله عليه وسلم: "قم يا نومان" .

وقد رواه ابن إسحاق عن يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي قال: قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله ، رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه ، قال: نعم يا ابن أخي ، قال: كيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد ، فقال الفتى:

والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على وجه الأرض ولحملناه على أعناقنا ، فقال حذيفة:

يا ابن أخي ، والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق يصلي هويا من الليل ، ثم التفت إلينا ، فقال: "من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم [ثم يرجع] " وشرط له أنه إذا رجع أدخله الله الجنة ، فما قام رجل ، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويا من الليل ، ثم التفت إلينا فقال مثل ذلك ، ثم قال: "أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة" . فما قام أحد من شدة الخوف والجوع والبرد ، فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن لي بد من القيام ، فقال: يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ما يفعلون . فذهبت فدخلت في القوم والريح [وجنود الله] تفعل بهم ما تفعل فلا تترك قدرا ولا نارا ، ولا بناء . فقام أبو سفيان ، فقال: يا معشر قريش ، لينظر امرؤ جليسه ، فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى [ ص: 238 ] جنبي ، فقلت: من أنت؟ فقال: أنا فلان بن فلان ، ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام ، [لقد] هلك الكراع والخف ولقينا من هذه الريح ما ترون ، فارتحلوا [فإني مرتحل] . فرجعت ، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم
:

قال ابن إسحاق: لم يقتل يوم الخندق من المسلمين إلا ستة نفر ، وقتل من المشركين ثلاثة

التالي السابق


الخدمات العلمية